مقالاتمقالات المنتدى

يوسف الصديق – عليه السلام – وفقه النصر والتمكين

يوسف الصديق عليه السلام – وفقه النصر والتمكين

 

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

امتحن الله عز وجلّ الأمم – في قضية النصر والتمكين – بسُنّة الإحسان بمعانيه الشاملة، والتي قال الله فيها: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: 2]؛ أي: يمتحنكم أيكم – فرداً أو جماعة أو أمة – أحسن عملاً، وأتقن عملاً وأكثر إبداعاً وتأثيراً. وعقّب سبحانه على التمكين – من أرض مصر- والسلطة والملْك بقوله: ﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾، مما يدل بوضوح أن التمكين بالملك والقوة والسلطة رحمة من عند الله، وبركة من عنده، وأنه جزء من جزاء المحسنين المتقنين الخيرين المبدعين وقد كان التمكين لنبيّ الله يوسف عليه السلام وقع خاص عند التالي أو السامع لقصته في القرآن الكريم إذ اشتملت قصّته على عبر متعدّدة؛ عبرٌ في الطفولة في مواجهة والحقد والحسد وكيد الإخوة، والتمرد عليه وإلقائه في الجبّ، والكيد له، وبيعه رقيقاً، ووضعه سجيناً ظلماً، وموقف يوسف u من الافتراء الكاذب، والاعتزاز بالحق حتّى تم له النصر والتمكين الذي كان تتويجاً وجزاء صالحاً له على ما مرّ به من بلاءات متتابعة في كل مراحل حياته؛ ولذلك قال الله سبحانه بعد أن قصّ علينا كل المحن العظام التي مر بها ونجح في ذلك: (يوسف عليه السلام، للقره داغي، ص104)

﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ  وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 56]:

بين الله تعالى فضله على نبيه يوسف ونعمته عليه، فقال:

1- ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ﴾:

-﴿مكنا﴾ ترسيخ وتثبيت الوجود والحضور في الزمان والمكان مادياً ومعنوياً. ﴿في الأرض﴾ أي: أرض مصر والحدود التابعة للمملكة الهكسوسية.

– والتمكين: السلطان والملْك. إن القرآن الكريم تحدث عن مادة التمكين وقد كتبت فيها رسالة الدكتوراه (فقه التمكين في القرآن الكريم)، وأشار القرآن الكريم إلى أنواع التمكين وشروطه وأسبابه ومراحله وأهدافه: (يوسف أيها الصديق، محمد عاطف السقا، ص111)

ومن أنواع التمكين:

– تبليغ الرسالة وأداء الأمانة وهذا واضح في دعوة يوسف u لصاحبيه في السجن إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة وترك الشرك وبيان خطورته.

– المشاركة في الحكم، حيث مكنّ الله ليوسف u في السلطة والحكم بمرسوم ملكي ﴿إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾.

ومن أنواع التمكين الكلي، تمكين الله تعالى لذي القرنين وداوود وسليمان عليهما السلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد فتح مكة. ونلاحظ في قوله تعالى: ﴿مكنا﴾، بأن الله تعالى أسند التمكين على ذاته العليّة بصيغة: (نا)، للدلالة على كون الأمر مهماً، وأنه لولا تمكينه لما تحقق ليوسف شيء. (يوسف أيها الصديق، محمد عاطف السقا، ص111)

 وهذا حق بارز وواضح من القصة، فمن غلام مهدد بالموت في الجب أو الضبيع إلى عزيز مصر يحكم مصر، يتبوأ منها حيث يشاء، فتبارك الله العليم الحكيم القادر القدير سبحانه وتعالى.

والآية الكريمة هنا تذكر التمكين في الأرض وهو أعم من التمكين السابق في بيت العزيز، لقد صارت صلاحياته الآن تستغرق القطر المصري كله، وتشمل الديار المصرية برمتها والمقدرات المصرية جميعاً، وإن يوسف لما لم يجعل للشهوات على نفسه تمكناً مكنه الله من ملك مصر.

2- ﴿يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ﴾:

 فيُشير إلى تقلبه فيها معززاً، ويشير إلى متابعته الأحوال المصرية على الطبيعة والزيارات الميدانية للأقاليم، لأنه بالتجربة البشرية يرى وبالمشاهدة يدرك، أنه لا تنفع خطة ليس وراءها متابعة. ثم هذه الإشارة إلى أن الذي يضع الأحداث في الحقيقة هو الله عز وجل. والتبوء: اتخاذ المكان للبوء، أي الرجوع، فمعنى التبوء النزول والإقامة، وقوله تعالى: ﴿يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ﴾، كناية عن تصرفه في جميع مملكة مصر.

أي: ينزل منها حيث أراد، وكأنه يتصرف في أرض مصر كما بتصرف الرجل في منزله ليضع فيه ما يشاء، وهذا التمكين قدري قضى الله تعالى له به لا ينزع منه. (يوسف وقصته العجيبة، ص354)

3- ﴿نصيب برحمتنا من نشاء﴾:

– ﴿يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ﴾: يتخذ منها المنزل الذي يريد والمكان الذي يريد، والمكانة التي يريد، في مقابل الجب وما فيه من مخاوف والسجن وما فيه من قيود.

– ﴿نصيب برحمتنا من نشاء﴾: فنبدله من العسر يسراً، ومن الضيق فرجاً، ومن الخوف أمناً، ومن القيد حرية، ومن الهوان على الناس عزاً ومقاماً علياً. (في ظلال القرآن، 4/2014)

4- ﴿وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾:

الذين يحسنون الإيمان بالله والتوكل عليه، والاتجاه إليه، ويحسنون السلوك والعمل والتصرف مع الناس. والإحسان يشمل معناه اللغوي الشامل للإخلاص والتقوى والرحمة، وعمل الخير، والجودة، والإتقان، والإبداع، وكل هذه المعاني مطلوبة، وبمقدار الرقي فيها يكون مقدار الثواب والجزاء بإذن الله تعالى، بل إن الله عز وجل جعل امتحان الأمم في الدنيا في النصر والتمكين بسنة الإحسان بمعانيه الشاملة، قال تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: 2]؛ أي: يمتحنكم أيكم – فرداً أو جماعة أو أمة – أحسن عملاً، وأتقن عملاً وأكثر إبداعاً وتأثيراً. وقد عقّب الله عز وجل على التمكين من أرض مصر والسلطة والملك بقوله: ﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾، مما يدل بوضوح أن التمكين بالملك والقوة والسلطة رحمة من عند الله، وبركة من عنده، وأنه جزء من جزاء المحسنين المتقنين الخيرين المبدعين، وهذا يدل على أن السلطة العادلة ليست شراً بل هي خير وبركة، ولكن بشرط استعمال السلطة  والقوة والملك في الخير وخدمة الناس وانقاذهم والرحمة بهم.

إن قول الله تعالى: ﴿وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾، ومن تمام جملة ﴿نصيب برحمتنا من نشاء﴾، والمعنى نصيب برحمتنا من نشاء، والحال أننا لا نضيع أجر المحسنين، وتعلق جملة ولا نضيع أجر المحسنين بالجملة قبلها تشرح لنا أن رحمة الله – سبحانه – التي يصيب بها من يشاء. إنما نصيب المحسنين أي الذين يعملون عملاً – أي عمل – ويحسنون فيه، لأنه لا يجوز لأحد أن يتكئ على أريكته وأن ينتظر إصابة رحمة الله له، ولو تصورت أن الجملة التي هي ﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ﴾، ليس لها بقية وإنما انتهى الكلام بها لفتحت باب التواكل وانتظار الرحمة، ومن المهم جداً في فهم الدين والدنيا معاً أن نعلم أن رحمة الله التي هي توفيقيه، وتسديده، وإنجاحه، وهدايته لعباده، إنما هي مقترنة بالإحسان الذي هو الإتقان والتدقيق، وأنها أصابت يوسف u، لأن الإحسان كان ديدنه ودأبه. وراجع قصته من أول ما عاش في بيت العزيز، وقد بلغ أشده، ثم في السجن وإتقانه لكل ما هو بسبيله، ومن المهم جداً أن ترجع بهذه الصفة صفة (المحسنين) إلى الوراء تجدها مع يوسف في قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 36]، وتجدها في هذه الآية وصفاً ليوسف u لأن رحمة الله أصابته ﴿وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾. (من حديث يوسف وموسى في الذكر الحكيم، ص141)

إنّ صفات الإحسان في الأعمال مهمة جداً في عمارة الأرض وسعادة الإنسان وبني آدم عموماً، وإن الله عز وجل يحب الإحسان في الأمور كلها، فإن كنت كاتباً فعليك بالإحسان، وإن كنت عاملاً في مصنعك فعليك بالإحسان واعلم أيها العامل في المصنع أو في ميدان من ميادين الحياة أنه يمكنك أن تكون من المحسنين الذين تصيبهم رحمة الله، والذين يحبهم الله لأنّه يحب المحسنين، ليس باللازم أن تكون فقيهاً أو مفسراً فإذا كنت عامل نظافة، وأنت محسن فأنت خير من رئيس الحي الذي لا يحسن، وخير من الفقيه والمفسر الذي لا يحسن، وقد قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: “قيمة كل امرئ ما يتقنه”،  ولم يقل ما يعمله، فجعل قيمة المرء في الإتقان.

كما أن الإحسان لا يكون ولا يمكن أن يكون إلا بالعلم فالجاهل لا يُحسن ولو كنت معلماً لن تحسن إلا بمزيد من العلم، وبمقدار زيادة العلم تكون زيادة الإحسان، ولن يحسن الطبيب في طبه إلا بزيادة العلم، وكذلك الصانع في صنعته، وكذلك في الأمور كلها، وهذا يعني أن توفر الإحسان في حياة الشعب لن يكون إلا بتوفر العلم والعناية الفائقة بالتعليم، والبحث، ونشر ذلك في الناس. وإذا كان الإحسان الذي هو الإتقان هو السبيل الذي لا سبيل للناس سواه في التقدم والرقي، وتحصيل الحياة الكريمة والعيش الكريم، والقوة الكريمة، فإنه لا يمكن أن يوجد شيء من ذلك إلا بالعلم، فإذا قال لنا ربنا: إن المحسنين لا يضيع أجرهم في الدنيا ولأجرهم خير في الآخرة، فلا بد أن نبحث في شروط الإحسان وأن نعرف ما لا يكون الإحسان إلا به، وأن ما لا يكون الإحسان إلا به فهو إحسان، وإذا كان لا يكون إلا بالعلم فالواجب أن نحسن العلم، حتى يُفضي إحسان العلم إلى الإحسان في الأمر كله. إن الإحسان يقتضي استقامة العقول، وإخلاص القلوب والقول الطيب والعمل الصالح. (زهرة التفاسير، 7/3835)

إن من أنواع التمكين التي ذكرت في القرآن الكريم وصول أهل التوحيد والإيمان الصحيح إلى سدة الحكم وتوليهم لمقاليد الدولة، كما حدث لنبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام ولداود وسليمان عليهما السلام وذي القرنين، إن الاستخلاف في الأرض والتمكين لدين الله، وإبدال الخوف أمنًا وعد من الله تعالى متى حقق المسلمون شروطه، وأجدر من حقق هذه الشروط هم أنبياء الله صلوات الله وسلامه وعليهم ومن حذا حذوهم من صالحي الأمة، فنصرهم سبحانه على أعدائهم، ومكن لهم في الأرض.

ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: ” النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام”، للدكتور علي محمد الصلابي.

المراجع:

  • يوسف أيها الصديق، محمد عاطف السقا.
  • فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم، د. علي الصلابي، دار المعرفة، الطبعة الأولى، 2005م.
  • يوسف عليه السلام، علي محمد الدين القره داغي.
  • في ظلال القرآن، سيد قطب.
  • زهرة التفاسير، محمد أبو زهرة.
  • النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام، د. علي محمد الصلابي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى