2020 وعام الرمادة لقضايا الأمة
بقلم أحمد التلاوي
في العامٍ 2006م، صدر للكاتب والمفكر الإسلامي المصري أمين هويدي، كتابٌ بعنوان “خيولنا التي لا تصهل.. مقالات في السياسة والتياسة”. كان الكتاب في عنوان ومحتواه ربما هو محاولة استشرافية مبكرة لما حدث في مرحلة ما ثورات ما يعرَف بالربيع العربي وتطورات شؤون الأمة العربية والإسلامية في مرحلة السيولة التي طالت في النظام الدولي بعد الحرب الباردة.
الكتاب كان يناقش عددًا من المقولات المركزية في حالنا السياسي والمجتمعي العربي والمسلم العام في الوقت الراهن، وعلى رأسها، لماذا تراجعت فاعلية خيولنا، أي لماذا تراجعت فاعلية الأمة في مواجهة خصومها وتحدياتها وقضاياها، وهل نحن بالفعل أممٌ ومجتمعات ليست مؤهلة بعد للديمقراطية كما يقول البعض.
وفي حقيقة الأمر، فإنَّ هناك الكثير من الأدبيات التي تناولت مبكرًا للغاية، حتى من قبل الانتكاسات التي وقعت في العالم العربي والإسلامي في السنوات الأخيرة، صورة التدهور الكبير الحاصل في أوضاع الأمة في الوقت الراهن، بحيث باتت قضايا عشرات الملايين من الناس المنتمين إلى بلدان الأمة، ربما مجرَّد سطور في نشرات الأخبار الدولية، وبقصد المتابعة في الغالب، لا أكثر!
وفي حقيقة الأمر؛ فإنَّ الأكثر أهمية بالفعل من الأزمات التي واجهتها الأمة في العام 2020م، هو لماذا لا تصهل خيولنا؛ حيث إنَّه من المفهوم والمنطقي أن يزداد استهداف عدوِّكَ لك، ولكن من غير المفهوم والمُتفهَّم مطلقًا، هو لماذا لا تتحرَّك أنت بالفاعلية الملائمة في مواجهته .
فالصراع الحضاري، واحدٌ من نواميس وقوانين العمران والاجتماع الإنساني، وهو راسخٌ وقديمٌ، ومنذ نشوء الأمة الإسلامية كدولة متمايزة وقوية له هويتها في شبه الجزيرة العربية، والصراع الحضاري بينها وبين الغرب، وكذلك مع إمبراطوريات الشرق القديم قبل دخول الإسلام إليها، قائمٌ.
ولكن كانت الأمة دائمًا قادرة على التصدِّي والمواجهة، والحفاظ على هويتها، بل وعلى نقل الصراع إلى أراضي خصومها، وحتى وإنْ انهزمت في جولة، كان سرعان ما تستجمع أشتات نفسها، وتنهض وتنتصر، كما في قرون الحملات الصليبية وغزوات المغول والتتار.
نقول ذلك، لأنَّ عام 2020م، كان عامًا حافلاً بالكثير من الأزمات والانتكاسات، وربما لم تفلت أزمةٌ واحدةٌ من فخ الفشل في التعامل من جانب المسلمين معها، باستثناء أزمة الرسوم الفرنسية المسيئة للرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، والتصريحات العنصرية المقيتة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن الإسلام والمسلمين.
وحتى هذه الأزمة، كان رد فعل المسلمين فيها، عبارة عن فورة حماسة فردية في الغالب، وإنْ كانت واسعة النطاق، سرعان ما انطفأت لأنَّها كانت في الأساس حملة على الوسائط الرقمية، ولم تنتقل إلى أرض الواقع، مع قِلَّة الفِعل المنظَّم من جانب المؤسسات الإسلامية، والغياب شبه الكُلِّي للمواقف الرسمية.
وبالتالي لم تستمر فاعلية وأثر حملات المقاطعة التي نهضت، في مقابل استمرار ورسوخ السياسات الرسمية الفرنسية التي أحاطت بهذا الأمر، وطالت الأقلية المسلمة هناك.
في المقابل؛ لم نرَ الكثير مِن الطحنِ في موضوعات تمس أرواح مئات الآلاف بل والملايين كما في حالة أقليتَيْ الروهينجيا والأويجور، كما تتدهور أوضاع الأقلية المسلمة في الهند في ظل حكم اليمين الشعبوي المتطرف هناك.
كما رأينا ما جرى في ملف التطبيع الرسمي الصهيوني العربي المتلاحِق، والذي فاق في وتيرته مع الدول الجديدة التي انضمت إلى قافلة التطبيع، بالذات الإمارات والبحرين، حتى وتيرته مع الدول العربية التي وقَّعت اتفاقيات صلحٍ مع الكيان الصهيوني، وهي مصر والأردن.
