إعداد د. محمد بن عبدالله السلومي
تبرز أهمية الأوقاف ودورها في التمويل من خلال قوة التشريعات الإسلامية وشمولها للجانب الرعوي والتنموي والاستدامة المالية، حيث توفير الموارد المالية الثابتة والدائمة، وما فيها من تحقيق التكافل المجتمعي وتلبية حقوق الأغنياء والفقراء والمساكين على حدٍّ سواء. وإذا كانت الزكاة مورداً ثابتاً في التشريع الإسلامي لعلاج حالات الطوارئ والأزمات والإغاثة مما يُعدُّ من الجوانب الرعوية؛ فإن المتتبع للتشريع الإسلامي يجد نوعاً آخر من الموارد المالية يقوم على تعزيز التنمية المستدامة والشاملة؛ حيث المؤسسة التمويلية (الوقف) التي تُعد من مقومات التوازن المجتمعي والتكافل الاجتماعي الذي لا ينقطع، مما جعل فكرة الوقف موضع إعجاب لدى مفكري الغرب ومؤسساته، حينما استفاد الغرب بقطاعه التطوعي من أهمية الاستدامة المالية في الوقف الإسلامي؛ فعمل بهذه الثقافة من خلال ما يسمى لديه (Trust) أو (Endowments) حتى أصبحت أوقافه جامعات ومدارس ومستشفيات غير ربحية تسد نقص الخدمات الحكومية بتوفير أكثر للمقاعد الدراسية، والأسرة الطبية بأجور غير ربحية، وليتحقق بهذا كذلك توفير فرص العمل للبطالة، بل ومعالجة تغوُّل الاقتصاد الرأسمالي ووحشيته كما هي التجربة الأمريكية الناجحة.
ومن يتأمل البُعد القوي والكبير للأهداف الأساسية للوقف الإسلامي يدرك أنه قوة للأمة وسند للدولة والمجتمعات عبر التاريخ, سيما مع ضَعف السلطة الحكومية أو انكسار اقتصادها، حيث يبقى الوقف مؤسسة اعتبارية تمويلية تُعزِّز كرامة الأمة، واستقلاليتها، والحفاظ على مكتسباتها؛ وفي الوقف تأسيس وحفظ لكيان الدول الاقتصادي وتمويله، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما حمى –أي حبس– النقيع لخيل المسلمين، وكما فعل عمر رضي الله عنه من بعده حينما حمى السَّرَف والرَّبَذَة لإبل الصدقة؛ ليكون نظام الوقف بهذا التشريع مؤسسة مستدامة لتمويل المصالح العامة للدولة والأمة، ولهذا بادر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالتصدق بمالٍ له في عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وكان يقال له ثمغُ، وكان نخلاً، فقال عمر: «يا رسولَ اللهِ، إني استفدتُ مالاً، وهو عندي نفيسٌ، فأردت أن أتصدق به، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (تصدقْ بأصله، لا يباع ولا يوهبُ ولا يورثُ، ولكن ينفق ثمرُه). فتصدق به عمرُ، فصدقتُه تلك في سبيلِ اللهِ، وفي الرقابِ، والمساكينِ، والضيفِ، وابنِ السبيلِ، ولذي القربى، ولا جناحَ على من وَلِيَهُ أن يأكل منه بالمعروفِ، أو أن يؤكِّلَ صديقه غير متموَّلٍ به»[1]. فتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عمر رضي الله عنه في ماله بأرض خيبر تحبيس للأصل وتسبيل للمنفعة لتبقى الخيرية وتدوم أعمال هذه التنمية وتستمر.
ومن ذلك أن الصحابي الجليل مخيريق بن النضر رضي الله عنهأوصى بأمواله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع فيها ما أراد الله، وكانت سبع حوائط -بساتين- فلما استُشهد يوم أحد جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقفاً[2]، ولم يضعها أو يضع ريعها لبيت مال المسلمين رغم أنه وليُّ ذلك الأمر، وهو نبي الأمة، وقائدها، ومربيها، والمشرِّع لها.
