وقفة مع التجربة الإسلامية في السودان
بقلم د. محمد عياش الكبيسي
قبل ثلاثين سنة، استبشر التيار الإسلامي بالانقلاب الذي قاده الرئيس عمر حسن البشير، وتصاعدت الآمال بالنموذج المرتقب للحكم الإسلامي المعاصر، وصار الناس يتداولون الأخبار والقصص عن زهد الرئيس البشير وتواضعه وحكمته، حتى سمعت من أحد الدعاة المشهورين تشبيهه لعمر البشير بعمر بن عبدالعزيز.
هذه الآمال لم تكن على الصعيد السوادني فقط، فالخطاب الإسلامي بطبيعته يستوحي صورة الأمة الواحدة والمشروع الجامع، وقد اعتضدت هذه الآمال بدراسات عن الثروات الطبيعية الهائلة «السلة الغذائية العالمية»، والتي عطلتها الأنظمة السابقة ونزعت بركتها، وما زلت أذكر أن أحد الأساتذة السودانيين الأفاضل كان قد حدثني أن بعض خطباء الجمعة في السودان بدأوا في ذلك الوقت يحذّرون الناس من الانغماس في الترف والتعلق بزينة الحياة الدنيا.
مضى الحكم الجديد في طريقه ليثبت أنه لا يختلف عن الحكومات السابقة، وأن الشعب السوداني يغرق أكثر في معاناته اليومية، مع مؤشرات قوية على انتشار سرطان الفساد في أغلب مفاصل الدولة، إضافة إلى تقسيم السودان الذي حصل بشكل عملي ورسمي.
سياسة الوعود المتكررة لم تعد مقنعة للشارع السوداني، بعد أن أتيحت لهذا الحكم أطول فرصة حكم في تاريخ السودان، ولذلك لجأ البشير في خطاباته الأخيرة إلى استخدام الخطاب الديني الوعظي، مؤكداً أن هذا ابتلاء رباني تعرض له الأنبياء والصحابة والأولياء والصالحون: «أشدكم بلاء الأنبياء.. ثم الأمثل فالأمثل»، وهكذا تغيرت النغمة من وعود بالسعادة والرفاه والازدهار، إلى مواعظ في الصبر وتحمل المصائب والابتلاءات!
الجماعات الإسلامية المؤيدة لحكم البشير أصبحت في وضع حرج، فهي بين أن تبقى في سفينة النظام وليكن ما يكون، أو أنها تلتحق بحراك شعبي تقود دفته جماعات تختلف معها في أيديولوجيتها وثقافتها وتوجهها.
الشعب السوداني بشكل عام هو أيضاً كأنه يمرّ بمرحلة انتقالية ضبابية وغير واضحة، ليس في شكل النظام أو السلطة فحسب، بل حتى على صعيد البنية الثقافية والنظرة الكلية لعلاقة الدين بالسياسة ونحو ذلك.
إن من الإنصاف أن نقول: إن «الإسلاميين» من حقهم أن يمارسوا تجربتهم كالآخرين، وأن يسعوا إلى السلطة كما يسعى الآخرون، وكما أن القومي أو البعثي أو اليساري أو اليميني يصيب ويخطئ وينجح ويفشل، والمجتمع يتوقع كل ذلك منهم، فالإسلامي كذلك، ومن حق الإسلاميين أيضاً أن يحاولوا مرات ومرات، حتى لو فشلوا كما هو حق غيرهم، هكذا هو العمل السياسي في كل العالم، إلا أن مجتمعاتنا الإسلامية لا تعامل الإسلاميين بهذا المعيار، والسبب قد يكون الخطاب الإسلامي نفسه، والذي يميل في الغالب إلى رفع سقف التوقعات من خلال المبالغة في تزكية الذات بنوع من الطهرانية الدينية المقدّسة، وإقحام «التأييد الرباني» والسند الغيبي في هذا الخطاب، حتى يخيّل إليهم أن أية قوة في العالم لن تستطيع النيل منهم، لأنهم «أهل الله» و»لا غالب إلا الله»، ثم إذا انتكسوا قالوا: هذا بسبب التآمر العالمي! هذه معادلة لم تعد مفهومة، وقد ولّدت ردود فعل مرتبكة ومحيّرة داخل هذه الجماعات فضلاً عن غيرها، والأخطر من كل هذا أن يحكم المجتمع على الإسلام بتجربة هؤلاء الإسلاميين.
(المصدر: صحيفة العرب الالكترونية)