بقلم الحبيب عكي.
لا شك أن الله تعالى قد أكرم الإنسان بنعمة العقل، وبه فضله على سائر المخلوقات، وبفضله جعله سبحانه وتعالى مناط التكليف والاستخلاف في الأرض، وبالعقل يدرك الإنسان الخير فيقدم عليه،ويدرك الشر فيحجم عنه،ولولا العقل ما فكر الإنسان ولا أدرك ولا اخترع وأبدع ولا طور وتطور؟؟. ولكن كم بيننا وبين هذه الخصال الرفيعة للعقل و تطبيقاتها البديعة في الواقع، لماذا عقلياتنا المشهورة في مجملها مهلكة لمواطنيها قبل أوطانها، ولماذا عقلياتنا المهجورة مهجورة و في بعضها العتق من الجهالة والتحرر من التخلف والرقي من الضحالة، وكأنه يصدق علينا قول الشاعر المتنبي: “ذو لعقلِ يَشْقَى في النَّعيمِ بِعقلِهِ…وأخو الجَهَالةِ في الشَّقاوَةِ يَنعَمُ”؟؟. ومن هذه العقليات التي طالما أهلكتنا وأوطاننا، ولا رقي لنا ولا ازدهار مهما ادعى المدعون وعمل العاملون إلا بالتخلص منها:
عقلية الانتظارية:
ويعتقد صاحبها أن كل شيء من مسؤولية الآخرين، وبكثير من الشكوى وكثير من اللوم ينتظر تدخلهم حتى لو تعلق الأمر بشأنه الخاص، فهو قد يعتقده من واجب المجتمع وربما الدولة، أو أن موقعه وإمكانياته لا يسعفانه إلا في الانتظار حتى لو كان جزاء الانتظار مجرد الانتظار، وهذا من عظيم البلاء لأنه لو قام كل امرئ بواجبه اتجاه نفسه ومحيطه ما تفاقمت الأمور ولا تطورت المشاكل ولا استفحلت المعضلات ولا انتظر أحد من غيره شيئا أعطى أومنع؟؟.
عقلية اللا مرجعية:
تريد حل المشاكل وتطوير الأمور ولكن بدون مرجعية ولا معيارية ولا منهجية، لا من حيث المنطلق ولا حتى الغاية والمقصد ولا حتى الانجاز والكيفية والمنتهى، مما يجعلها تخبط خبط عشواء في كل الخطوات، ولأنها كالنهر يتيه في البحر فيفقد الهوية والبوصلة، يصعب عليه حتى تجنب الأضرار وتقييم المسار، الذي غالبا ما يكون تابعا وتتحكم فيه المرجعيات السائدة والدعوات الغالبة ولو لم تكن من الهوية والمرجعية والانتماء والمصلحة في شيء؟؟.
عقلية الاستثمار في اليأس:
والرقص على جراح الشعب، بتعميق الهوة بينه وبين حاجياته ومطالبه أولا، وبتعميق اليأس والاغتناء من فقر البؤساء ثانيا وهو الأخطر، إذ كثيرا ما يشكو الناس من معضلات وطنية ويتنادون بضرورة تعبئة الجميع وتضحيته لتجاوزها، ولكن أصحاب هذه العقلية لا يهمهم شيء من كل ما ينادى به غير مصالحهم الشخصية وهي ضد مصالح الشعب طبعا، وفي غفلة منه وغفلة من القانون، وخاصة ما يكون من هذه المصالح في الاتجار في التدخين والمخدرات والرشوة والوصولية وعصابات العنف والميوعة والدعارة والاستلاب…، وغير ذلك من تجارة المواخير والمؤخرات مما لا يزيد المجتمع غير الغرق في البلاوي والضياع في المتاهات؟؟
عقلية التعصب والكراهية:
وما يؤديان إليه من الاعتزاز المفرط بالأنا والرفض المطلق وغير الموضوعي للآخر على أسس الجنس و الدين أو اللون واللغة والانتماء،الأنانية والانغلاق والحقد والتطرف والإرهاب النفسي والجسدي السياسي والاجتماعي، وكل ذلك من الثمار المرة الأليمة للتعصب للذوات والآراء والإيديولجيات واللهجات والأحزاب والجماعات والقبائل والزعماء…، مع أن الحكمة ضالة المؤمن وأن الخبرة والكفاءة لا لون لها،في زمن تلزمنا فيه المواطنة المشتركة والكونية الرحبة بضرورة الانفتاح والتعايش والحوار بما يستلزم ذلك من وسطية واعتدال واحترام وتشارك جماعي؟؟.
عقلية التخوين والإقصاء:
والتي تعري عن عضلات التفقير والهشاشة وتكشر عن أنياب التكفير والتطرف، بعقلية نحن أو لا أحد أو نحن وبعدنا الطوفان، وكل ذلك معاداة صريحة للروح الوطنية التي تستدعي التعاون بين جميع التيارات والحساسيات والفعاليات، لأن الديمقراطية التشاركية تظل الأداة الأنجع في تدبير الخلاف والحرص على مصالح الفرقاء، ما تستلزم قدرا من الثقة المتبادلة بين الحاكم والمحكوم والسائل والمسؤول،و قدرا أكبر من احترام الحقوق حتى بين الإخوة الأعداء ما داموا لواجباتهم من الأوفياء، وغير هذا لا يكون إلا مدعاة وغطاء سافرا للتهميش والإقصاء و معارك طاحنة لا تنتهي، في حين أن جهود تنمية الأوطان تستوعب الجميع والمعارك التنموية الحقيقية خريطة طريقها ومن أولوياتها؟؟.
عقلية اللاواقعية واللاعلمية:
وأنجح فلسفات التغيير والإصلاح هي المرتبطة بواقعها منطلقات ومخططات وسواعد وخبراء ومسارات وعائدات ومآلات، ولا تؤتي الواقعية أكلها إلا بالعلمية، ومن العلمية ضرورة الصدق في وضع المخططات وتفصيل البرامج وشمولية الطرح وتجزيء المجال وتدرج المراحل والحكامة في تدبير المؤسسات وتنطيم التدخلات وفق القوانين المعيارية، وتحديد الأولويات والوسائل وتوفير الإمكانات وإطلاق الممكنات…، ولكن كم بيننا وبين الواقع الذي لا زال في كثير منه يستعصي على التغيير والإصلاح، ويظيدها استعصاء عقلية الكؤوس الفارغة أو المملوءة والألوان السوداء أو البيضاء، وكم بيننا وبين العلمية وهي كل يوم تتدهور في الواقع قيمها ومناهجها،ومؤسساتها وروادها؟؟.
عقلية اللاتنمية واللاعدالة:
وعند هذه العقلية تظل كل الشعارات مجرد كلام للإلهاء والإستهلاك، لا يخلق في الواقع إلا نارا تحت الرماد لابد يوما ستحرق شرارتها البلاد والعباد، الذين طالما اشرأبت أرواحهم إلى التنمية الحقيقية بكل أطيافها ومقاديرها، تنمية شاملة ومستدامة،بشرية وبيئية…، وحتى إذا حصل منها اليوم شيء فبشكل غير عادل بين مختلف الفئات ومختلف الجهات ومختلف الأقطار والأمصار، وتظل الفئات الهشة للنساء و الأطفال والشباب من الفئات المهمشة بحق وفي كل السياسات الاجتماعية المتعاقبة، رغم علم الجميع أنه لا نهضة ولا تقدم بدون إنصاف كل هذه الفئات حق الإنصاف وإدماجها حق الإدماج، وفي غياب هذا تتشوه العملية التنموية في صلبها ومجملها، ليبقى الشعار الأنسب لسياسة مستقبلية أفضل هو ضرورة تلازم الديمقراطية والتنمية تحت شعار: “لا تنمية بدون ديمقراطية وإنصاف ولا ديمقراطية وإنصاف بدون تنمية”؟؟.
عقلية الفساد والاستبداد:
فساد الطباع و الأمزجة والأفكار والأشخاص والقوانين والمؤسسات والمناخ العام للسياسات والمبادرات والاستثمارات، الآفة الإنسانية التي لا عدل فيها ولا إنصاف ولا رقي ولا ازدهار، أو قد يكون فيها من المن والسلوى والرشد والحداثة ما يكون ولكن أصحابها قد يعتبرون أنفسهم فوق القانون لا رقيب عليهم ولا حاسب، ولا شك أن هناك هيئات ومؤسسات في المجتمع على غير هذا السوء،ولكنها قد تجتاحها جرثومة التمييع الفتاكة وتفرغها من فحواها، فتطل لا رؤية ولا رسالة، قاعا صفصفا وهيكلا محنطا لا يغني أو يسمن في حل المعضلات شيئا. ومن الفساد الفتاك أيضا تعطيل الطاقات وتقييد الممكنات وقمع المبادرات وإفشال الاستثمارات،أو أن تسند الأمور إلى غير أهلها من غير ذوي الخبرة والكفاءة، أو يتغلب ويتسلط عليها الفاسدون ولا تعوزهم الطرق في ذلك حتى التي قد تبدو منها قانونية وهي قمة الفساد والاستبداد، وطبعا لا يكون هذا بغير فرش خشن من التخويف والقمع والإكراه والاستبداد بالرأي والاستئثار بالثروة من دون الآخرين، أفراد أسرة كانوا أوأفراد مؤسسة أوأفراد شعب؟؟.
عقلية العولمة المتوحشة:
وفيها من التبعية والخضوع والطوابير الخامسة ما فيها، وفيها من الاشتغال على مشاريع الآخرين بدل مشاريع الوطن ما فيها، وفيها من استنبات سياسات غريبة عن تربتنا ومنبوذة من طرف أبنائنا ما فيها، وفيها من عولمة القيم والسلوك و فتح الأسواق المجانية لاستهلاكها ما فيها،وفيها من الاستقواء بالآخر ولو ضد المشروعية السياسية والإجماع الوطني الدستوري ما فيها، ولا ينهض الأفراد والمؤسسات ولا الأمم والشعوب، ما لم يتجاوزوا هذه العقلية الاستعمارية الإلحاقية،والتي مع الأسف قد تتحول من عولمة مغلفة بالكونية وبعض إيجابياتها إلى مجرد “غربنةّ” أو “فرنسة” أو “أمركة” لا تعترف بالخصوصية ولا تترك لها فرصة قيام أو تجلي ثقافي وطني، وهو المعول عليه كمدخل حقيقي وأساسي لأي نهضة؟؟.
عقلية الاستهلاك المفرط:
وهي عقلية غير مناسبة لأننا في الأصل نحن مأمورون بتوازن المادة والروح ومنطق العقل وعاطفة القلب ولا وعي النفس ووعيها، وبالقصد في الاستهلاك على كل حال حتى في المتع الحلال والتمتع المباح، فكيف في زماننا زمن نذرة الموارد ونفاذ الطاقات وشح الإمكانات، مع النمو الاضطرادي للفئات المحتاجة والمناطق المجتاحة حتى داخل البلد الواحد، و في كل يوم تستغيث هذه الفئات والمناطق من البأس واليأس ولا مغيث، إن إدمان المرء لعادة الاستهلاك تجعله يطلب ما يطغيه وعنده ما يغنيه، (امتلاك قوت اليوم والمعافاة في البدن) (فما بالك بتوفر الشغل والسكن..). عقلية الجشع تجعل الوطن مستهلكا غير منتج وأنانيا غير متضامن ،لا تكفيه كل الميزانيات والمديونيات، والتي من كثرتها وتتاليها قد يرهن الوطن حريته وكرامته بل حتى سيادته وقراره، لدول مانحة ولوبيات متنفذة وشركات عابرة ومؤسسات بنكية غالبا ما تظل الشعوب تشكو من قيودها وانعكاساتها،ما لم تنتشر فيها روح الوطنية والاستقلال وروح المقاومة والاستبسال؟؟.
