35 عاما حافلة بالذكريات في أول مساجدها.. الشيخ عبد الوهاب أقدم عربي في كوريا
إعداد ياسين الكزباري
تفاجأ الشيخ الدكتور عبد الوهاب زاهد الحلبي الندوي في مطار كوريا الجنوبية لأول مرة عام 1984 بشكل كبير، عندما وجد نفسه أمام أناس صفر البشرة ذوي عيون ضيقة آسيوية، وليسوا ذوي بشرة سمراء وشفاه ممتلئة كما كان يتوقع. لقد كان يظن نفسه متجها إلى دولة أفريقية! وهكذا بدأت قصته مع كوريا الجنوبية بهذا الموقف الطريف.
وعن سبب مجيئه، يحكي الشيخ عبد الوهاب مفتي المسلمين في كوريا الجنوبية، قائلا: “كنت أعمل باحثا في الموسوعة الفقهية لوزارة الأوقاف الكويتية، وفي اجتماع مع وزير الأوقاف الدكتور أحمد سعد الجاسر -حفظه الله- ذكر أن وزيرا كوريا طلب منه إرسال أحد العلماء لتعريف الكوريين بالإسلام، فرفعت يدي وقلت إنني مستعد للذهاب لتلك البلاد، لكن الوزير رفض في البداية، فألححت حتى وافق”.
في سفوح الهيمالايا
كان الشاب العشريني عبد الوهاب زاهد قرر عام 1968 أن يسافر إلى مدينة لوكناو الهندية العريقة الراسخة على سفوح الهيمالايا كتحفة أثرية، ليتلقى العلوم الشرعية على يد المفكر والداعية الهندي أبي الحسن الندوي، وعن ذلك يحكي “حينما دخلت ندوة العلماء في الهند، كان مولانا أبو الحسن مسافرا، وحين أخبِرت بوصوله إلى المدينة خرجت لأشهد موكبه، لكني فوجئت بأنه رحمه الله كان يركب ركشة (تك تك)، فتعجبت من تواضعه وبساطته، رغم عظمة مكانته العلمية وشهرته في العالم الإسلامي”.
بين يدي الندوي
وهناك أمضى الشيخ عبد الوهاب أكثر سنوات حياته العلمية تشويقا، وعن ذلك يقول: “اهتم بي الشيخ أبو الحسن اهتماما خاصا، وعلى يديه درست التفسير العظيم لابن كثير، ثم وجهني إلى كبار علماء الهند، فحفظت موطأ مالك بإجازة مولانا حبيب الله بالامبوري كبير محدثي الهند، والكتب الستة على مولانا محمد إسحاق الندوي”.
ويذكر الشيخ عبد الوهاب أن المفتي محمد ظهور الندوي أجازه في الفقه، ثم أرسله إلى المحدث المحقق حبيب الرحمن الأعظمي، فأقام في منزله وقرأ عليه الكتب الستة، ثم أرسله إلى دار العلوم في ديوبند، فدرس على الشيخ فخر الدين أحمد الديوبندي، ودرس الفقه والتفسير على الشيخ محمد طيب رحمهم الله أجمعين.
من الهند إلى الأزهر
ويضيف “ثم بعد الهند توجهت إلى باكستان، وأخذت الإجازة في الفقه والحديث عن كبار علمائها، كما حصلت على الماجستير بالرتبة الأولى من جامعة كراتشي، ثم الدكتوراه في الفقه المقارن من جامعة السند في حيدر آباد”، وهناك ألّف الشيخ عبد الوهاب كتاب “فقه الأئمة الأربعة”، ثم توجه إلى مصر وتخرج في كلية أصول الدين بالأزهر.
وبعد ذلك، عمل الشيخ عبد الوهاب إماما وخطيبا لجامع البختي في حلب، ثم مدرسا بدائرة الإفتاء في المدينة نفسها، ثم مديرا للمدرسة الشرعية في عفرين، ثم أستاذا للفقه الإسلامي في جامعة أم القرى بمكة المكرمة وكلية الشريعة في الطائف، ثم رئيسا لقسم الدراسات العليا في الجامعة الفاروقية في كراتشي بباكستان.
