مقالاتمقالات مختارة

يا قدسنا.. المطبّعون قادمون

يا قدسنا.. المطبّعون قادمون

 

بقلم علي البتيري

 

بدم بارد وضمير غائب وعقل مغيب، وبإحساس على فراش الموت يكاد أن يلفظ الأنفاس.. المطبعون إليك يا قدسنا قادمون، يرفعون في أيديهم حججا واهية يتذرعون بها، وفي عيونهم ابتسامات شوق كاذبة، وعلى شفاههم صمت رديء ومريب يخفي وراءه ميلا إلى تطبيع مع العدو المحتل لا يخلو من تحايلات وألاعيب.

إنهم بالشوق إلى الأقصى المبارك يتظاهرون، وبالحنين المزمن إلى مقدساتك يا قدسنا بكل نفاق يتجملون، يمالئون المحتل، وبزيارات مستسلمة مستخذية لسطوة الاحتلال يقومون، ولهم مبادرات ومفاجآت تسر العدو وتؤلم الشقيق وتصدم الصديق، مرة من باب السياحة يدخلون، ومرة أخرى من باب الثقافة والفنون، ومرات من أبواب خفية قد لا يعلمها إلا المنجمون أو من هم في فقه التطبيع ضالعون.

المطبعون يقومون بزيارات متعددة لك يا قدسنا، فيغيظك ما فيها من تزلف للمحتل ورياء

يقومون بزيارات متعددة لك يا قدسنا، فيغيظك فيها ما فيها من تزلف للمحتل ورياء، وما تنطوي عليه من انكسار وتذلل واستخذاء.

تصاريح مختومة
يأتون إليك بتصاريح ممن يحتلك يا قدسنا مختومة، وبحجج واهية غير مفهومة.. يقفون على المعابر والجسور، وعلى نقاط للتفتيش يحنون الظهور، يلقون على حارس المعبر الصهيوني السلام، ويستلطفون معه في الكلام، ويفتحون له جيوبهم وحقائبهم بكل احترام!

مع أن الحارس الاحتلالي مدجج بالحقد والسلاح؛ فإنه مستمتع وشديد الارتياح وهو ينظر إلى عرب يحنون الرؤوس ويذلون النفوس.. يتحدثون العربية بلهجة تميل إلى رطانة عبرية.

بعد أن كانوا يعدون على الأصابع أصبحت أعدادهم تزداد، فيظهرون في مختلف البلاد، يتكاثرون وأشباه لهم يستنسخون، وإليك يا قدسنا بأشواقهم المزعومة يأتون، فمن أقصى الشرق ومن أقصى الغرب إلى ساحة التطبيع يهرولون، بعضهم من بلاد عربية تمثلها دول في الجامعة العربية والبعض الآخر من بلاد إسلامية تمثلها دول لها عضويتها في منظمة المؤتمر الإسلامي، مع أن في تلك البلاد عباد مؤمنون من أجل القدس وفلسطين يتظاهرون، وضد الاحتلال وأعوانه يهتفون، ولافتات استنكارهم لبقائه يرفعون.

ليت الأمر يقف عند الزيارات السياحية، فلا تعقبه اتصالات سياسية ومشاريع اقتصادية وتبادلات تجارية

عرب ومسلمون
فمن وفد عربي مستسلم، إلى وفد تطبيعي مسلم؛ يأتون إليك يا قدس تباعا دون حياء من التاريخ، ليسمعوا من أهلك الصامدين اللوم والتوبيخ. وليت الأمر يقف عند الزيارات السياحية، فلا تعقبه اتصالات سياسية ومشاريع اقتصادية وتبادلات تجارية، وكأن الاحتلال قد زال والسلام العادل قد حل، وعروبة الأرض والدار قد استعيدت، وحق العودة قد بات مشروعا قابلا للتنفيذ في أي لحظة تعلنها القوى العربية–الإسلامية بمساندة مفروغ منها من القوى الدولية. تلك التي أخرجت من أدراجها المقفلة بمفاتيح صهيونية كل القرارات الشرعية المتعلقة بالحقوق الفلسطينية في العودة وتقرير المصير، وفي مقدمتها القرارات المعنية بالقدس العربية شرقية كانت أم غربية.

والغريب العجيب يا قدسنا أن كل الوفود والشخصيات التطبيعية تدعي حبك والحرص عليك من عيون اللصوص والحساد، وتزعم أن لك حبا كبيرا في الفؤاد، فيدخلون إليك من باب التطبيع مع من يحتلك ويهدم منازلك ويهجر أهلك، ويهود معالمك ويزور تاريخك. يدخلون دون أدنى اعتبار لجراحك وقيود أسرك وتنهدات مداخلك وحاراتك القديمة، وأنت ترزحين تحت وطأة التهويد والاستيطان وضراوة العدوان، حيث الطرق المؤدية إليك لا تفتح “محاسيمها” ونقاط تفتيشها إلا لمن وقع في الفخ السياحي الصهيوني، فأصبح صيدا ثمينا مرحبا به بطريقة أو بأخرى تريدها سلطة الاحتلال وتخطط لها باستمرار.

فوج سياحي تلو آخر يأتيك يا قدس من ديار العروبة والإسلام ومعه دليل سياحي صهيوني

ذريعة الشوق
كان الله في عونك يا قدسنا وأنت ترين عن بعد وعن قرب تزاحم تلك المجموعات السياحية على المعابر والجسور بكل انكسار وانحناء للظهور أمام حرس العبور الصهيوني، متذرعة بالحنين إليك والشوق الكبير لدخول حاراتك ومساجدك وكنائسك، متناسية أنها تستظل ببطش الاحتلال وإجراءاته القمعية بحق أبنائك العرب، فتتجول في الأحياء والطرقات وهي مغلقة الأفواه والأنوف خشية أن تتنشق رائحة دم الشهداء الذين ارتقوا بأرواحهم وهم يدافعون عن عروبة قدسهم وشرفها وطهارة عتباتها ومصلياتها.

فوج سياحي تلو آخر يأتيك يا قدس من ديار العروبة والإسلام ومعه دليل سياحي صهيوني يقلب حقائق التاريخ ويزور واقع الحال، وربما يصف القدس بكل خبث ورياء بأنها عاصمة المؤمنين ومحط أنظار الزائرين من أصحاب الديانات السماوية دون تمييز.

لا أهلا بكم ولا سهلا، ولا مرحبا بزواري المتخاذلين، فبأي وجه جف ماؤه تأتون؟

قومي يا قدسنا وأغلقي أبوابك في وجه هؤلاء المنافقين المطبعين، ولا تستثني منهم أحدا مهما كانت حجته وذريعته، ليعلم كل زائر مطبع منهم بأن زيارة القدس في ظل الاحتلال تعني دعما للاحتلال وموافقة ضمنية على الاستيطان والتهويد، وإغماضا للبصر والبصيرة عن كل ما تعانيه أم الأنبياء وحبيبة السماء من حصارات واقتحامات ومن مخططات وإجراءات استيطانية تنذر بمصائب ومصاعب وويلات قادمة.

لا أهلا بكم
يا قدسنا الصامدة الصابرة قولي لهؤلاء وأولئك المطبعين المذعنين المسالمين: لا أهلا بكم ولا سهلا، ولا مرحبا بزواري المتخاذلين، فبأي وجه جف ماؤه تأتون؟ وبأي تجاهل لأحزاني وعذاباتي من أبوابي تدخلون؟ بينما سارق أحلامي وأيامي ومقدساتي يدقق في تصاريح زياراتكم، ويعد أرقاما لأسمائكم ووجوهكم وربما لفصائل دمكم.

بأي لغة منحنية الحروف والكلمات ستخاطبونني؟ بأي لسان خدره التطبيع مع العدو ستتحدثون معي، بينما أنا أرسف في سلاسل وقيود الاحتلال، وثعابين الاستيطان تلتف حول خاصرتي وتطوق لي عنقي؟!

لا تنخدعي يا قدس بهدوء زوارك المطبعين وسلامهم عليك بكل شوق زائف وحنين

قولي لهم بكل صراحة يا قدسنا: أما علمتم أنكم بهذه المواقف المؤسفة والزيارات الموجعة لقلبي والمجحفة تدعمون المحتل وتؤيدون الاحتلال وما تقوم به سلطاته من نهب وسلب ومصادرة واضطهاد عنصري فاق كل التوقعات والتخيلات؟ وهذا ليس في قدسكم وضواحيها فقط، لكن في مختلف بقاع الأرض الفلسطينية الممتدة من البحر إلى النهر ومن مطرقة القمع إلى سندان القهر.

لا تنخدعي يا قدس بهدوء زوارك المطبعين وسلامهم عليك بكل شوق زائف وحنين، بل ارفعي في وجوههم صوتك عاليا ولا تأبهي باصفرار وجوههم أمامك.. تساءلي أمامهم بحرقة وقلق وحيرة عن أي دافع يدفعهم إلى ما يفعلون، فيسالمون، وقاتل أطفالك يهادنون، ودون مقابل يطبعون.

تساؤلات
قولي لهم متسائلة لائمة: كيف تهادنون وتسايرون عدوا لي ولكم قواته ما زالت على صدري جاثمة وإجراءاته بحقي جائرة وظالمة؟

ما الذي يجبركم على ذلك وعدوي وعدو أمتكم يجرني ويجر أمتكم إلى المهالك؟

هل أصاب أسماعكم وقر مزمن، فلم تعودوا تسمعون غضبة شعوبكم من أجلي أو دعاء من يصلون في مساجدكم وكنائسكم بأن يفك الله أسري وينقذني وأهلي من القوم الظالمين؟

ألا تطالعون تغزل الصحافة الإسرائيلية بسواد مبادراتكم التطبيعية، وبجرأة استسلامكم لواقع الاحتلال وإذعانكم لسوء الأحوال؟!

لا بد من أن تسقط الأقنعة لنعرف من هو ضد احتلال فلسطين ومن معه

أنا على يقين بأن هذا التطبيع الناعم مع الاحتلال لم يأت من فراغ، فوراء الأكمة ما وراءها، ولا بد من أن تسقط الأقنعة لنعرف من هو ضد احتلال فلسطين ومن معه من عرب ومسلمي هذه الأمة.

قولي يا قدسنا لفرسان التطبيع النائمين على رقاب خيولهم والرامين على أقدام عدو أمتهم سيوفهم: إن فخ التطبيع الذي تنصبه لكم اللعبة الصهيو–أميركية لا يستهدف عقولكم فقط، وإنما يستهدفني أولا وأخيرا يا من أرهبتكم العصا وأغرتكم الجزرة.

قولي لهم يا قدس بلسان عربي فصيح ومن أعماق قلبك الجريح: إن من يأت متلهفا للقائي من باب التطبيع مع أعدائي هو داعم لتهويدي ومؤيد لاستمراره وبقائه، وموافق على وعد الرئيس الأميركي ترامب بأن أكون عاصمة تاريخية للدولة اليهودية الصهيونية، وراض عن نقل السفارة الأميركية إلى حي من أحيائي العربية.

يا قدسنا، يا أم قلوبنا وأرواحنا، قولي لهم باختصار وعلى لسان كل معتقل وسجين وشهيد:

لا تطبيع مع المحتل، وليس مني من منكم لغاصب الأرض قد تذلل فذل.

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى