مقالاتمقالات مختارة

وهمية الحدود بي الكيانات الدعوية.. الواقع والمأمول

وهمية الحدود بي الكيانات الدعوية.. الواقع والمأمول

بقلم محمد الغباشي

من أهم التمارين التي يتدرب عليها طلاب العلوم السياسية لتطوير قدراتهم التحليلية في مجالات العلاقات الدولية: أن يمسك الطالب بخريطة، ويُمعِن النظر فيها ويدرسها، متجاهلاً الحدود السياسية الموجودة عليها، كي تتسنى له رؤية الوضع الحقيقي للعلاقات الدولية. ويسفر هذا التمرين عن تكوين بنية أساسية من شأنها توسيع الآفاق الذهنية للطالب نحو رؤية بعيدة المدى. فالحدود السياسية تمثل أحد المعطيات الثابتة في العلاقات الدولية، إلا أن هذا يحول أحياناً دون قدرة السياسيين على رؤية مجالات التأثير ذات المدى الطويل.

موضع الشاهد في هذه الفقرة هو مسألة تدرَّب السياسيين وخبراء العلاقات الدولية على تجاهل الحدود السياسية بين الدول كي يتمكنوا من تطوير قدراتهم التحليلية في المجال محل الدراسة. فإذا استثمرت الكيانات والمؤسسات الإسلامية هذه المنهجية في المجال التربوي المؤسسي لتطوير نفسها وقدرات أفرادها، بل لتطوير فكر الحركة الإسلامية بصورة عامة فيما يخص هذا الجانب؛ فيمكننا القول: إنه من الضروري على قادة تلك المؤسسات في أي إقليم أو قُطر أو مدينة أن يُنَمُّوا لديهم مَلَكَة النظر بين حين وآخر إلى الخريطة الدعوية الواسعة، متجاهلين الحدود بين كياناتهم أو مجموعاتهم أو جمعياتهم، فينظروا إلى تلك المؤسسات نظرة أشمل على أنها تكتل واحد كبير، بين أعضائه أرضية مشتركة ضخمة، والفروق البينية بينهم ليست إلا كما الفروق الفردية بين الأشخاص، قد تكون مؤثرة على التفكير والسلوك الفردي وتبني بعض القضايا المحورية، لكنها لا تعزلهم عن بعضهم، ولا تعادي بينهم، بل يظلون جزءاً من كيان رساليٍّ كبير له هدف إستراتيجي واحد.

يضاف إلى ذلك: النظر إلى تلك الفروق والاهتمامات على أنها اختلافات نتجت عن تباين التخصصات والرؤى الجزئية فحسب، فالكيانات ذات التخصص (الاجتماعي) على سبيل المثال ربما يكون لها تصور (تربوي) مختلف عن الكيانات ذات التخصص (العلمي) مثلاً، فالأولويات التعليمية والتربوية لها ستكون مختلفة عن نظيرتها التي تنشئ عليها أفرادها والمنتمين إليها في الكيان الآخر. والأخرى ذات التخصص (العلمي) ربما يكون لها اختيارات (فقهية) مثلاً مختلفة عن نظيرتها ذات التخصص (الاجتماعي)… وهكذا؛ نظراً لاختلاف حقل عمل كل منهما أولاً، ولاختلاف البيئة ثانياً، وربما لاختلاف الرؤية والنظرة للواقع ثالثاً.

وهذا يؤدي بطبيعة الحال إلى تعددية النظرة إلى الأحداث والوقائع وتحديد الأولويات بما لا يتنافى مع المبادئ الأساسية الحاكمة لكلٍّ منها، فما يُعدُّ أولوية في قُطر أو إقليم ليس بالضرورة أن يكون أولوية في إقليم آخر، والقضية المحورية لدى كيان اجتماعي مَّا بالتأكيد ستكون مختلفة عن مثيلتها لدى كيان تربوي أو علمي مثلاً. والمنوط به تحديد تلك الأولويات هو الكيان نفسه لا أي كيان أو تجمع أو مجموعة أخرى. أما في القضايا المصيرية التي تلقي بظلالها على الجميع فلا مناص فيها من رؤية تجميعية واحدة تحدد الهدف وتوحد المصير.

إلا أن واقع كثير من الكيانات الدعوية والإسلامية مختلف تماماً عن ذلك، وهو ما أصاب بعضها بانتكاسات وخسائر في كثير من المجالات نظراً لضعفها في مجال مَّا أحياناً، أو قصور رؤيتها في مجال غير مجال تخصصها، أو تقديرها الخطأ للأولويات في محيط إقليمها أو قُطرها، فبعض العاملين ما يزال قابعاً خلف حدود كيانه ومؤسسته فحسب، لا يجاوزه ولا يتعداه، لا في النظر، ولا في التعاون، ولا على مستوى الممارسة الواقعية على الأرض، ولا حتى على مستوى التماس الأعذار في إصدار الأحكام على الآخرين، فلا يكاد يرى سوى ظِلِّه ورؤيته الشخصية التي ربما تناسبه ولا تناسب غيره تبعاً لتغير الزمان والمكان والحال والاهتمامات، فيظل حبيس عملية التنظير الحالمة البعيدة تمام البعد عن واقع الكيانات الأخرى. فيحكم على تجارب الآخرين من خلال رؤيته هو أو تجربته السابقة فحسب، ولا يراعي التعددية المكانية والزمانية التي تنبني عليها كثير من الأولويات والرؤى. يحدث هذا كله في الوقت الذي تمكن فيه العالم بكثير من تكتلاته الكبرى من فهم هذه المعضلة، رغم ما بين أعضائه من اختلافات جوهرية في العقيدة واللغة والثقافة والسياسة، فتناسى الحدود والاختلافات لأجل الاجتماع على هدفٍ مَّا يوحد جميع الجهود لتحقيقه واقتناصه.

وتأتي أهمية هذه النظرة المنتزعة للحدود للكيانات الإسلامية في الآتي:

1-   تحديد قوَّتها الحقيقية مجتمعةً بناءً على هذه النظرة الشاملة؛ فهناك من المشروعات ما يفوق قدرة مؤسسة أو كيان أو مجموعة واحدة، وهذا هو الوضع الأغلب في المشروعات الإستراتيجية الكبرى التي تهدف إلى إحداث تغيرات وتحولات كبيرة في المجتمع على المدى الطويل، فمن الحكمة حينها اشتراك أكثر من مجموعة أو كيان في تنفيذ تلك المشروعات والإشراف عليها؛ خاصة تلك المشروعات التي تحتاج مدى زمنياً طويلاً وجهوداً مكثفة لتحقيق النتائج المرجوة، فمحدودية إمكانات بعض الكيانات تصيب في كثير من الأحيان أفرادها بالإحباط؛ إما بسبب عدم القدرة على خوض التجارب الكبرى من حيث الأصل؛ فيشعر الأفراد بحالة من التقزم والضعف، وإما بسبب الفشل الذي يواجهونه عند خوضها لعدم تمتعهم بالإمكانات المادية واللوجستية اللازمة.

بالإضافة إلى أن تلك القوة الحقيقية المجتمعة يمكن استخدامها لإحداث تغيير  في كثير من المجتمعات للحصول على مكاسب اجتماعية: كسنِّ القوانين أو تغييرها، أو اتخاذ قرارات أو التراجع عنها بما يتناسب مع المصلحة العامة للمجتمع. وهذا واقع كثير من اللوبيات في مناطق عدة من العالم، يجمعهم هدف – ولو جزئي – رغم ما بينهم من اختلافات ربما تكون كبيرة للغاية في بعض الأحيان.

2-    استثمار مَواطن الاتفاق والمشتركات الدعوية بين المؤسسات المختلفة في إضفاء بُعدٍ تعاوني، والظهور بمظهر أقوى في مواجهة الأفكار المشوَّهة، وشَغل مساحات أوسع في التأثير، واستلاب نقاط التمركز الهدامة من أيدي العابثين. ففي حالة وجود حالة تنافسية بين العديد من الاتجاهات والتيارات في مجال مَّا فإنه من الحكمة انضمام الكيانات ذات الاتجاهات المتسقة إلى بعضها لتكوين كتلة قوية كبيرة بدلاً من الكتل الصغيرة الضعيفة أو الهشة أو ذات الأثر المحدود، وهذا من شأنه بلا شك أن يزيد من فرص التفوق في هذا الميدان التنافسي.

3-   الاستفادة من نقاط القوة لدى كل مؤسسة أو تجمع؛ فكل مجموعة من المجموعات والكيانات لها ما يميزها من التخصصات، سواء الدعوية أم التربوية أم العلمية أم غيرها، وتفوَّقَ فيها أعضاؤها، وذلك بناءً على اهتمامات أفرادها، أو تخصص قياداتها، أو رؤيتها المستقبلية، أو رسالتها. والتعاون في تبادل الخبرات فيما بين المؤسسات سيصب في النهاية للصالح العام لتطوير المؤسسات وتخصصات الأفراد. وبدلاً من حيازة أرباب كيان مَّا للسبق في مجال واحد مع تضاؤل إلمامه المعرفي بالمجالات الأخرى فيمكن لكل فريق سدُّ الثغرة التدريبية لدى الفريق الآخر وتكوين قاعدة معلوماتية أساسية لأبناء الكيان الحليف.

4-    استشراف المستقبل وتحديد رؤية بعيدة المدى لما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع في الغد، وتَوقُّع المشكلات والمخاطر التي قد تصيب المؤسسات والكيانات، وإيجاد مخرج مبني على تلك الرؤية الاستشرافية، بلا مبالغة في تحديد الإمكانات، ولا تقليل من شأن القوة الدعوية الموجودة في الإقليم؛ بل بحساب دقيق ونظرة متفحصة في الواقع على الأرض. وهو أمر ربما لا يتسنى إلا من خلال التقدير الحقيقي ورفع الحدود الفاصلة بين التجمعات والكيانات والمؤسسات.

إن من شأن ذلك أن يخلق للمؤسسات الدعوية بُعداً إستراتيجياً وحركياً مختلفاً عن وضعها المشتَّت الحالي، والذي من الممكن أن يكفل لها حالة من الاتزان في اتخاذ القرارات التوسعية أو الانكفائية أو الاكتفائية لكن بناءً على تحليلات دقيقة ورؤية أشمل للواقع الدعوي والحركي.

الحدود السياسية كما عرَّفتها كتب العلاقات الدولية: هي خطوط وهمية من صنع البشر، ولا وجود لها في الأصل. وهي وإن كانت وهمية في الرسم إلا أنها ليست وهمية في الحقيقة، فقد صار لها أثر سياسي وقانوني في العصر الحديث، ونحن إذ ندعو لإطلاق العِنان لأذهاننا في تصور وضع دعوي متحرر، إلا أننا نتمسك بوصفها كما هي، فهذا يمنحنا قدراً أكبر من التحرر في النظر للكيانات الأخرى من جانب، وقدراً آخر من الانتماء للكيان الأساسي من جانب آخر.

ختاماً:

الحدود تمثل أحد المعطيات الثابتة في العلاقات بين المؤسسات، وهي مما ينبغي اعتباره والتعامل معه، غير أن هذا المعطى يحول دون قدرتنا على رؤية مجالات التأثير ذات المدى الطويل إذا تشبثنا بوجوده الصلب، وضخَّمنا من حجمه الضئيل، لكن إذا قدَّرناه بقدره، ولم يكن سوى إطار لتحديد المسؤوليات والانتماءات الفرعية والاهتمامات، وتعاملنا معه على هذا الأساس؛ فيمكننا حينها الاستفادة من وجوده، ووضعه في موضعه الصحيح.

المصدر: مجلة البيان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى