11-طبائع الحكم مع ابن خلدون ترف السلطة مؤذن بخراب الدولة
ما العلاقة بين زيادة الضرائب وتقدم الدولة؟ وما العلاقة بين زيادة الضرائب وترف السلطة؟
كيف يمكن أن تكون مقادير الضرائب مؤشرا على مرحلة الدولة: ما إن كانت في صعود ونمو أم في تفكك وانهيار؟
لماذا تفكر السلطة في فرض الضرائب ولا تفكر في التقشف والتخلي عن الترف؟
كيف تكون الضرائب قليلة وناتجها كبير، ثم تكون في فترة أخرى كثيرة ولكن ناتجها قليل؟
ما العلاقة بين الإنتاج والضرائب؟
”فإذا استمرّت الدّولة واتّصلت وذهب سرّ البداوة وجاء الملك العضوض والحضارة … وتكثّرت عوائدهم وحوائجهم بسبب ما انغمسوا فيه من النّعيم والتّرف فيكثّرون الوظائف والوزائع حينئذ على الرّعايا ويزيدون في كلّ وظيفة ووزيعة مقدارا عظيما لتكثر لهم الجباية ويضعون المكوس على المبايعات وفي الأبواب حتّى تثقل المغارم على الرّعايا وتهضمهم … فتذهب غبطة الرّعايا في الاعتمار لذهاب الأمل من نفوسهم بقلّة النّفع إذا قابل بين نفعه ومغارمه وبين ثمرته وفائدته فتنقبض كثير من الأيدي عن الاعتمار جملة فتنقص جملة الجباية … إلى أن ينتقص العمران ويعود وبال ذلك على الدّولة … وإذا فهمت ذلك علمت أنّ أقوى الأسباب في الاعتمار تقليل مقدار الوظائف”
من السنن التي يكشف النظر عنها ابن خلدون وهذه القاعدة معروفة باسمه حتى في الدراسات الغربية أن الدولة في البداية تكون قليلة الضرائب لكن كثيرة الموارد والأموال، بينما الدولة في حال انهيارها تكون كثيرة الضرائب ومع ذلك قليلة الموارد والأموال؛ كيف يكون ذلك؟
الدولة في بداية أمرها لها حالتان؛ الحالة الأولى، إما أن تكون دولة على هدي الشرع (دولة تسير على الكتاب والسنة)، فمقدار الأموال التي ينبغي أن تأخذها السلطة من الناس مقادير محددة وقليلة: الزكاة، الخراج، العشور، الجزية؛ يعني هذه أموال قليلة ومحدودة ولا يجوز للدولة (لا يجوز للسلطة) أن تأخذ من أموال الناس فوق هذه المقادير المحددة الموزعة التي أقرها القرآن الكريم والسنة النبوية وعمل على الاجتهاد فيها الفقهاء فيما بعد؛ إذا لم تكن الدولة على هدي الشرع كانت على سنن الملك الطبيعية، فأهل الدولة في البداية (الذين هم مؤسسي الدولة، القائمين بأمرها) يكونون عادة أهل قوة وخشونة وبداوة، يعني ناس مترفعين عن مسائل الأموال وعن الطمع، عادة مؤسسي الدول من الشخصيات القوية ذوي الطموح والهمة العالية والنفوس النبيلة، فالدولة في بدايتها مع هؤلاء المؤسسين، لا يكون أهلها في حاجة إلى الترف، بل يكون أهلها محاربين ومقاتلين وأشداء، ولهم من سياسة الناس ومن التعامل مع الرعايا ومن التعامل مع وجوه القوم وأعيانهم ما يجعلهم يترفعون عن أموالهم؛ وأصلا الدولة في تلك المرحلة التي هي مرحلة البدايات تكون مهتمة بالأمور الأساسية (الجيوش، الأمن ..) الأمور القوية، ولا تكون مهتمة بالترف والزخارف والزينة، وبالتالي يعمل كل هذا على أن الضرائب تكون قليلة وفي حدها الأدنى.
حين تكون الضرائب قليلة وفي حدها الأدنى ينشط الوضع التجاري، لأن أي تاجر أو أي فلاح أو أي إنسان يعمل هو يكسب كثيرا ويدفع ضرائب قليلة (يدفع موارد قليلة)، وبالتالي كثرة مكسبه تحمله على كثرة نشاطه وتجارته واتساعها، مع كثرة النشاط والتجارة والاتساع ينشأ العمران ويتطور العمران وتتسع الحالة وتكون الرعية في قدر من الراحة والأمل والنشاط وفي قدر من الغنى أيضا، رغم أن الضرائب قليلة ورغم أن الموارد التي تجبيها الدولة (بمعنى على اتساع النشاط الموارد) تكون كثيرة، صحيح هي مقدار الضرائب قليلة لكن لكثرة الأموال فالموارد تكون كثيرة.
حين ننتقل إلى المرحلة الأخرى، الدولة تطورت وذهب سر البداوة، ذهب المؤسسون الأوائل، جاء الذين تدرجوا في الترف والنعيم، بدأت الدولة تتخذ طابع الزخارف والزينة والقصور والتجمل، في هذه اللحظة مع ضعف الدولة وهرمها، تبدأ الدولة في فرض الكثير من الضرائب، وهنا تبدأ تظهر الضرائب على التجارات والضرائب على المبيعات والضرائب على العقارات والضرائب على الخدمات، لأن السلطة تحاول أن تستثمر وتكثر من مواردها لكي تحافظ على ترفها.
حين تكثر الضرائب يعني أسماء الضرائب ما الذي يحدث؟
يحدث أن الناس الذين يتاجرون وينشطون ويعملون يدفعون الكثير من الأموال، دفع الكثير من الأموال يقلل مكاسبهم في حركتهم التجارية لأنه يدفع أموال كثيرة فالمكسب يقل وبالتالي حين يقل المكسب تضيق دائرة العمران يكسد أمر التجارة وبالتالي صحيح الضرائب الموجودة كثيرة التي تأخذها الدولة من الناس لكن المقادير التي تستطيع أن تأتي بها الدولة قليلة لأن المكاسب في حد ذاتها صارت أقل والعمران يبدأ في أن ينذوي ويضعف ويذبل بينما ترف السلطة هو الذي يتضخم، فالحقيقة أن ترف السلطة يعني القصور الرئاسية والقصور الملكية والمواكب الفخمة والحفلات الهائلة كل هذا يتغذى من أموال الناس، وبالتالي يتغذى من مكاسب الناس، وهذا يعود في النهاية على الناس بالخسارة وقلة المكاسب، ثم يعود هو نفسه على الدولة بقلة الموارد رغم كثرة الضرائب. يلفت ابن خلدون النظر إلى أمر آخر، يقول:
”ثمّ يزيد الخراج والحاجات والتّدريج في عوائد التّرف وفي العطاء للحامية ويدرك الدّولة الهرم وتضعف عصابتها عن جباية الأموال من الأعمال والقاصية فتقلّ الجباية وتكثر العوائد ويكثر بكثرتها أرزاق الجند وعطاؤهم فيستحدث صاحب الدّولة أنواعا من الجباية يضربها على البياعات ويفرض لها قدرا معلوما على الأثمان في الأسواق وعلى أعيان السّلع في أموال المدينة وهو مع هذا مضطرّ لذلك بما دعاه إليه طرق النّاس من كثرة العطاء من زيادة الجيوش والحامية وربّما يزيد ذلك في أواخر الدّولة زيادة بالغة فتكسد الأسواق لفساد الآمال ويؤذن ذلك باختلال العمران ويعود على الدّولة ولا يزال ذلك يتزايد إلى أن تضمحلّ”
يلفت النظر ابن خلدون إلى أن الدولة في حالة الهرم تظهر فيها مراكز القوة، مراكز القوة وبالذات تتمثل في الجيوش وأجهزة الأمن، لأن الدولة الآن فرضت ضرائب كثيرة على الناس وهي تحتاج إلى الترف وهذا يضر بالناس ولكن لا يستطيع صاحب الدولة صاحب السلطة أن يتخلى عن الترف ويتراجع عنه، يعني إذا تخلى عن الترف وتراجع عنه فقد ينقلب عليه أهل دولته (العساكر والجنود وأهل النفوذ)، فهو دائما مضطر إلى الحفاظ على ترفه والحفاظ على صورته وهيبته وتأمين الزخارف والمتع والترف والعطايا لأهل دولته، في هذه الحالة بعض مراكز القوة الموجودة عنده يفوض لهم أمر جباية الأموال، فهم يكثرون من أموالهم وهو يحاول أن يحافظ على الدولة فهم يكثرون من أموالهم، فهذه الكثرة من الأموال تعود على الرعية بالضعف، مع ضعف الدولة ووجود أهلها في مراحل من الترف، الأطراف القاصية البعيدة أو بعض مراكز القوة لا تؤدي الضرائب لأنها موجودة في دوائر نفوذ أو موجودة في مكان بعيد والدولة لا تستطيع أن تحارب لكي تجبي من هذه الأموال البعيدة، فكل هذا يؤدي إلى تناقص الأموال العائدة على الدولة، وهي التي تعالجها بكثرة الضرائب وبالتالي تحدث هذه الدائرة المستمرة التي يتبع بعضها بعضا، الأموال قليلة فالضرائب تكثر، الضرائب تكثر تقل الأموال الآتية من الضرائب، وتقل الأموال من الضرائب وبالتالي يتفنن في زيادة ضرائب أكثر، يفوض بعض الناس بالجبايات ويحاول أن يؤمن ترف السلطة والسلطان والحاشية لكي لا تنقلب عليه، فكل هذا يزيد في الضيق الذي يعاني منه الناس وبالتالي يزيد في الضيق على العمران وبالتالي يزيد في قلة الضرائب والأموال ويظل هذا حتى تذبل الدولة.
كيف يعالج الإسلام هذا؟
عالج الإسلام هذا، بأن نزع الإسلام من يد السلطان مسألة أن يفرض الضرائب، فرض الضرائب كبيرة من الكبائر في الإسلام، فرض الضرائب كبيرة من الكبائر في الإسلام، وفي الحديث قال ﷺ :”فوالذي نَفسي بيَدِه لقد تابتْ تَوبةً لو تابَها صاحبُ مَكْسٍ لغفَرَ اللهُ له” وفرض الضرائب أكبر من الزنى والسرقة، لأن فرض الضرائب ذنب عام ولكن الزنى والسرقة في الآخر ذنب خاص يعني يقع بين رجل وامرأة أو يقع بين رجال، لكن فرض الضرائب هذا أمر عام وهو من الكبائر في الإسلام، وبالتالي جعل كل ضريبة يفرضها السلطان هو ذنب يجب على القادر أن لا يستنيم لها ولا يطيعها ولا يؤديها، يعني من استطاع أن يتهرب من الضرائب كان له هذا لأنه ”لا يحلُّ مالُ امرئٍ إلَّا بطيبِ نفسٍ منه”، والعلماء الذين أجازوا فرض الضرائب أجازوها في الحالات الخاصة، يعني حين تأتي داهية عامة، حرب كبرى، زلزال كبير، كارثة، هذه الحرب لا تقوم لها خزانة الدولة، فحينئذ حين تفرغ خزانة الدولة يجوز للحاكم أن يفرض الضرائب؛ ولكن يفرضها على من؟ يفرضها على الأغنياء دون الفقراء، لا يفرضها على الجميع، حتى إذا تساوى الأغنياء والفقراء يمكن أن ينزل إلى فرضها على الجميع، ويكون هذا استثناءا موقوتا بوقته وبقدره، يعني إذا زالت الحاجة زالت هذه الضرائب ويكون هذا الأمر من قبيل الاستثناءات والاضطرارات لا أكثر؛ كذلك نهى الإسلام عن العمل في أروقة السلطة الجائرة، النبي ﷺ: ”ليأتينَّ عليكم أمراءُ يُقرِّبون شِرارَ النَّاسِ ويُؤخِّرون الصَّلاةَ عن مواقيتِها فمن أدركَ ذلك منكم فلا يكوننَّ عَريفًا ولا شُرطِيًّا ولا جابيًا ولا خازنًا”، فوصفهم بالظلم ثم قال إذا أدركتموهم فلا يكونن أحدكم عريفا ولا جابيا، عريفا يعني من أجهزة الشرطة وجابيا يعني من أجهزة المالية، ويعني كثر هذا الكلام في حديث النبي ﷺ مما لا يتسع له الوقت بطبيعة الحال، لكن القصد أن مجرد فرض الضرائب في الإسلام هو عمل جرمه الإسلام وهو عمل أباح الإسلام مقاومته حتى لا يزيد ترف السلطة من دماء وأموال الناس بالإثم والباطل.
للشاعر المشهور أبو الطيب المتنبي قصيدة بهذا المعنى، ذكر فيها هذا المعنى، معنى ارتباط المال بالمجد وأن زيادة المال أو زيادة إنفاق المال يعود على المجد بالضعف، فقال لكافور الإخشيدي حين كان يمدحه قبل أن يهجوه فيما بعد، قال له:
فَلا يَنحَلِل في المَجدِ مالُكَ كُلُّهُ
فَيَنحَلَّ مَجدٌ كانَ بِالمالِ عَقدُهُ
وَدَبِّرهُ تَدبيرَ الَّذي المَجدُ كَفُّهُ
إِذا حارَبَ الأَعداءَ وَالمالُ زَندُهُ
فَلا مَجدَ في الدُنيا لِمَن قَلَّ مالُهُ
وَلا مالَ في الدُنيا لِمَن قَلَّ مَجدُهُ