كما استمرت الصراعات البينية للدول العربية والإسلامية، وحتى داخل البلد الواحد؛ ففشلت بعض جهود المصالحات بينما –الطريف المبكي في الموضوع– أنَّ حرب أرمينيا وأذربيجان انتهت بعد ستة أسابيع فحسب، باتفاق سلام مُلزِم للطرفَيْن، ومدته المبدأية ثلاث سنوات، بينما لم تدُم أية هدنة في اليمن أو سوريا بأكثر من بضعة أيام!!
بالتأكيد لا يوجد ما ينقص الأمة لكي تكون على هذه الحالة المتردية، فهي أمةٌ تتسع حدودها وأفنيتها لتشمل كل معاني الثروة المادية والمعنوية، بدءًا من العقيدة وصولاً إلى الثروة البشرية والموارد الطبيعية، التي تُمكِّنُها من أنْ تصبح أقوى قوةٍ في العالم.
ولكن، وكما هي سُنَّة الخالق فينا، فإنَّ هناك أسبابًا لذلك، أهمها تفرُّق الأمة وتفككها إلى دولٍ تهيمن الاستبداديات الفاسدة على قرارها، أو طغيان القومية الشوفينية الضيقة عليهاـ مما أدى إلى تغييب مفهوم “قضايا الأمة” ذاته.
ولعل الكثير من الكتابات تناولت هذه المشكلة، ولكن قلَّةً منها وضع يده على الحلول الحقيقية؛ حيث استُغرِق الكثير منها في تناول الأحوال والأسباب القريبة، والبحث في كيفية مواجهة كلِّ مشكلة من هذه المشكلات وغيرها مما نعاني منه على حِدَة، بينما الأمر أعمق وأكبر من ذلك.
تقول الكاتبة والباحثة الإسلامية المصرية، الدكتورة نادية مصطفى، في مقدمتها لسلسة “قراءة في الفكر الحضاري لأعلام الأمة”:
“لسائر الأمم في تكويناتها التي تنهض على أعمدةٍ من عوالِم أفكارها، ومؤسساتها، ونظمها، ومواردها.. على رأس كُلِّ ذلك، عالَم أشخاصها. فالإنسان هو نواة الجماعة والأمة، والأمم برجالها وأعلامها الذين يُفَكِّرون بحزمٍ ويعملون بحزمٍ ويقودون الناس إلى ما فيه صلاحهم”.
تلخِّص هذه العبارة مفتاح الحل. فإنَّنا لو نجحنا في صناعة شخصية المسلم في عموم أنحاء الأمة، وفي مختلف مجتمعات المسلمين عبر العالَم، بناءً على المشترَكات القائمة بيننا، فإنَّه وقتها سوف نعالِج أكبر مشكلاتنا، وهي تفرُّق المواقف، وتبايُن الأولويات، وغياب مفهوم الانتماء الإسلامي وما يفرضه علينا من أمورٍ.
ولقد أبرز النجاح الجزئي المُتَحقِّق في أزمة الرسوم المسيئة الأخيرة مع فرنسا، أهمية ذلك؛ حيث إنَّ الوعي الجمعي لمفهوم “المسلم”، هو الذي قاد إلى حدوث ردَّة فعلٍ واسعة النطاق بمجرَّد اتفاق الناس على أخذ موقفٍ ما، فالموقف الفردي تحول تلقائيًّا لموقف عام، بسبب اتفاق الوعي الجمعي للمسلمين على توصيف الموقف، وعلى ما يجب أخذه في هذا الموقف.
وهذه العبارة تحمِّل علماء المسلمين ومفكريهم هذا العبء الأكبر؛ حيث إنَّ تأسيس هذا الوعي الجمعي يقتضي جهدًا تربويًّا ودعويًّا؛ لا يمكن بحال أنْ تتوافر مقاييسه ومواصفاته في المؤسسات الدينية الرسمية مهما كانت ، وكذلك في الحركات الإسلامية التي بات بعضها بفعل عوامل كثيرة، خارج نطاق مصداقية جموع المسلمين من خارج الصَّفِّ الحركي.
وبالتالي؛ فإنَّ أهم ما يجب توافره في المفكِّرين والعلماء في حالة أوضاعنا هذه، هو التجرُّد من أيَّة أهواء أو شبهات أو تبعية ، ولو تيسَّر ذلك؛ فإنَّنا لن نكون بحاجةٍ إلى تأسيس دولة إسلامية للوصول إلى حالة من الاتفاق العام لدى المسلمين حول قضايا الأمة، وحول واجبات الوقت، وسوف نرى دائمًا موقفًا واحدًا مُوَحَّدًا من المسلمين – من دون أي جهدٍ تعبويٍّ منظَّم – في أية عوائد أو أحداث تهم المسلمين والأمة المسلمة عبر العالم!
(المصدر: موقع بصائر)