عقلية اللاتضامن واللاتربية:
وهو ما أثبتت جدواه كل السياسات العالمية،حتى التي تدعي أنها حققت قدرا كبيرا من احترام حقوق الإنسان ورعاية المواطنين، فلا زالت شوارعها وملاجئها تضج بالفقراء المدقعين في أبشع الصور اللاآدمية، وبظواهر الانحرافات الخطيرة من تناول المخدرات وتعاطي الدعارة لكسب لقمة العيش، ناهيك عن الأسر المفككة وأبناء الشوارع ونمو معدلات الجريمة والإرهاب، مما يفيد أكثر من ذي قبل أن التضامن روح المواطنة الحقة وقيمة القيم الإنسانية الأولى، ولا سبيل لاسترجاع المجتمعات لفضائلها وعافيتها ودفئها الإنساني إلا بالتربية على القيم والكفاءات والمهارات والانجازات والتراكمات الخالدة، نعم من حقنا الحرية ولكن في إطار المسؤولية،ومن حقنا الخصوصية والاختلاف ولكن في إطار الضروري من الائتلاف والمشترك،وإلا فلماذا كل هذا التضارب للقيم التربوية في المجتمع إلى درجة يمكن القول فيها أننا كأفراد وأسر وجمعيات وجماعات ومؤسسات ومجتمعات،لا نكاد نجمع على شيء،لا رؤى وأهدافا ولا حوامل ومنطلقات ومآلات،كيف يمكن أن نصنع من كل هذا التنوع ثراء وتعاونا بناء لا فقرا وصراعا هداما،وصدق من نادى بإتقان هذا الركن التربوي كأس وأساس فقال: “أمر التربية هو كل شيء…وعليه يبنى كل شيء”؟؟
وفي الختام، ستظل هذه العقليات تهلك أصحابها وأوطانها، وسيظل يصلى بنيرانها كل ذوي الصلات من العالمين الأقارب والأباعد،ما لم ندرك أمورا أساسية ولازمة في حسن استثمار نعمة العقل ومن ذلك ضرورة اكتسابنا عقلية نافعة غير ضارة،ومن أجل ذلك كما يقول العلماء لابد من:
1- معرفة وحسن تدبير العلاقة بين العقل…والنفس…والروح…والوعي…؟؟.
2- ضرورة المحافظة على العقل مما يفتك به من المسكرات والمخدرات، ومما يعطله من الجمود والتقليد، ومما ينحرف به إلى السيء من السلوكات و الضال من المعتقدات،وهذا من مقاصد الشرع الكبرى التي وردت إلى جانب حفظ الدين والنفس والمال والعرض؟؟.
3- ضرورة تنمية العقل بممارسة رياضاته، ومن شروطها اللازمة: نزهة الخاطر في كتب العلم والأدب والحكمة، لمعرفة قيمة العقل كنعمة، والإيمان بقدرات العقل وعطاءاته ولا حدود لها، ثم إدراك وظيفة العقل في الإبداع والاختراع، ولابد لها من الاهتمام بالعلم والعلماء ومناخ البحث العلمي كما كان في عصور النهضة حتى كان الطفل يجمع القرآن في الثمانية ويناظر في الفقه والأدب في الثانية عشر ويؤم الناس في الصلاة ويقود الجيوش في الجهاد قبل العشرين، وذلك شرط آخر لازم وهو حسن توظيف العقل، خاصة مع صحيح النقل الذي لا يعارض صريح العقل، بل بالعقل يفهم النقل ويدرك ويطبق،وبهما معا ندرك غايتنا من الحياة ألا وهي التماس الحق من الباطل و الهداية من الضلال؟؟
المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.