بقلم منتصر الصواف
مثّل ظهور الشيخ محمد محمود الصواف على الساحة الإسلامية في العراق في الأربعينيات من القرن الماضي إرهاصات صحوة إسلامية ذات أسس تجديدية، وبأسلوب يتناسب والعصر الذي قاد فيه الحراك الإسلامي حينئذ.
أما زمن ما قبل الحركة التجديدية، التي عمل الشيخ الصواف على انبعاثها في ربوع الرافدين، فكان متمثلاً بحضور إسلامي، ولكنه مغاير للخط ذي الرؤية الشاملة للإسلام الذي دعا إليه.
كانت هناك آنئذٍ جمعيات إسلامية قائمة كالهداية الإسلامية، والشبان المسلمين، والآداب الإسلامية وغيرها، وهي ذات خط كلاسيكي تقليدي انحصر دورها في إحياء مناسبات إسلامية كالمولد النبوي وإصدار مجلات دينية، ولكنها لم تُقْدم على المعالجة الموضوعية لمشكلات المجتمع العراقي من حيث التأثير والتفاعل الفكري والتربوي والاجتماعي، فغدت ذات دور محدود ومنكفئة على نفسها، فلم تستطع إحياء دعوة أو بعث نهضة.
فبروز دعوة الشيخ الصواف الجديدة في وسط سياسي تحت سيطرة حكومة العهد الملكي «المتعلمنة» والسفارة البريطانية والحزب الشيوعي العراقي والحركة القومية وغيرها أحدث تياراً إسلامياً حركياً، كان جل المثقفين المسلمين من الشباب العراقي متعطشاً له؛ لأن ذلك المكون الشبابي كان يبحث عن النقيض الأيديولوجي الإسلامي لتلك التيارات المعادية للإسلام.
ويمكن أن نقسم قصة قائد الجماعة العراقية – ونعني بها الفرع العراقي، ونقول: فرع، فالأم هي الجماعة المصرية (الإخوان المسلمون) التي نبتت أصولها في مصر على يد الإمام المؤسس الشهيد حسن البنا – إلى قسمين:
1- تاريخه الشخصي في الفترة الزمنية من 1915 – 1945م.
2- تاريخه الحركي العراقي في الفترة الزمنية من 1946 – 1959م.
وستعمل هذه الدراسة على تسليط الضوء على هذه المسارات باعتمادها منهجين في البحث العلمي؛ هما: المنهج التاريخي، والمنهج التحليلي؛ لأن استيعاب تاريخ الشيخ الصواف مؤسس الجماعة ومراقبها الأول وقائدها الحركي ومثبت برامجها ومناهجها الدعوية والفكرية في العراق هو استيعاب لتاريخ الجماعة الإخوانية العراقية في فترة قيادته التأسيسية وما بعدها إلى هجرته.
أولاً: تاريخه الشخصي:
– ولادته:
ولد الشيخ محمد بن محمود بن عثمان بك بن بكر بك بن محمد بك بن يونس بك الصواف في مدينة الموصل شمال العراق عام 1333هـ/ 1915م.
كانت في ولادة الشيخ الصواف كرامة؛ حيث ولد وكان وجهه ورأسه قد حفظا بغشاء أبيض شفاف يشع النور من تحته، فما كان من القابلة إلا أخذت تكبّر.
وحين أخبروا الإمام محمد أفندي الرضواني حينئذ قال معلقاً على المولود الجديد: «إن شاء الله سيخرج رجلاً صالحاً».
كانت أصول عائلته تنحدر من قبيلة «طيء» العربية فخذ الحريث، وكانت تقطن في مدينة حائل بنجد في المملكة العربية السعودية، ثم نزحت قبل أكثر من 200 سنة واستقرت في مدينة الموصل.
امتهنت العائلة الزراعة والتجارة، وقد أخذت العائلة لقب «البكوية» من الدولة العثمانية لامتلاكها أراضي وقرى، ثم امتهنت بعد ذلك تجارة صوف الأغنام، وأسست سوقاً لهذا الغرض في منطقة باب الطوب – أي باب المدفع – وسط المدينة حملت اسم «سوق الصوافة» ولا يزال قائماً حتى هذه اللحظة.
– نشأته:
نشأ الشاب الصواف في أحضان عائلته التي عرفت بالصلاح، وكان ترتيبه بين إخوته الخامس عشر، وقد نشأ محبّاً هو وأفراد عائلته لدولة الخلافة العثمانية التي كان العراق يرفل بالعيش تحت ظل حكمها (كما حدّث عن ذلك في ذكرياته).
وعندما بلغ الشاب الصواف ريعان الشباب نزل مع والده محمود الصواف للعمل في دكانه بتجارة الصوف، ثم بدأ يرتاد مساجد مدينته، فتعلق قلبه بها وبعلماء عصره مثل الإمام محمد أفندي الرضواني الذي التزم مسجده وحلقاته التربوية التي طبعت في الشاب الصواف معالم التربية الروحية السلوكية العالية في مسجده الكائن في منطقة شيخ محمد بشارع الفاروق القريب من منطقته في باب البيض، والشيخ صالح أفندي الجهادي الذي ختم الشاب الصواف قراءة القرآن الكريم في مسجده الكائن في باب الطوب.
– تحصيله العلمي:
وأخيراً استقر به المقام عند الشيخ عبدالله أفندي النعمة الذي أسس المدرسة الفيصلية الوقفية القريبة من جامع الرابعية، وهي عبارة عن مدرسة إسلامية شرعية تؤهل طلابها علمياً حتى تمنحهم الإجازة العلمية، وهي تؤهلهم بدورها للدراسة الجامعية.
دخل الشاب الصواف المدرسة الفيصلية الوقفية بعد أن أنهى دراسته الابتدائية الرسمية، فنهل من العلوم الشرعية النقلية والعقلية لمدة 6 سنوات حتى تخرجه فيها عام 1936 – 1937م، وتم منحه الإجازة العلمية على يد شيخه عبدالله النعمة في حفل حضره عامة الناس بالإعدادية الشرقية، وكان لقبه «التأجيزي» كما هو متعارف عليه جمال الدين محمد محمود الصواف.
– الشاب الصواف بين نشاط وطموح الطالب:
نشأ الشاب الصواف ذا قابلية حركية وطاقة فاعلة وقد دفعه إدراكه المبكر للتآمر الدولي على الإسلام والمسجد الأقصى ووطنه العراق إلى مقاومة الإنجليز، ففي أثناء دراسته الشرعية كان العراق واقعاً تحت الانتداب البريطاني، والجنود الإنجليز قابعين في قواعد عسكرية؛ فانضم إلى التجمع العربي القومي في الموصل، وهو تنظيم سري عني بمقاومة المحتل البريطاني في ثلاثينيات القرن الماضي، فكان يوزع المنشورات المحرضة على الجهاد، وكان من أنشطته المشاركة في المظاهرات من أجل فلسطين مع اشتعال ثورة الشيخ الشهيد عز الدين القسام عام 1936م يقودها ذلك التشكيل السري، وكان مما يرددونه من هتافات:
فلسطين فلسطين
نفوس العرب تفديك
أيدنو منك صهيون
وجيش العرب يحميك
بين المنهج الدعوي والمنهج الجهادي:
كانت التربية الروحية المسجدية التي تلقاها، إضافة إلى تلك العوامل والظروف، قد كونت «الداعية المجاهد» داخل التكوين السيكولوجي لشخصية الشاب الصواف المتحمس، فقد تمتع الشاب الصواف بالدمج بين منهجين فريدين؛ هما المنهج الدعوي، والمنهج الجهادي، فكانا الدافع الأساسي في بروز شخصيته.
فإضافة لنشاطه في المقاومة انضم أيضاً إلى جمعية الشبان المسلمين في الموصل لتفعيل عمله الدعوي من خلالها، وكانت وظيفته جباية الاشتراكات كونه أصغر الأعضاء العاملين، وقد قام بتقديم اقتراح بإقحام الجمعية إلى ميدان السجون لانتشال السجناء من محنتهم النفسية وتوظيفها لخدمة الدين، فنجح اقتراحه ودخل مع أعضاء الجمعية للسجون بإلقاء محاضرات توعوية على السجناء.
وقد تخطى الشاب الصواف جمعية الشبان بسبب خطها الكلاسيكي التقليدي، فكوَّن مع أقرانه جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتحقيق خطه الدعوي الحركي أهدافه.
كذلك كان شيخه عبدالله النعمة يمتلك فكراً إبداعياً، فقد كان يشجع طلابه في مدرسته «الفيصلية الوقفية» على الحركة بالدعوة وكان يسمي ذلك «تلطيفة الأسبوع».
فكل أسبوع كان ينتدب طالباً لممارسة عمل يدفعه لاكتساب مهارات في مجال العمل الدعوي والخيري، فكانت شخصية الشاب الصواف الحركية قد قفزت إلى تطبيق كل التلاطيف في أسبوع واحد، فلقّبه شيخه النعمة «جامع التلاطيف».
الدراسية الأزهرية.. بين الإنجاز والإحباط:
مع حركة الشاب الصواف في الموصل، كان حلمه الأسمى الدراسة في الجامع الأزهر بمصر، فأعلنت وزارة الأوقاف العراقية عن إرسال بعثة للدراسة في القاهرة، فجمع الشاب الصواف ثلة من طلبة العلم وترأسهم عام 1939م تحقيقاً لطموحه.
علماً بأن الأوقاف الخاضعة لسلطة الانتداب البريطاني كانت قد فرضت شروطاً تعجيزية على طالب العلم الشرعي المبتعَث، منها قلة الدعم المالي للطالب – عمداً – مما اضطر الشاب الصواف إلى بيع كتبه الغالية عليه ومنها تفسير الإمام الشوكاني «نيل الأوطار» لتأمين ثمن الرحلة.
فشد الرحال إلى أرض الكنانة، ولكن البعثة فشلت بسبب قيام الحرب العالمية الثانية، إضافة إلى ظروف الحرب واجه الشاب الصواف نارين؛ نار البعثة غير المنسجمة التي شاكست خطه التربوي والعلمي؛ مما أدى إلى فشلها، ونار وفاة زوجته وولده نوفل ووالد زوجته الشيخ نجم الدين الأطراقجي، وهو أحد مريدي الإمام الرضواني، فعاد أدراجه تحت ضغط وإحباط شديدين؛ لا شهادة لا زوجة لا طفل.
(المصدر: مجلة المجتمع)