لقد استطاعت الدول الإسلامية المتعاقبة بفتوحاتها للأراضي والبلدان والأقاليم، والأمة برسالتها من خلال ما تملكه من موروث حضاري علمي وفقهي تأمين معظم احتياجات مجتمعاتها من أوقافها, حيث التشريعات لحالات احتياج المجتمع المختلفة العاجلة والآجلة، بل وتأصيل الحقوق بين السلطتين التشريعية والتنفيذية فـي (أوقاف الأمة) مما ولَّد التوازن بين الحقوق, سيما حينما كبحت الأوقاف جماح طغيان السلطة وجشع التجارة، بل وأصبحت مصدر حضارة إسلامية مشهودة شهد لها الأعداء قديماً وحديثاً.
وتُعدُّ الأوقاف عبر تاريخ الأمة الإسلامية خير مساند للمجتمعات والشعوب مُعزِّزة بهذا قوة الدولة الاقتصادية، وقد شاعت ثقافتها, وأصبحت أساساً عاماً لقوة الخلافة الإسلامية في عصورها الزاهية، بل إن الأمة ومجتمعاتها لم تتأثر بضعف الدولة أو سقوط الحكومات كما كان عليه الحال حينما غزاها عدوها عبر التاريخ من الشرق حيناً كالتتار أو الغرب أحياناً كثيرة كالصليبيين، ولهذه الأهمية يعمد المحتل عند وصوله إلى تعطيل الأوقاف أو فعاليتها بصور متعددة وأساليب متنوعة.
إن (الوقف) بتشريعاته الإسلامية وتطبيقاته الإدارية الحديثة يعتبر بحق الحاضنة الأساسية والمحفظة المالية للمؤسسات والجمعيات الخيرية والأهلية (القطاع الخيري) بكل ما تعنيه الحضانة من معنى، لتقديم ما تفتقر إليه مؤسسات هذا القطاع من تمويلٍ وعون.
والقطاع التطوعي الخيري أو ما يُسمى اليوم القطاع الثالث -المتمثل بمعظم جوانبه بالوقف- خير برنامج إصلاحي لكثير من واقع العالم العربي والإسلامي في جوانب التمويل والتنمية، سيما فيما يخص حقوق الإنسان الدينية، والعلمية، والثقافية، والاجتماعية؛ حيث تتكفل الأوقاف كمؤسسة مانحة بدعم الجمعيات والمؤسسات المعنية التي تحتاج إليها المجتمعات في عصرها الحاضر سيما في ظل الصراعات ومنافسة الأديان والحضارات، وافتعال الأعداء للأزمات والحروب.
وقد ركَّز خبير الأوقاف الشيخ صالح الحصين –رحمه الله- على أهمية إعادة هذه المؤسسة التمويلية لدورها الحقيقي وفعاليتها القوية التي كانت عبر التاريخ الإسلامي أساساً لبناء الحضارة الإسلامية, بل وشَخَّصَ جوانب وأسباب ضعف هذه المؤسسة التمويلية في العصر الحاضر في دراسة له بعنوان (الوقف الخيري بين الأمس واليوم) حيث قال عن مبادئ فعالية الأوقاف وأثرها الإيجابي: «لقد ساعد على فعالية نظام الوقف في حياة المسلمين المبادئُ التي قام عليها، وأهمها:
1- امتناع التصرف في أصل الوقف، وقد تحققت بهذا المبدأ حماية الوقف وعدم تعريضه لطيش القائمين عليه أو سوء نيتهم.
2- ما استقر لدى الفقهاء من أن شرط الواقف الصحيح مثل حكم الشارع، فتحققت بذلك حماية الوقف واطمئنان الواقف إلى استمرار صرف وقفه في الأغراض التي تهمه ويُعنى بها.
3- ولاية القضاء على الأوقاف، فتحققت بذلك حماية الوقف من تدخل السلطات الإدارية الحكومية.
لقد أثبت التاريخ أن أي إخلال بمبدأ من هذه المبادئ كان مسماراً يُدق في نعش الوقف؛ فحينما استولت الدول الاستعمارية على بلاد المسلمين في القرنين الماضيين، وكانت تدرك أن الصراع السياسي يعتمد في حسمه على نتيجة الصراع الثقافي والحضاري، كان همُّ الاستعمار الأول القضاء على الحضارة الإسلامية أو إضعافها إلى أقصى درجة ممكنة. ولما كان الوقف هو سند الحضارة الإسلامية وأساس قوتها، كان من الطبيعي أن يتوجه المستعمر إلى إضعاف نظام الوقف أو القضاء عليه، وكانت وسيلته في ذلك إدخاله في مجال التنظيم الإداري الحكومي تمهيداً لوضعه تحت سلطة الإدارة الحكومية وسيطرتها، وقد حققت هذه السياسة نتائجها فقُضِي على نظام الوقف تقريباً في العالم الإسلامي, أو شُلَّت فعاليته، واستمرت هذه السياسة المشؤومة في بلدان العالم الإسلامي حتى بعد زوال الاستعمار»[3].
وباختصار؛ فالأوقاف تُعدُّ من القطاع الخيري وإليه، ولكنْ عطاءها الكبير –حسب التاريخ ووفق الإدارة الحديثة- إنما هو باستقلاليتها الإدارية عن القطاع الحكومي وبيروقراطيته، ولذلك فإن جوانب القصور المتكرر في مؤتمرات الأوقاف وملتقياتها، بل ونقص بحوث الأوقاف الثرية ودراساته الوفيرة الكامن فيها عدم مناقشة هذا الجانب المهم، وهو: طبيعة العلاقة بين الأوقاف ومؤسسات القطاع الحكومي وآلياتها، فهذه العلاقة في معظم دول العالم العربي إن لم يكن جميعها ربما تُعدُّ من العوائق الكبرى لِتَحوُّل الوقف إلى مؤسسات تمويلية تنموية مُنَافِسةً في تقديم الخدمات في جميع المجالات.
ويمكن أن يكون من الحلول العملية لهذه الإشكالية المعضلة استنساخ تجربة مجالس الغرف التجارية بهيكليتها الإدارية واستقلاليتها كنموذج يُحتذى به في إنشاء (هيئة أهلية عليا للدولة) معنية بالأوقاف وإداراتها واستثماراتها، وتتشكل هذه الهيئة الأهلية من كبار الموقفين، والمانحين، وأصحاب العطاء، ومن ذوي الخبرات الاقتصادية والإدارية، ومن جهات العمل الخيري المؤسسي، وأعضاء مستشارين من القطاع الحكومي، ويُنتخب منها مجلس إدارة، ورئيس، وأمين وفق النظم الإدارية الحديثة، لتكون مستقلة عن القطاع الحكومي وإجراءاته الإدارية البيروقراطية، ومرتبطة بنظام وتشريعات تحقق المصلحة العليا للدولة، ولتتكامل هذه الهيئة مع دعم القطاع الحكومي، ويتعزز بهذه الاستقلالية عطاء القطاع الأهلي التجاري كذلك.
وعن شيء من هذه الرؤية ومقترح استقلالية الأوقاف عن مؤسسات القطاع الحكومي واستقلالها كقطاع ثالث كتبت فهدة بنت سعود بن عبدالعزيز، قائلة: «والقطاع الثالث في المملكة يحتاج لأنظمة تدفع به نحو التقدم.. فالأوقاف على سبيل المثال يجب أن تكون ضمن مسؤوليات القطاع الثالث وإحلاله من القطاع العام والخاص تدريجياً، لأن ذلك سيتيح للمجتمع تقديم دعمه بالشكل المثالي»[4]، فهذا الواقع للأوقاف في معظم العالم العربي والإسلامي بحاجة ماسة إلى إعادة النظر حول موضعه النظامي وموقعه الإداري الصحيح من قطاعات الدولة، لتعود الأوقاف مصدراً للحضارة من جديد، ولإعادة دورها في النهضة بشراكة تنموية عملية بين المجتمعات والحكومات، والله ولي التوفيق.
_______________________________________
]1] رواه البخاري في صحيحه، حديث رقم (2764).
[2] محمد بن سعد، الطبقات الكبرى – السيرة الشريفة النبوية، المجلد الأول، بيروت: دار صادر، ص501-503.
[3] صالح الحصين، مقال بعنوان: (تطبيقات الوقف بين الأمس واليوم): http://rowaq.org/?p=19.
[4] فهدة بنت سعود آل سعود، مقال بعنوان: (رؤية المملكة في مستقبل دور مؤسسات العمل غير الربحي “1”)، صحيفة مكة، بتاريخ 2 ربيع الثاني 1438هـ (31 ديسمبر 2016م): http://bit.ly/2vfCqTQ