يوتوبيا العلمانيين وفانوس علي بابا
بقلم شريف محمد جابر
بعض المثقّفين العرب، أو فلنقل أرباع المثقّفين، يتحدث عن العلمانية كحُلم منشود سينشل بلادنا العربية من واقع التخلف والانحطاط إلى النهوض والتقدّم. العجيب أنّ هؤلاء يتحدثون عن نظام ما زال يحكم جميع البلاد العربية تقريبا منذ نحو قرن من الزمان، ومع ذلك لم نرَ في هذه البلاد نهضة ملحوظة أو تقدّما ذا قيمة بالمقارنة مع الدول الناهضة والمتقدّمة اليوم!
والسبب أنّ النهوض والتقدّم أمرٌ لا علاقة له بالعلمانية، بل له علاقة بالتدابير السياسية والاقتصادية والتنموية التي تتخذها السلطة المسيطرة على مقدّرات البلاد. بلد غارق في التبعية لا يمكنه النهوض حتى لو كان علمانيا، لأنّه سيكون ملتزما بالخطوط الحمراء الأمريكية أو الروسية، والتي توجب عليه البقاء في ظلّ الضعف والتبعية والاحتياج. بلد لا يباشر حكّامه بتنفيذ خطة اقتصادية وتنموية مدروسة لبناء الصناعات المتقدّمة والثقيلة لن يتمكن من النهوض والتقدم حتى لو كان علمانيا. بلد يظلّ مرهونا لتعليمات صندوق النقد الدولي ويغرق في الديون لا يمكنه التقدم والنهوض حتى لو كان علمانيا. بلد لا يملك جيشا قويا يحمي به الأرض والشعب من أي عدوان خارجي سيظل كُرةً في أيدي الدول القوية، تلعب فيه كما تشاء وتمنعه من التقدّم حتى لو كان علمانيا.
هذه المعوّقات الرئيسية للنهضة لا تملك العلمانية – لا كممارسة ولا كمرجعية نظرية – أيّة تعليمات أو حلول بخصوصها؛ لأنّ العلمانية كنظام سياسي أو كإطار أيديولوجي للدولة لا تقدّم أي مادة تتعلق بتوجه الاقتصاد أو التنمية أو العلاقة مع القوى الدولية أو الامتلاء بالقوة، فهذه أمور خارجة عن اختصاصها ومجالها، ويمكن للدولة أن تكون علمانية حتى لو كانت تابعة لدولة كبرى، وحتى لو كانت متخلّفة واقتصادها متدهور وغارقة في الاستبداد والظلام. بل إنّ العلمانية كنظام سياسي لا تقدّم أي مادة أو توجيه بخصوص صيانة الحقوق والحفاظ على كرامة الإنسان.
من هنا يظهر لنا كم هم سذّج أولئك الذين يروّجون للعلمانية على أنّها الحلّ المنشود للتخلص من جميع أزماتنا ونكباتنا في جميع المجالات، وكأنها فانوس علي بابا الذي سيلقي إلينا بالحلول السحرية عند أوّل حكّة، ويظهر لنا أيضا مدى سطحية أولئك الشباب الذين يسخرون ممّن يرفض العلمانية بدعوى أنّه لا يفهمها، فالواقع أنّ أولئك الشباب هم الذين لا يفهمون من العلمانية إلا شعارات مؤدلجة يحفظونها ويردّدونها، وإذا سألت أحدهم عن المشاكل الأساسية في بلادنا، وعن مفاصل التخلف، وعن الأزمة الاقتصادية، وعن رأيهم في أثر التبعية السياسية للنظام في تخلّف البلاد، وغير ذلك من القضايا الكبرى لأُسقط في أيديهم، ولأدركوا أنّهم هواة لا يملكون أكثر من ترديد الشعارات الرنّانة والتبشير بيوتوبيا خيالية لا توجد إلا في عقولهم!
في المقابل، يجهل هؤلاء حقيقة دين الإسلام، ويظنّون أنّه مجرّد اعتقاد أخروي وممارسة تعبّدية طقوسية لا يمكن أن يكون لها علاقة بتنظيم شؤون الدولة، ويعيدون اجترار هذا التصوّر السطحي المغلوط للإسلام الذي شبع نقدا وتفنيدا، والذي تكفي قراءة بعض الآيات وتدبّرها لتبيّن تهافته، ثم يدعون إلى تحييد الدين جانبا والدعوة إلى العلمانية كحلّ لأمور كثيرة لا تملك العلمانية أي مادة بخصوصها كما أسلفنا. في المقابل، سنجد أنّ الإسلام كعقائد وشرائع وممارسات راشدة ممتلئ بالمادة النظرية والممارسة التاريخية التي تقدّم تعليمات وتوجيهات واضحة بخصوص كل مجال من المجالات المذكورة أعلاه، والتي لا تقدّم العلمانية بخصوصها أي توجيه.
