وقفات مع الوباء والبلاء
بقلم د. كامل صبحي صلاح
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فإن مما ابتُليت به البشرية جمعاء في مثل هذه الأيام العصيبة الشديدة ما يسمى بـ”وباء كورنا المستجد”، الذي اعتبرته منظمة الصحة العالمية وباء وجائحة عالمية، وإن هذه النازلة والفاجعة التي حلت على الناس أوقفت الحياة الطبيعية الاعتيادية للبشرية كلها، وجعلتهم يعيشون في حالة استنفار دائم، وهلع وخوف ووجل واضطراب، مما أدى إلى إغلاق كثير من المساجد على وجه هذه المعمورة، وإيقاف صلاة الجمع والجماعات في كثير من مساجد الأرض كلها، والكل يقول بلسان حاله: ((اللهم سلم سلم))؛ لذا كان لزامًا أن نقف أمام هذا الحدث الجلل والخطب العظيم وقفات شرعية، ونبين بعضًا من القضايا والمسائل المهمة، وبالله التوفيق والسداد.
أولًا: إن الذي أصاب الناس عمومًا من بلاء ووباء إنما هو مكتوب ومقدر عليهم في اللوح المحفوظ من ربهم وخالقهم سبحانه وتعالى، فكل ما يقع في هذا الكون هو تحت مشيئته وقدره سبحانه جل وعلا؛ قال الله تعالى: ﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 51].
قال الطبري في تفسيره: “يقول تعالى ذكره مؤدبًا نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ ﴾ يا محمد لهؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عنك: ﴿ لَنْ يُصِيبَنَا ﴾ أيها المرتابون في دينهم ﴿ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ﴾ [التوبة: 51] في اللوح المحفوظ، وقضاه علينا ﴿ هُوَ مَوْلَانَا ﴾؛ يقول: هو ناصرنا على أعدائه، ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾؛ يقول: وعلى الله فليتوكل المؤمنون، فإنهم إن يتوكلوا عليه، ولم يرجوا النصر من عند غيره، ولم يخافوا شيئًا غيره – يكفهم أمورهم، وينصرهم على من بغاهم وكادهم”.
وقال ابن كثير: “﴿ قُلْ ﴾؛ أي: لهم: ﴿ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ﴾ [التوبة: 51]؛ أي: نحن تحت مشيئة الله، وقدره، ﴿ هُوَ مَوْلَانَا ﴾؛ أي: سيدنا وملجؤنا، ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾؛ أي: ونحن متوكلون عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل”.
وإن المؤمن إن أصابته سراء من نعمة دينية؛ كالعلم والعمل الصالح، ونعمة دنيوية؛ كالمال والبنين والأهل – شكر الله، وإن أصابته الضراء، صبر على أقدار الله، وانتظر الفرج من الله، واحتسب الأجر على الله، فكان ذلك خيرًا له؛ فعن صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له))؛ [صحيح مسلم (2999)].
ثانيًا: إن الكاشف لكل شدة وضرر، وهمٍّ وحزن، ومصيبة وبلاء – هو الله ربنا وخالقنا ومولانا سبحانه وتعالى، جلت قدرته، وتعالت أسماؤه وصفاته، وأن المنعم والمتفضل على العباد بالسعادة والسرور والعافية والرخاء هو الله ربنا سبحانه وتعالى، ولا يقدر أحد من الخلق أن يحول بينك أيها العبد وبين ما أراد الله تعالى لك من خير وعافية، أو ابتلاك بضر وبلاء، نسأل الله تعالى السلامة والعفو والعافية؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [يونس: 107].
قال الطبري: “يقول تعالى ذكره لنبيه: وإن يصبك الله يا محمد بشدة أو بلاء، فلا كاشف لذلك إلا ربك الذي أصابك به، دون ما يعبده هؤلاء المشركون من الآلهة والأنداد، ﴿ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ ﴾؛ يقول: وإن يردك ربك برخاء أو نعمة وعافية وسرور، ﴿ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ﴾؛ يقول: فلا يقدر أحد أن يحول بينك وبين ذلك، ولا يردك عنه ولا يحرمكه؛ لأنه الذي بيده السراء والضراء دون الآلهة والأوثان، ودون ما سواه، ﴿ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾؛ يقول: يصيب ربك يا محمد بالرخاء والبلاء والسراء والضراء من يشاء ويريد ﴿ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ ﴾ لذنوب من تاب وأناب من عباده من كفره وشركه إلى الإيمان به وطاعته، ﴿ الرَّحِيمُ ﴾ بمن آمن به منهم وأطاعه أن يعذبه بعد التوبة والإنابة”.
ثالثًا: إن العقوبة إذا وقعت، فإنها تعم الفاعل للمنكر والمباشر له ولغيره ممن لم يفعل ذلك، فإذا انتشر وظهر الظلم والقهر والفساد، وعمت الفواحش والرذائل والمنكرات، ولم تبدل ولم تغير ولم تنكر، ولزم الناس السكوت على فاعليها – فالعقوبة تعم والعياذ بالله تعالى؛ قال الله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 25]؛ قال الطبري: “يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: ﴿ وَاتَّقُوا ﴾، أيها المؤمنون ﴿ فِتْنَةً ﴾؛ يقول: اختبارًا من الله يختبركم، وبلاء يبتليكم ﴿ لَا تُصِيبَنَّ ﴾ هذه الفتنة التي حذرتكموها ﴿ الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾، وهم الذين فعلوا ما ليس لهم فعله، إما أجرام أصابوها، وذنوب بينهم وبين الله ركبوها، يحذرهم جل ثناؤه أن يركبوا له معصية، أو يأتوا مأثمًا يستحقون بذلك منه عقوبة”.
وقال أبو بكر الجزائري: “وقوله: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ﴾ تحذير آخر عظيم للمؤمنين من أن يتركوا طاعة الله ورسوله، ويتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فينتشر الشر ويعم الفساد، وينزل البلاء، فيعم الصالح والطالح، والبار والفاجر، والظالم والعادل، وقوله: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾، وهو تأكيد للتحذير بكونه تعالى إذا عاقب بالذنب والمعصية فعقابه قاسٍ شديد لا يُطاق، فليحذر المؤمنون ذلك بلزوم طاعة الله ورسوله”.
وعن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: ((يا معشر المهاجرين، خمس خصال إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضَوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القَطْرَ من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولا نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدوًا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيروا فيما أنزل الله؛ إلا جعل الله بأسهم بينهم))؛ [صحيح الترغيب (١٧٦١)، صحيح لغيره].
رابعًا: الرجوع إلى الله تعالى والتوبة إليه من المعاصي:
قال الله تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41].
بمعنى: إذا ظهر الفساد في البر والبحر، كالجدب وقلة الأمطار وكثرة الأمراض والأوبئة؛ وذلك بسبب المعاصي التي يقترفها البشر؛ ليصيبهم بعقوبة بعض أعمالهم التي عملوها في الدنيا؛ كي يتوبوا إلى الله سبحانه ويرجعوا عن المعاصي، فتصلح أحوالهم، وتستقيم أمورهم.
وإن من سنن الله جل وعلا الابتلاء والاختبار لعباده بشدة الفقر وضيق المعيشة وتفشي الأمراض والآلام، إذا كذبوا رسله وخالفوا أمره ونهيه؛ رجاء أن يتذللوا لربهم، ويخضعوا له بالعبادة والطاعة له وحده؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ﴾ [الأنعام: 42].
قال الطبري: “لقد أرسلنا يا محمد ﴿ إِلَى أُمَمٍ ﴾؛ يعني: إلى جماعات وقرون ﴿ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ ﴾؛ يقول: فأمرناهم ونهيناهم، فكذبوا رسلنا، وخالفوا أمرنا ونهينا، فامتحناهم بالابتلاء ﴿ بِالْبَأْسَاءِ ﴾؛ وهي شدة الفقر والضيق في المعيشة، ﴿ وَالضَّرَّاءِ ﴾؛ وهي الأسقام والعلل العارضة في الأجسام، وقوله: ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ﴾؛ يقول: فعلنا ذلك بهم ليتضرعوا إليَّ، ويخلصوا لي العبادة، ويفردوا رغبتهم إليَّ دون غيري، بالتذلل منهم لي بالطاعة، والاستكانة منهم إليَّ بالإنابة”.
وقال ابن كثير: “وقوله: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ ﴾؛ يعني: الفقر والضيق في العيش، ﴿ وَالضَّرَّاءِ ﴾: وهي الأمراض والأسقام والآلام؛ ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ﴾؛ أي: يدعون الله ويتضرعون إليه ويخشعون.
قال الله تعالى: ﴿ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ﴾ [الأنعام: 43]؛ أي: فهلا إذ ابتليناهم بذلك تضرعوا إلينا وتمسكنوا إلينا، ﴿ وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾؛ أي: ما رقت ولا خشعت، ﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 43]؛ أي: من الشرك والمعاصي”.
وقال البغوي في تفسيره: “﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ ﴾: بالشدة والجوع، ﴿ وَالضَّرَّاءِ ﴾: المرض والزمانة، ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ﴾ [الأنعام: 42]؛ أي: يتوبون ويخضعون، والتضرع السؤال بالتذلل.
خامسًا: إن الأصل إذا وقعت بالأمة نازلة ومصيبة أن يرد الأمر فيها إلى أهل الشرع وأهل العلم، والرأي والنصح، والعقل والرزانة، والخبرة والاختصاص؛ فهم الذين يعرفون الأمور ويقدرون المصالح والمفاسد، والمنافع والمضار، ويستخرجون بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة ما هو صالح لعموم الأمة؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 83].
وقال السعدي في تفسيره: “هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم – أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أهل الرأي والعلم، والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها، فإن رأَوا في إذاعته مصلحة ونشاطًا للمؤمنين، وسرورًا لهم وتحرزًا من أعدائهم، فعلوا ذلك، وإن رأَوا أنه ليس فيه مصلحة أو فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته، لم يذيعوه؛ ولهذا قال: ﴿ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾؛ أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة، وفي هذا دليل لقاعدة أدبية، وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى من هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ، وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه، هل هو مصلحة، فيقدم عليه الإنسان أم لا فيحجم عنه؟ ثم قال تعالى: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ﴾؛ أي: في توفيقكم وتأديبكم، وتعليمكم ما لم تكونوا تعلمون، ﴿ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾؛ لأن الإنسان بطبعه ظالم جاهل، فلا تأمره نفسه إلا بالشر، فإذا لجأ إلى ربه واعتصم به واجتهد في ذلك، لطف به ربه ووفقه لكل خير، وعصمه من الشيطان الرجيم”.
سادسًا: إن الواجب في حال وقوع المصائب والبلايا، هو الالتجاء إلى الله تعالى، والتوجه له بالدعاء لأن يرفع البلاء والوباء، وصدق الاعتماد والتوكل عليه سبحانه، والأخذ بالأسباب الشرعية، والأوراد والأذكار الثابتة الصحيحة المرعية، فهي أسباب شرعية يجب على العباد ألَّا يقللوا من أثرها العظيم في الحفظ من المكاره والأمراض والآفات؛ ومن هذه الأدعية الصحيحة:
1- ((اللهم إني أعوذ بك من جَهْدِ البلاء، ودَرَكِ الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء))؛ لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تعوذوا بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء))؛ [أخرجه البخاري (٦٦١٦) واللفظ له، ومسلم (٢٧٠٧)].
وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، قال سفيان: الحديث ثلاث، زدت أنا واحدةً، لا أدري أيتهن هي))؛ [صحيح البخاري (٦٣٤٧)].
ومعنى: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ))؛ أي: يلتجئ ويحتمي بالله تعالى من أمور؛ ومنها:
((جهد البلاء)): وهو: أقصى ما يبلغه الابتلاء وهو الامتحان والاختبار، وذلك بأن يصاب حتى يتمنى الموت، وقيل: إنه الفقر مع كثرة العيال.
و((درك الشقاء)): والدرك هو الوصول واللحوق، فكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ من أن يلحقه أو يصله الشقاء، أو أن يدرك هو الشقاء والتعب والنصب في الدنيا والآخرة.
و((سوء القضاء)): وهو ما يسوء الإنسان ويحزنه من الأقضية المقدرة عليه، والموصوف بالسوء هو المقضي به لا القضاء نفسه.
و((شماتة الأعداء)): والشماتة: الفرح؛ أي: من فرح العدو، وهو لا يفرح إلا لمصيبة تنزل بمن يكره من أهل الحق والإيمان.
2- ومنها دعاء: ((بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم))، ثلاث مرات، فمن قالها لم تصبه فجأة بلاء، ولا يضره شيء في صباح أو مساء؛ لحديث عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قال صباح كل يوم ومساء كل ليلة ثلاثًا: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، لم يضره شيء)).
وفي رواية عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قال: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات، لم تصبه فجأة بلاء حتى يصبح، ومن قالها حين يصبح ثلاث مرات، لم تصبه فجأة بلاء حتى يمسي))؛ [كلاهما أخرجه أبو داود (٥٠٨٨) واللفظ له، والترمذي (٣٣٨٨) بإسناد صحيح].
ومعنى: ((بسم الله)): أي: ألتجئ وأعتصم بالله سبحانه وتعالى.
((الذي لا يضر مع اسمه)): أي: مع ذكر اسمه العظيم؛ اعتقادًا وإيمانًا بذلك.
((شيء في الأرض)): من المكروهات والمؤذيات.
((ولا في السماء)): من البلايا النازلات.
((وهو السميع العليم)): سميع لكل شيء وعليم بكل شيء.
((ثلاث مرات)): أي: يقول هذا الدعاء ثلاث مرات.
((لم تصبه فجأة بلاء)): أي: بلاء يأتي بغتةً بلا سبب.
((حتى يصبح)): وذلك إذا قالها بالليل.
((ومن قالها حين يصبح))؛ أي: في الصباح بعد طلوع الفجر، ((ثلاث مرات لم تصبه فجأة بلاء حتى يمسي))؛ أي: إلى المساء بعد غروب الشمس.
3- ومنها دعاء: ((اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجأة نقمتك وجميع سخطك))؛ فعن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجأة نقمتك، وجميع سخطك))؛ [صحيح مسلم (٢٧٣٩)].
وفي رواية أخرى عن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: ((كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميع سخطك))؛ [صحيح مسلم (٢٧٣٩)].
وإن من لطف الله سبحانه وتعالى بالعبد إدامة العافية عليه، وكل ما يدور في منوالها من دوام نعمه على العبد، وابتعاد النقم المفاجئة عنه، وحفظه من جميع سخط الرب سبحانه وتعالى.
وفي هذا الحديث أنه كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الاستعاذة من ذهاب نعمه سبحانه وتعالى الدينية والدنيوية النافعة في الأمور الأخروية، والاستعاذة من زوال النعم تتضمن الحفظ عن الوقوع في المعاصي لأنها تزيلها.
ثم عطف على الاستعاذة الأولى وهي الاستعاذة من تحول العافية؛ أي: وأعوذ بك من تبدل ما رزقتني من العافية إلى البلاء، والاستعاذة من فجاءة النقمة من بلاء أو مصيبة، فالنقمة إذا جاءت فجأةً؛ أي: بغتةً، لم يكن هناك زمان يستدرك فيه.
وقوله: ((وجميع سخطك)): وهو تعميم شامل لكل ما سلف ولغيره، ويجب على العبد الابتعاد عن مواطن ومواضع سخطه وغضبه سبحانه وتعالى.
4- ومنها دعاء: ((اللهم إني أعوذ بك من البرص والجنون والجذام، ومن سيئ الأسقام))؛ فعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أعوذ بك من البرص والجنون والجذام، ومن سيئ الأسقام))؛ [أخرجه أبو داود (١٥٥٤)، وأحمد (١٣٠٢٧) بإسناد صحيح].
وفي هذا الحديث يستعيذ النبي صلى الله عليه وسلم من أمراض شديدة خطيرة فيقول: ((اللهم إني أعوذ بك)): أي: أطلب الحماية والوقاية من الله عز وجل.
((من البرص)): وهو: بياض يظهر على الجلد كبقع ثم ينتشر في باقي الجلد حتى يعمه؛ بسبب انحباس الدم عن الجلد، مع ما فيه من إضعاف الجلد، واستقذار الناس له، فيكون سببًا للتعب النفسي للمريض.
((والجنون)): وهو: فقدان العقل، وعدم التمييز، فلا يفقه ولا يفهم ولا يدرك التكاليف.
((والجذام)): وهو: تآكل أطراف الأعضاء شيئًا فشيئًا، وربما يفقد صاحبه الشعور بها، وهو مرض يصيب بالعدوى؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالفرار منه كما يفر الرجل من الأسد.
((وسيئ الأسقام)): أي: الأمراض السيئة الأثر على المريض وعلى من حوله.
5- ومنها دعاء: ((اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي…))؛ فعن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: ((لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يَدَعُ هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي؛ اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي))؛ [أخرجه أبو داود (٥٠٧٤) بإسناد صحيح].
6- ومنها كثرة الدعاء والتوجه والتضرع إلى الله تعالى؛ فعن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لن ينفع حذر من قدر، ولكن الدعاء ينفع مما نزل، ومما لم ينزل، فعليكم بالدعاء عباد الله))؛ [السيوطي، الجامع الصغير (٧٣٧٨)، حسن].
7- ومنها دعاء: ((الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلًا))؛ فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من رأى مبتلًى فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلًا، لم يصبه ذلك البلاء))؛ [السيوطي الجامع الصغير (٨٦٦٧)، حسن].
سابعًا: إن الواجب في حال وقوع المصائب والبلايا، هو الأخذ بالأسباب المادية والحسية الوقائية، ومنها الحجر الصحي، وعدم دخول أرض الوباء، وغيرها من الوسائل المعاصرة والحديثة، فيحجر على المريض والسقيم في مكان مستقل؛ لئلا يعدي الصحيح السليم؛ فعن أبي سلمة بن عبدالرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا عدوى، ويحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يورد ممرض على مصح))؛ [صحيح مسلم (٢٢٢١)].
حتى أنه يمنع المريض من مصافحة وملامسة السليم الصحيح؛ لئلا يؤذيه، ومثل هذه الحادثة حصلت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم عند مبايعة الناس؛ فعن الشريد بن سويد الثقفي رضي الله تعالى عنه قال: ((كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم: إنا قد بايعناك فارجع))؛ [صحيح مسلم (٢٢٣١)].
ولذلك أمر الشارع الفرار من أصحاب الأمراض المعدية، كالمجذوم وغيره، نسأل الله تعالى السلامة والعفو والعافية؛ فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: ((فرَّ من المجذوم فرارك من الأسد))؛ [السنن الصغير للبيهقي (٣/ ٦٥)، صحيح، أخرجه البخاري (٥٧٠٧) مطولًا، وأحمد (٩٧٢٢) واللفظ له]، وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ((لا عدوى ولا طِيَرَة، ولا هامة ولا صَفَر، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد))؛ [صحيح البخاري (٥٧٠٧)]؛ ولذلك جاء الإسلام ليهدم معتقدات الجاهلية، ويبني للمسلم العقيدة الصحيحة المبنية على صحة التوحيد وقوة اليقين، والابتعاد عن الأوهام والخيالات التي تعبث بالعقول؛ وفي هذا الحديث ما يدل على ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا عدوى)): وهي انتقال المرض من المريض إلى غيره، والمعنى: أنها لا تؤثر بطبعها، وإنما يحدث هذا بقدر الله وتقديره.
((ولا طيرة)): وهي التشاؤم، وكان أهل الجاهلية إذا خرجوا لحاجة لهم من سفر أو تجارة، فإذا شاهدوا الطير يطير عن يمينهم استبشروا به، وإذا طار عن يسارهم تشاءموا به ورجعوا.
((ولا هامة)): وهي اسم لطائر يطير بالليل كانوا يتشاءمون به، وكانوا يعتقدون أن روح القتيل إذا لم يؤخذ بثأره صارت طائرًا يقول: “اسقوني اسقوني”، حتى يُثأر له فيطير.
((ولا صفر)): وهو الشهر المعروف من الشهور القمرية، وكان العرب يؤخرون تحريم شهر المحرم، ويجعلونه في شهر صفر، فيبدلون الأشهر الحرم، فثبت الإسلام الأشهر الحرم على حقيقتها، ومنع النسيء.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وفر من المجذوم)): وهو المصاب بمرض الجذام، وهو مرض تتآكل منه أعضاء الإنسان؛ يعني: ابتعد عنه محتاطًا لنفسك طالبًا لها السلامة كما تفر من الأسد، وفي النهي عن القرب من المجذوم؛ ليظهر لهم أن هذا من الأسباب التي أجرى الله العادة بأنها تفضي إلى مسبباتها؛ ففي نهيه إثبات الأسباب أنها لا تستقل بذاتها، بل الله هو الذي إن شاء سلبها قواها فلا تؤثر شيئًا، وإن شاء أبقاها فأثرت.
ومن الأسباب الحسية عدم الدخول إلى أرض فيها وباء، وعدم الخروج من أرض فيها وباء؛ لئلا تنقل العدوى إلى أرض سليمة، وقد حصل الحدث في زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عندما قدم أرض الشام؛ فعن عبدالرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه: ((أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام، فلما جاء بسرغ، بلغه أن الوباء وقع بالشام، فأخبره عبدالرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه، فرجع عمر من سرغ))؛ [صحيح البخاري (٦٩٧٣)].
هذا ما تيسر إيراده، نسأل الله اللطيف الخبير أن يحفظ العباد والبلاد من الآفات والأمراض والأسقام، وأن يرفع البلاء عن المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها.
والحمد لله رب العالمين.
(المصدر: شبكة الألوكة)