مقالات

وقفات مع ظاهرة الهيئات الاسلامية الحديثة

وقفات مع ظاهرة الهيئات الاسلامية الحديثة

د. عامر الهوشان – مركز التأصيل للدراسات والبحوث

إذا كانت وحدة صف المسلمين واجتماع كلمتهم غاية عظمى تطمح لها نفوس المسلمين في كل أنحاء العالم، وتسعى إليها جهود المخلصين من أبناء هذه الأمة، فإن اجتماع كلمة علماء المسلمين وقادة الفكر والعلم فيهم، والتقاء مختلف توجهاتهم وآرائهم على القضايا الكبرى التي تهم الأمة، هي البوابة الأمثل لتحقيق وإنجاز الوحدة المطلوبة والأمل المنشود.

لقد كان التفاف معظم علماء المسلمين من السلف الصالح حول قضايا أمتهم ونصرة دين ربهم هو العنصر الأهم لتجاوز العقبات والأزمات التي ألمت بهذه الأمة، والسبب الأبرز في الخروج من المحن التي كادت أن تذهب بمعظم دول المسلمين، ولعل من أمثلة ذلك ما حصل حين اجتاح التتار العالم الإسلامي، حتى قيض الله تعالى لهذه الأمة المظفر قطز الذي دحرهم في عين جالوت، وكان من أسباب ذلك النصر العظيم التفاف الناس حول العز بن عبد السلام وأمثاله من علماء ذلك الزمان، بل والتفاف العلماء حول بعضهم مع العز بن عبد السلام، فقد هم أهل مصر وعلماؤها بالرحيل مع “العز”  حين نوى الأخير ترك القضاء ومصر كلها، بعد أن أفتى بعدم جواز ولاية مماليك الملك الصالح حتى يحرروا، وخالفه السلطان في ذلك، فكان من أثر التفاف العلماء وعامة الناس معه أن ترضّاه السلطان ووافق على تنفيذ حكم الشرع.

لقد علم أعداء هذه الأمة – ومن يواليهم من أبناء جلدتنا وللأسف الشديد – مصدر قوة المسلمين ومنبع عزهم ومجدهم، المتمثل في دينهم وإسلامهم، والذي يحمله إلى عامة المسلمين العلماء والفقهاء من أبنائها، فعملوا طوال عقود مضت على زرع بذور الفرقة والخلاف بين هذه الطبقة من المسلمين، وحاولوا منع أي التقاء أو اجتماع فيما بينهم، ولكن الله غالب على أمره، فسارت الأمور بعكس ما يشتهي ويتمنى أعداء الإسلام والمسلمين.

نعم… لقد ظهرت بعض الهيئات الإسلامية الجامعة لعلماء المسلمين، كالهيئة العالمية للعلماء المسلمين؛ وهي هيئة ذات شخصية اعتبارية، أنشئت تنفيذاً لقرار المؤتمر الإسلامي العام الرابع المنعقد بمكة المكرمة عام 1423هـ، لتوحيد وبيان مواقف علماء الأمة الإسلامية ومفكريها في مختلف قضاياها.

بل إن هيئة كبار العلماء في مصر كانت قد ظهرت منذ عام 1911م، وهي أعلى مرجعية دينية تابعة للأزهر الشريف، إلا أن ما يعنينا في هذا المقام الهيئات الإسلامية التي ظهرت مؤخرا، وازداد ظهورها وعددها بعد أحداث الاحتلال الأمريكي للعراق، واندلاع ثوارت ما عرف فيما بعد “بالربيع العربي”.

لست ههنا في معرض تقييم لمنهجية تفصيلية أو تدقيق أو تأصيل للمواقف ، – فإن لذلك موضع آخر – لكنني قصدت الإشارة إلى وجود تلك الهيئآت التي يغلب عليها النفع ويغلب على مواقفها الصواب وتعمل لصالح أهل السنة وقضيتهم وتسعى لحل مشكلاتهم والدفاع عنهم .