وهنا ينبغي التنويه إلى أنني لا أقول إنّ مجرد تحوّل النظام إلى نظام إسلامي يُقيم الشريعة فإنّ البلد سيصبح بلدا ناهضا متقدّما بالضرورة؛ لأنّ النهوض والتقدّم أمور تتعلق بالإجراءات والتدابير التي تتّخذها السلطة المسيطرة على البلاد، وقد تُقام الشريعة في جوانب كثيرة ويبقى البلد متخلّفا لعجز أصحابه أو لسوء تدبيرهم أو لضيق أفقهم عن فهم الإسلام وما يدعو إليه من التقدم والخروج من التبعية والامتلاء بالخبرة والقوة. ولكن أقول إنّ الإسلام كإطار مرجعي للنظام السياسي يتدخّل ويقدّم أحكامه وتعليماته في كل هذه المجالات المذكورة آنفا؛ فلا يجوز في الإسلام أن تكون دولة المسلمين تابعة لدولة أخرى غير مسلمة أو داخلة تحت ولائها، بل التوجيه الإسلامي الواضح في كتاب الله هو للريادة وقيادة الأمم للخير والخروج من التبعية: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}.
ولا ينبغي للدولة المسلمة أن تكون ضعيفة منزوعة السلاح، بل ينبغي أن تمتلئ بالقوة لتحمي بيضة المسلمين. ولا ينبغي لها أن تكون عديمة الخبرات خالية من التقنية، بل التوجيه العام هو نحو امتلاء المجتمع المسلم بالمعرفة والخبرات والتكنولوجيا؛ لأنّه لا يمكن لأمة أن تكون خير أمة أخرجت للناس ورائدة الأمم للخير والحقّ وتكون مع ذلك متخلّفة ضعيفة غارقة في الظلام!
وبالإضافة إلى ذلك، هناك ضوابط عديدة للنظام الاقتصادي والتي تصبّ جميعها في رسم معالم نظام اقتصادي خاص يتجه نحو تدخّل الدولة في الاقتصاد وتحريم الربا والاحتكار والغرر والقمار وبيع العينة والنجش والغشّ في التجارة وبيع ما لا يملك وبيع المضطر وبيع الدَّيْن وغيرها من المحرّمات، مع الحسبة على السوق ومكافحة الفساد وفرض الزكاة والتوزيع العادل للثروة وغيرها من الأحكام والتعليمات التي نصّ عليها الكتاب والسنّة وامتلأت بها كتب الفقه منذ فجر هذه الحضارة.
وفي المجال الحقوقي هناك ذخيرة كبيرة على المستوى النظري في نصوص الكتاب والسنّة وعلى مستوى الممارسة العملية في الخلافة الراشدة ترشد إلى أعدل الإجراءات بخصوص حفظ حقوق الناس وصيانة حرماتهم والمحافظة على كرامة الإنسان، مع التوجيه نحو العدل الاجتماعي والرعاية الاجتماعية وحقّ الأمة في اختيار من يحكمها والشورى والحسبة على الحاكم.
ولئن قال قائل: لم تُطبق هذه التوجيهات إلا في عقود قليلة في العهد النبوي والراشدي، فالصواب أنّ الأمر ليس كذلك، فلم تسقط جميع هذه التوجيهات بعد الخلافة الراشدة، بل سقطت جوانب تتعلق بالشورى وحق الأمة في اختيار من يحكمها والعدل، أما بقية الجوانب كالأحكام المالية وتوجيه الاقتصاد والامتلاء بالخبرات والمعرفة والخروج عن تبعية الدول الأخرى وريادة الأمم فهذا كله ظلّ قائما على مدى قرون طويلة بمستوى عالٍ جدّا من التطبيق، مع تفاوت من عصر لآخر، وكان الإسلام هو الدافع الأول لهذا التحول نحو هذه الأمور، بما حمل في طيّاته من توجيهات وأحكام نحو تحقيق هذه القيم والمنجزات الدنيوية، التي لا تنفكّ في الإسلام عن كونها منجزات للآخرة أيضا.
وإذا كان المسلمون قد قصّروا في قرون طويلة في مبادئ الشورى والعدالة وحفظ الحقوق وصيانة الحرمات ومكافحة الفساد، ونكصوا عمّا كان عليه الأمر الأول لهذا الدين، فإنّ الشعوب المسلمة اليوم، والتي ذاقت ويلات الإجرام والاستبداد والظلم والتخلف والفساد، وتعطّشت للتحرر والاستقلال والعيش بكرامة، هي الأولى بإعادة إحياء هذه القيم الإسلامية واعتمادها، وتطوير خطاب سياسي/اقتصادي/اجتماعي يكون مبنيا عليها ومواكبا لمستجدّات الواقع المحلي والإقليمي والدولي، وخوض نضالها السياسي والحقوقي متسلّحة بتعاليم الكتاب والسنّة في مختلف هذه المجالات الحيوية التي ذكرناها بديًا.
(المصدر: مدونات الجزيرة)