“وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ”.. ما “الطريقة”؟ وكيف نستقيم عليها؟
بقلم أحمد التلاوي
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا} [سُورة “الجن” – الآية:16].
وفي عصرنا الراهن، حيث طغتْ المادة، وطال على الناس العهد بوعد الله عز وجل وآياته، ووعيده، وفق ما شاءت حكمته، فإننا نجد الكثيرين –حتى للأسف بين أوساط المسلمين، بل وحركيين– يتساءلون عن السعادة، وعن كيفية نجاح الإنسان في حياته، وفي مساعيه.
وعندما تُطرح عليهم هذه الآية، يجد الإنسان منهم الكثير من الأسئلة الأخرى، مثل: ما “الطريقة”؟ وكيف نستقيم عليها؟
ويتصل بذلك منظومة من الأمور الأهم والأخطر في حياة الإنسان، مثل لماذا خُلِقْنا، وفيمَ نحيا، وكيف نسعى، وبالتالي دور الإنسان في هذه الحياة وكيف يقوم به، وما هي علاقتنا بربنا، وبالإنسان الآخر، وبالكون المحيط بنا، سواء بيئتنا ومجتمعنا الأقرب، وصولاً إلى الكون الأكبر الفسيح الذي نعيش فيه، وحتى مواردنا، وكيف نستعملها.
وكلها أمورٌ غير منفصلة عن قضية المنهج وسُنن الله عز وجل التي سبق الحديث عنها في مواضع أخرى خَلَتْ.
في البداية، يُخلَق الإنسان، ويُخلق معه العقل، وتُخلَقُ معه النوازع، ولأن الله تعالى يعلم مَن خلق وهو اللطيف الخبير؛ فإن سابق علمه أحاط بالحيرة التي سوف تنشأ مع الإنسان، وبالذات كلما ابتعد عن فترة الخلق الأوَّل لآدم (عليه السلام)، وفقدان البشرية للبوصلة وللطريقة، في صدد الكثير من الأمور الجوهرية.
يُخلَق الإنسان، ويُخلق معه العقل، وتُخلَقُ معه النوازع، ولأن الله تعالى يعلم مَن خلق وهو اللطيف الخبير؛ فإن سابق علمه أحاط بالحيرة التي سوف تنشأ مع الإنسان، وبالذات كلما ابتعد عن فترة الخلق الأوَّل لآدم (عليه السلام)، وفقدان البشرية للبوصلة وللطريقة، في صدد الكثير من الأمور الجوهرية
يقول تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سُورة الحديد- الآية:16]، وهي آية تلخص الكثير من المعاني السابقة.
وبالتالي فقد خلق الله تعالى مع خلْقنا قواعد؛ لكي نحيا بها، وهذه القواعد إذا ما اجتمعت معًا، كوَّنت “الطريقة” المثلى التي نمضي بها بشكل مستقيم لا حَيْف فيه في هذه الحياة، حتى نصل إلى الحياة الآخرة، وقد فاز الإنسان في الامتحان الذي وضعه الله تعالى فيه، ويحصل بها على السعادة في الدارَيْن، الدنيا والآخرة.
وهنا لابد أن نشير إلى أنه عندما قال الله تعالى في كتابه العزيز: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا}؛ فإنه كان يقصد الدين، والمنهج والشريعة بالتحديد، اللذين هما “البرنامج التنفيذي” للدين لو صح التعبير.
ويقول تعالى أيضًا، مما اتصل بهذا الأمر: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [سُورة المائدة- من الآية: 48].
ونحن كمسلمين، ينبغي أن نؤمن بأن “طريقتنا” هنا، هي الشريعة الإسلامية، وهي الشريعة الكاملة.
وبالتالي فإننا نقف أمام حديث إلهي لا لبْسَ فيه، وهو أن “الطريقة” هي الشريعة، وأن هدايتنا في هذه الحياة إنما هي في اتباع قواعد الله عز وجل التي أرسل بها أنبياءَه ورسلَه، وآخرهم كان رسولنا الكريم محمداً “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”.
ومصادرنا لهذه “الطريقة” هي اثنان لا ثالث لهما، القرآن الكريم، وصحيح السُّنَّة النبوية الشريفة، والتي إما جاءت بالمزيد من قواعد “البرنامج التنفيذي”، مثل مكارم الأخلاق، أو شرح ما جاء في القرآن الكريم من بعض العموميات، مثل الصلاة وكيفية أدائها.
وأول سؤال هو لماذا خلقنا الله تعالى، وما هو دورنا في هذه الدنيا؟ في حقيقة الأمر فإن الأمور بسيطة وواضحة للغاية في القرآن الكريم، الذي هو مصدر “الطريقة” الأساسي، فيقول تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [سُورة الذاريات- الآية:56]، ويقول عز من قائل أيضًا: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [سُورة هود- من الآية:61]، {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [سُورة البقرة – من الآية:30].
إذًا -ببساطة شديدة- خلقنا الله تعالى لعبادته، ودورنا في هذه الحياة، هو أن نعمِّر الأرض؛ لنعمل بموجب قانون الاستخلاف، ومن بين أهم مهامنا فيها، نشر شريعة الله تعالى وقواعده على هذه الأرض، والدعوة إليه، وعلى رأس ذلك عقيدة التوحيد .
في هذا الأمر، أمامنا حديث نبوي شريف مهم ومفيد للغاية، يقول فيه الرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”: (إنما بُعثْتُ لأتمم مكارم الأخلاق)، وفي رواية (صالح الأخلاق)، والحديث أخرجه البُخاري وأحمد عن أبي هريرة، وفي حديث آخر أخرجه ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو (رضي اللهُ عنهما)، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما بُعْثْت معلِّمًا).
إذًا، بعد التوحيد جاءت الأخلاق، وأدواتنا في ذلك أن نكون للناس معلِّمين .
في هذا الإطار، حدّد لنا الله تعالى منظومة من القواعد العمرانية المهمة التي تضمن للإنسان النجاح في أداء رسالته في هذه الحياة، مثل قانون الاستطاعة، وقانون التدافع، وتسخير الأشياء للإنسان لمساعدته على أداء رسالته، وغير ذلك مما ورد في القرآن الكريم من آيات بيِّنات.
حدّد لنا الله تعالى منظومة من القواعد العمرانية المهمة التي تضمن للإنسان النجاح في أداء رسالته في هذه الحياة، مثل قانون الاستطاعة، وقانون التدافع، وتسخير الأشياء للإنسان لمساعدته على أداء رسالته، وغير ذلك مما ورد في القرآن الكريم من آيات بيِّنات
ومن بين نصوص القرآن الكريم الواضحة في ذلك: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [سُورة البقرة- من الآية:286]، و{وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [سُورة البقرة- من الآية:251]، و{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [سُورة لقمان- الآية:20].
ولولا هذا التسخير ما كان عدل الله تعالى أن يحاسبنا؛ لأننا وقتها كنا سوف نقول: كيف نفعل ما أمرتنا يا الله، لكن لأنه {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [سُورة النَّجْم- الآية:39]، فإن الله تعالى سخَّر لنا كل الممكنات التي يمكن أن تساعدنا على تنفيذ اختياراتنا في هذه الحياة، طاعةً أو حتى معصيةً؛ لكي يكون رب العزة سبحانه كما هو العدل عند حسابنا.
وهناك بطبيعة الحال، من رحمات الله تعالى الكثير، مثل صرف الإنسان عن المعاصي وصرف بعض الابتلاءات، ولكن هنا موضع الحديث، هو تحديد أساس الأمور بدقة، ووضعها في نصابها.
ونفرد أهمية خاصة لقانون الاستطاعة، حيث إن مخالفته هي من أكثر أسباب الفشل شيوعًا في حياة الناس، من دون أن يدروا، حيث إن تحميل الإنسان لنفسه فوق طاقتها يرفع عنه معينات الله عز وجل، إلا في حال أن شاء الله تعالى أن يرحم عبده، ولكن الأصل أن العمل وفق قانون الاستطاعة فقط، هو ما يضمن للإنسان النجاح.
ولا يعني ذلك القعود والكسل؛ لأن الإنسان من جانب آخر، مُطالَب بأن يجتهد لتطوير قدراته، وهو لا تعلم مقدار استطاعته بالضبط، ولا ما كتبه الله تعالى له من الرزق في كل المجالات، ولذلك فواجب على الإنسان السعي الدائم، في إطار القوانين التي وضعها الله تعالى له.
ويتصل بذلك قانون آخر، وهو قانون الملاءمة، وهو أن يقوم الإنسان بما هيأه الله تعالى للقيام به، وفي حال تجاوزه لذلك، فإنه يكون يتجاوز بالفعل نطاق استطاعته.
وبالتالي فإن عند حدوث خلل أو فشل فهذا عائد إلى الإنسان؛ لأنه مَن يقوم بمخالفة الاستطاعة والملاءمة، وبالتالي يخالف قوانين الله تعالى الربانية، وهي لا يمكن مخالفتها؛ لأنها أساس الكون، ووضعها الله عز وجل ثابتة لا تبديل فيها، لضمان توازنه، وبالتالي استمراريته وعدم انهياره إلى أن يشاء الله تعالى، ولم يتركها للبشر ولا لأي مخلوق آخر؛ لأنه يعلم نقصهم وعوارضه.
عند حدوث خلل أو فشل فهذا عائد إلى الإنسان؛ لأنه مَن يقوم بمخالفة الاستطاعة والملاءمة، وبالتالي يخالف قوانين الله تعالى الربانية، وهي لا يمكن مخالفتها؛ لأنها أساس الكون، ووضعها الله عز وجل ثابتة لا تبديل فيها، لضمان توازنه، وبالتالي استمراريته وعدم انهياره
وهو أمرٌ واضح في حالة المرأة التي تصر على تجاوز سماتها، تحت مبرر أو قناعة خاطئة أن الإسلام قد أتى بتشريعات تضعها في مرتبة تالية للرجل، وهذا أمرٌ خاطئ بالكلية، فكل ما في الأمر، أن المرأة تختلف عن الرجل، وبالتالي فهي بحاجة لأحكام تتلاءم مع طبيعتها، ولا يعبِّر ذلك إطلاقًا عن ضعفها؛ حيث إن آلام الحمل والوضْع لا يستطيع رجل واحد أن يتحملها، ولا يعبر ذلك عن ضعفٍ في الرجل. فقط هو غير مخلوق مؤهل لذلك.
وبشكل عام فإن هذه الآيات تلخص الموقف بالكامل: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى (42)} [سُورة “النَّجْم”].
إذًا، نحن نخلُص من ذلك إلى أن الله تعالى خلقنا لكي نعبده وننشر عقيدته ومنهاجه، ونعمِّر الأرض التي استخلفنا فيها، مع منح الإنسان الإمكانيات اللازمة لذلك من أجل القيام بمهامه الجسيمة هذه.
وأدواتنا في هذا كله، كما قال النبي “عليه الصلاة والسلام”، أن نكون للناس معلِّمين، وننشر بينهم الأخلاق، وهو ما يتفق مع قوله تعالى في القرآن الكريم: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [سُورة النحل-الآية:125].
ولمَّا قلنا إن السُّنَّة النبوية من مصادر الشريعة الأساسية التي نعلم بها “الطريقة”؛ فإن الممارسة النبوية والسيرة النبوية، هي من أهم المعبِّرات عن هذه السُّنَّة، وفيها الكثير عن التربية النبوية، وكيف خلقت جيلاً قاد العالم إلى النور في عقود قليلة جدًّا، وأسقطوا أصنام الشِّرْك والظلم والاستبداد.
والرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مارس التربية (13 عامًا)، قبل أن ينطلق إلى ممارسة السياسة وتكوين الدولة، وهو ما لم يستغرق من سنوات البعثة، سوى (10سنوات)، مما يدل على أهمية التربية الأخلاقية والفكرية في حياتنا .
(المصدر: موقع بصائر)