إن ظاهرة نشوء هذه الهيئات الإسلامية يستدعي التأمل من خلال بعض الوقفات:

الوقفة الأولى: مع إعلان ظهور الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي أنشأ في 24 من جمادى الأولى 1425هـ الموافق 11 من يوليو 2004م، والذي كان بداية لظهور ما يعرف بالهيئة البعيدة عن الحكومات والدول، تهدف بالدرجة الأولى – حسب ما جاء في بيان التأسيس – إلى تشكيل مرجعية دينية للمسلمين فقهيًّا وثقافيًّا في جميع أنحاء العالم، وكان الاتحاد وما زال برئاسة الدكتور يوسف القرضاوي.

ومع الاتهامات الكثيرة بالعمالة والقرب من التشيع وغيرها التي وجهت للاتحاد، منذ فكرة نشوء وظهور هذه الهيئة العلمية العالمية، سواء من حيث التشكيك وإثارة الريبة في مكان انعقاد مؤتمر التأسيس الذي كان في لندن – وليس في عاصمة عربية او إسلامية – أو من حيث الزمان الذي تم فيه إعلان ظهور هذه الهيئة، والذي أعقب احتلال الولايات المتحدة الأمريكية لكل من أفغانستان والعراق، أو فيما يخص التشيع حيث فتح ابوابه لبعض المراجع الشيعية ، إلا أن مواقف الاتحاد الداعمة لقضايا المقاومة الإسلامية في كل من العراق أو فلسطين، وكذلك مواقفه من الأحداث الجسام التي ألمت بالأمة والدول الإسلامية، وفتاواه فيما يخص قضايا المسلمين العادلة ومطالبهم المشروعة، لا تشير إلى تلك العمالة التي اتهم بها ، كما أن مراجعات رئيس الاتحاد فيما يخص التشيع واتخاذه مواقف قوية تجاه الشيعة وإعلانه رفض مساعي التقارب وغيرها رد تلك التهمة .

بل إن غالب العلماء الذين ينضون تحت عباءة هذا الاتحاد هم من المشهود لهم بنقاء المواقف وإيجابيتها.

الوقفة الثانية: مع هيئة علماء المسلمين بالعراق، التي تعتبر من بواكير الهيئات الإسلامية الحديثة ظهورا، فقد تم إنشاؤها إبان الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003م، ومع أنها كانت في بداية  الأمر مجرد هيئة تقوم بمهام الأعمال الإغاثية والنشاطات الاجتماعية والدعوية، بالإضافة إلى المرجعية الدينية المتمثلة بإصدار الفتاوى التي تهم المسلمين بالعراق، إلا أنها سرعان ما تحولت – بفعل قرار بريمر بتشكيل مجلس الحكم الانتقالي على أسس طائفية – إلى قيادة العمل المقاوم للاحتلال الأمريكي والصفوي، بالإضافة للقيادة الإستراتيجية في عملية التحرير والبناء للعراق القادم.

كان البيان الأول للهيئة في يوليو تموز عام 2003 قويا وهجوميا على نظام المحاصصة الطائفية، حيث رفضت الهيئة بشدة قرار المجلس في أول جلسة له جعل يوم سقوط بغداد واحتلال العراق يوم عيد وطني، ولم تعترف الهيئة بشرعية العملية السياسية التي جاءت بمجلس الحكم الانتقالي ثم بالمالكي، كما أن دعوة الهيئة إلى مقاطعة الانتخابات التي جرت في مستهل ونهاية عام 2005م، جعلها تنتقل من هيئة ومرجعية فكرية ودينية للعراقيين، إلى قيادة العمل السياسي والاستراتيجي لمستقبل العراق، بالإضافة إلى قيادة المقاومة العراقية ضد المحتل الأمريكي وتغلغل النفوذ الإيراني.

ومن أبرز مزايا هذه الهيئة، أنها المرجع الوحيد للمسلمين من أهل السنة في العراق، والمنافح الأول عن قضاياهم واللسان الناطق باسمهم، وهو ما يعتبر عامل قوة ضد ما يحاك للعراق من مؤامرات تستهدف المسلمين من أهل السنة، فما دام العلماء والمفكرون والدعاة مجتمعون في هيئة واحدة – وإن على نطاق دولة أو حتى مدينة – فلا شك أن باقي مكونات الشعب ستجتمع تحت رايتهم، وهو ما يشكل العامل الأبرز والأهم في استرداد و استعادة الحقوق.