وعام 1980، عُرض عليه القضاء الشرعي لإمارة أبو ظبي، لكنه خشي من ثقل مسؤولية القضاء، فاعتذر عنها.
الإسلام في كوريا الثمانينيات
وصل الشيخ عبد الوهاب إلى كوريا الجنوبية وكانت حينها دولة تعاني استبداد العسكر، واقتصادا أضعف من جلّ الدول العربية، وكانت تتلقى مساعدات غذائية من الأمم المتحدة، وكان أهلها غير معتادين على رؤية الأجانب.
ويحكي للجزيرة نت: “كان أكثر الأجانب حضورا في كوريا (الجنوبية) هم الجنود الأميركيون، المعروفون بقاماتهم الطويلة، وكان يعتقد عموم الكوريين أن بقية شعوب العالم مثل هؤلاء الجنود. وذات مرة زرت إحدى البلدات، فإذا برجل يمشي بجانبي ويقول متعجبا لأصحابه: انظروا هذا أجنبي قامته مثل قامتنا!”.
وعن تلك الأيام الأولى، يقول: “كان عدد المسلمين الكوريين معدودا على أطراف الأصابع، فعملت إلى جانب إمام مسجد سول الحاج محمد يون، وهو أول من أسلم من الكوريين على يد الإمام التركي زبير كوش، إمام اللواء التركي الذي شارك في الحرب الكورية في الخمسينيات، وصبري سو وهو كذلك من أوائل المسلمين. وبعد عام، توفيا رحمهما الله، فصليت عليهما ودفنتهما”.
ويضيف أنه واصل العمل مع سليمان لي وقمر الدين مون، اللذين شكلا معه فريقا دعويا، وصاروا يجوبون البلاد شرقا وغربا، وينظمون لقاءات تعريفية بالإسلام.
طفل أول من أسلم
وفي لقاء عام 1985، أنهى حديثه عن الإسلام، فتقدم إليه طفل ذو 12 عاما، وقال له: “لقد أحببت الإسلام، أريد أن أصبح مثلك مسلما!”، فعجب منه، وقال له: “اسأل والدتك أولا”، فقالت أمه: “إنه حر، الخيار له”. ويضيف الشيخ: “فلما علمته الشهادتين، تقدمت أمه أيضا لتسلم، ثم تبعهما آخرون وأعلنوا إسلامهم”.
من مصنع حاسوب إلى مسجد أبي بكر الصديق
وفي عام 1985، جاء رجل الأعمال المصري عبد اللطيف الشريف -رحمه الله- إلى كوريا بغرض شراء مصنع حاسوب، واستعان بالشيخ عبد الوهاب لمساعدته في مسعاه، ولما توطدت العلاقة بينهما اقترح على الشيخ أن يعمل معه على مشروع المصنع.
لكن الشيخ اعتذر لانشغاله بالدعوة، فعرض عليه نسبة من الأرباح، فاعتذر الشيخ أيضا، فإذا بالحاج عبد اللطيف يعرض عليه مبلغا ماليا كبيرا، كدليل على الجدية والصدق، فاعتذر الشيخ عبد الوهاب وقال له: “إذا أردت أن تخدمني فعندي طلب، لقد نشرنا الإسلام في مدينة لا يوجد فيها مسجد، فإن شئت تكفلت به”.
لم يتردد الحاج عبد اللطيف، وقدم ما يكافئ 600 ألف دولار لتأسيس مسجد أبي بكر الصديق في مدينة جونجو.
وفي المدينة المستلقية بوداعة على ضفة نهر رقراق، أقيم المسجد على إحدى التلال، وحوله تأسس مجتمع صغير من المسلمين الكوريين هو الأكثر تماسكا في البلاد، ولعل الفضل في ذلك يرجع لشخصية الشيخ الاجتماعية الودودة والمتواضعة، فحين زرته أول مرة قبل 3 سنوات، سرعان ما أحببته وأحببت جو المسجد، وأحببت بسببه المدينة كلها.
35 عاما في هذا المسجد
وحين سألت الشيخ عن سبب سكنه في المسجد، قال: “بيتي في مكان آخر، لكن قبل فترة عرضت جهة شراء المسجد، وقد تحمّس بعض المسلمين للفكرة، على أساس بناء مسجد آخر بدله، فقررت أن أنتقل للسكن فيه، كتعبير واضح عن رفضي القاطع للفكرة”.
ويضيف “لقد أمضيت في هذا المسجد 35 عاما، حافلة بالذكريات، ولن أفارقه إلى أن يتوفاني الله! وقد اشتريت هذا الأسبوع أرضا لأدفن فيها، ويدفن فيها من يموت بعدي من أسرتي”.
732 مسلما في 30 مسجدا
وقد أسلم في مسجد جونجو إلى اليوم 732 شخصا، وما يقاربها في كل مسجد من المساجد والمصليات التي أسسها الشيخ عبد الوهاب، وعددها 30.
ومن أشهر من أسلم على يديه عام 1985، السيد شين كبير قساوسة اتحاد الكنائس البروتستانتية، وصار اسمه عمر شين.
ومن قصص الإسلام اللطيفة، قصة رجل الأعمال ناصو يانغ، وعن ذلك يحكي الشيخ: “عرّفني عليه أحد الإخوة عام 1988، فصرنا نلتقي بشكل دوري ونتناقش في قضايا العقائد والأديان، وبعد نقاشات طويلة اقتنع بالإسلام، ولكنه لم يستطع اعتناقه خشية سخرية الناس.. واستمرت الزيارات والنقاشات، لكن دون جدوى”.
وذات مرة رافقه في السيارة إلى مدينة جونجو، وعن ذلك يقول الشيخ عبد الوهاب “سألته: إذا سلكنا طريقا معاكسا لوجهتنا، ثم انتبهنا بعد قطع مسافة طويلة، هل ترى يجب علينا قلب الاتجاه إلى الاتجاه الصحيح؟ فقال: بالتأكيد، ثم سألته: لكن ماذا لو سخر منا الناس حين نعكس الاتجاه بعد قطع كل تلك المسافة؟! فسكت مليا، ثم وصلنا إلى جونجو، وفي المسجد أعلن إسلامه، وأسميته مصطفى”.
تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول
انقلب العالم على المسلمين عشية 11 سبتمبر/أيلول 2001، ولم تكن كوريا الجنوبية استثناءً، خصوصا مع اتفاق الإعلام الغربي على إدانة الإسلام والمسلمين. ويستذكر الشيخ عبد الوهاب ذلك قائلا: “كان حادثا إرهابيا مؤلما، وكان ضمن الضحايا 28 مواطنا كوريا، فكان الخوض في الموضوع شديد الحساسية، وقد تشددت الإجراءات الأمنية على المساجد، كما توقف المسلمون الكوريون عن الحضور للمسجد”.
فقرر أن يساهم في تصحيح سوء الفهم، وتفرغ لتأليف كتابين “الإسلام دين السلام” و”معاملة المسلم لغير المسلم”، وطبعهما وخرج يوزعهما على الناس، بدءا من جيران المسجد، إلى الكنائس والدوائر الحكومية والشرطة وبعض الجنود الذين كلفوا بالحراسة داخل المساجد، ويؤكد للجزيرة نت: “الحمد لله كانت نتائج ذلك التحرك طيبة، حتى أن بعض الجنود داخل المسجد أسلموا”.
كتب بالعربية والإنجليزية والكورية
وإضافة إلى هذين الكتابين، ألّف الشيخ عبد الوهاب قرابة 30 كتابا بالعربية والإنجليزية والكورية، ورغم أنه أدرك الثمانين من العمر، فإن حماسته لم تنطفئ، إذ تجده مشاركا في مختلف الفعاليات، مخالطا الناس بمودة، ومخاطبا إياهم بحكمة تجمع ما فرقته السياسات وتصلح ما مزقته العصبيات، مبلغا رسالة الإسلام الحقيقية: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).
(المصدر: الجزيرة)