الوقفة الثالثة: مع رابطة علماء الشام وغيرها من الهيئات والروابط الكثيرة على الساحة السورية، تلك الساحة التي تعتبر حالة فريدة وذا خصوصية، ولعل من أبرز خصوصياتها كثرة الهيئات والروابط الإسلامية التي ظهرت ونشأت بعد الأحداث الدامية التي شهدتها سورية منذ أكثر من ثلاث سنوات ، هذه الهيئات يقع غالبها في إطار إيجابي منهجي وتطبيقي ، وقد يقع بعضها في بعض الأخطاء التي قد يوافقه عليها البعض ، لكن الأداء العام بالعموم له آثاره الإيجابية ولاشك .

هناك على الساحة السورية في الوقت الحاضر العديد من الهيئات والروابط لعلماء المسلمين، فهناك على سبيل المثال: رابطة علماء الشام التي يرأسها الشيخ أسامة الرفاعي، الذي كانت له دعوة كبيرة في دمشق.

كما أن هناك رابطة العلماء السوريين التي يعتبر الدكتور: محمد ياسر المسدي الأمين العام لها، بالإضافة إلى الهيئة العامة للعلماء المسلمين في سورية، ناهيك عن هيئة العلماء الأحرار في سورية، وغير ذلك من الهيئات الشرعية.

أولى الملاحظات التي يمكن تسجيلها، والوقفة الأبرز التي لا بد من التوقف عندها مليا، هو انعدام وجود أي هيئة أو رابطة – على المستوى الحقيقي والفعلي – لعلماء الشام قبل عام 2011م، بل على العكس من ذلك، فقد كان هناك بعض الخلافات الجوهرية بين عدد من العلماء ومشايخ المجموعات الدعوية المعروفة في سورية.

لقد كان بإمكان عدد لا بأس به من علماء الشام – في وقت الأمن والرخاء – تشكيل هيئة أو رابطة – ولو دون تسميات وشكليات – وتهيئة الأجواء لتبادل الآراء وتقارب وجهات النظر في كثير من القضايا التي تخص المسلمين السوريين، وإزالة الكثير من الخلافات والمشاحنات التي كانت موجودة فيما بينهم، والتي كانت من أكبر العوامل المانعة من الاجتماع والوحدة واللقاء…

إلا أن شيئا من ذلك لم يحدث، مما كان له كبير الأثر في كثرة الهيئات والمرجعيات العلمية الإسلامية السورية الآن، والتي تمثل كل واحدة منها وجهة نظر تتبناها إزاء الأحداث التي تدور وما زالت في سورية.

ومع وجود تقارب في الأهداف البعيدة بين كثير من هذه الهيئات والروابط، إلا أن جزئيات وتفاصيل الوصول إلى هذه الأهداف ما زالت في فلك الخلاف على ما يبدو، الأمر الذي يمنع من وجود هيئة واحدة ووحيدة لعلماء المسلمين في سورية حتى الآن.

الوقفة الرابعة: مع ظهور رابطة علماء ليبيا، التي كانت تسمى في بداية تشكيلها “شبكة العلماء الأحرار”، كما كانت أول مجموعة من علماء الدين تتشكل، بالإضافة لكونها أسبق بالتشكل من المجلس الوطني الانتقالي الليبي، ويرأسها في الوقت الحالي الشيخ عمر مولود عبد الحميد.

لقد كان الدور الأبرز لهذه الرابطة هو إبعاد شبح التطرف عن التيار الإسلامي الليبي قدر المستطاع، والحفاظ على الوسطية التي يتميز به الدين الإسلامي الحنيف بمعناه القرآني ، نعم قد يرى الناقد بعضا من المثالب التطبيقية لكن بالعموم يرى الإيجابيات تزيد كثيرا .

ومع محاولات التيار العلماني في ليبيا – بدعم من الغرب – القيام بثورة مضادة، من خلال محاولة إثارة الفوضى في البلاد، والقيام بعمليات الاغتيالات والتفجيرات، وإلصاق التهمة بالتيار الإسلامي، كان للرابطة موقف واضح من إدانة موجة الاغتيالات التي طالت العلماء والدعاة وأئمة المساجد في ليبيا.

كما كان للرابطة دور بارز في مواجهة محاولات تقسيم ليبيا، من خلال إصدارها يوم 27-10-2013 بخصوص تحريم الفدرالية و اعتبار مناصرتها من الكبائر، و حث الناس على التصدي لها كواجب شرعي، وذلك بعد ظهور محاولات انفصال بعض الأقاليم عن ليبيا – برقة وغيرها – باسم الفدرالية.

وأخيرا كان للهيئة دور بارز في مواجهة العملية العسكرية ضد التيار الإسلامي التي يقودها اللواء الليبي المتقاعد “خليفة حفتر”، تحت شعار “محاربة الإرهاب”، فقد أيدت هيئة علماء ليبيا الفتوى التي أصدرها المفتي الشيخ الصادق الغرياني بشأن وجوب التصدي لقوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، واعتبارها خارجة عن الشرعية.

الوقفة الخامسة: مع هيئة علماء اليمن التي تأسست في بداية الأحداث التي مرت باليمن بداية عام 2011م، وقد كانت من قبل منضوية تحت “جمعية علماء اليمن”، إلا أن تطور الأوضاع السياسية والميدانية في البلاد في ذلك الوقت، دفع بالشيخ عبد المجيد الزنداني ومعه قسم كبير من علماء اليمن البارزين لإعلان تشكيل “هيئة علماء اليمن”، وهو في الحقيقة ما كان يحصل في معظم دول ما سمي “بالربيع العربي”.

لقد كان للهيئة دور بارز في مواكبة تطورات الأحداث اليمنية، فقد صدرت الكثير من البيانات التي توضح موقف الشريعة الإسلامية مما يحدث بالبلاد، وأسدت النصح للحكومة وقتها لتدارك الوضع وإصلاح ما فسد في مؤسساتها كافة، وتجنيب البلاد الدخول في نفق الفوضى والاقتتال.

كما كان للهيئة موقف واضح من بعض المؤشرات التي لاحت بالأفق وقتها عن إمكانية تدخل خارجي باليمن، فأصدرت بيانا بينت فيه رفضها الكامل لأي تدخل خارجي بشؤون اليمن، وأكدت فيه أن التدخل إن حصل يوجب على جميع اليمنيين جهاده وصده بكل الوسائل الممكنة.

الوقفة السادسة: كثيرا ما يطرق الأسماع في دول ما سمي “بالربيع العربي” عن تحمل العلماء المسؤولية الكاملة عما آلت إليه أوضاع البلاد، سواء قبل مطالبتهم بالوقوف إلى جانب المطالب الشرعية للشعوب العربية، أو بعد حدوث ذلك وتشكيل هذه الهيئات والروابط المذكورة آنفا.

نعم… يتحمل العلماء قسما من المسؤولية عما آلت إليه أوضاع بلاد ما يعرف “بالربيع العربي”، شأنهم في ذلك شأن كافة قطاعات وفئات المجتمع الفكرية والثقافية والقيادية، إلا أن تحميلهم المسؤولية كاملة وتبرئة باقي الفئات منها لا يتوافق مع الحقيقة والواقع.

وكما يقول الدكتور عبد الكريم بكار: “مشكلات الأمة كبيرة وهي ناتج تراكمات من الأخطاء والخطايا، وحلها يحتاج إلى وقت طويل، لن يكون من الصواب تحميلها لطبقة أو فئة معينة من الناس، فالكل أسهم في وجودها، والكل يسهم في استمرارها، وعلى الجميع الإسهام في الخلاص منها”.

إن المطلوب من الجميع العمل قدر استطاعته للخروج من الوضع الذي تعيشه بلاد المسلمين، والكف عن الشكوى والتذمر واتهام الآخرين، فإن ذلك لا يفيد في شيء، بل يزيد الأمر سوءا وتعقيدا، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} التوبة/105

الوقفة السابعة: يأمل كل مسلم أن تكون ظاهرة نشوء الهيئات والروابط الإسلامية الحديثة خطوة لوحدة جميع علماء المسلمين في العالم، وتمهيدا لتشكيل هيئة عالمية لعلماء المسلمين من أهل السنة والجماعة، تكون ذا مصداقية عالمية فعلية، وتشكل مرجعية حقيقية لجميع المسلمين في شتى ميادين الحياة ومجالاتها، في وقت أصبح لزاما أن يكون للمسلمين من أهل السنة مرجعية شرعية كهذه، بعد أن سبقنا الرافضة والنصارى واليهود بهذا الأمر منذ زمن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى