بقلم عبدالعزيز أيت مالك
حظيت السيرة النبوية باهتمام بالغ، من حيث الجمع والتصنيف، بَيْد أن جانب التمحيص والنقد للمرويات والأخبار لم يَلْق العناية والاهتمام نفسهما، خصوصًا لدى العلماء السالفين، إلا ما كان من بعض المحدثين الحذاق النقاد، الذين لم يتوقفوا عند نقد الأسانيد، بل تجاوزوه إلى نقد المتون. ومن هؤلاء النقاد الأعلام: الإمام الذهبي (748هـ) رحمه الله، الذي قال عنه الصفدي رحمه الله: «أعجبني منه ما يعانيه في تصانيفه من أنه لا يتعدى حديثًا يورده حتى يبين ما فيه من ضعف متن، أو ظلام إسناد أو طعن في رواته، وهذا لم أر غيره يراعي هذه الفائدة فيما يورده»[1].
تعريف النقد الحديثي:
النقد في اللغة:
يدل النقد في اللغة على الإبراز والإظهار، يقول ابن فارس: النون والقاف والدال أصلٌ صحيح يدلُّ على إبراز شيءٍ وبُروزه (…) وتقول العرب: ما زالَ فلانٌ يَنْقُد الشَّيء، إذا لم يزَلْ ينظُر إليه»[2]، «ويقال نقد النثر ونقد الشعر أظهر ما فيهما من عيب أو حُسن»[3].
وفي الاصطلاح:
النقد الحديثي هو: «تمييز الأحاديث الصحيحة من الضعيفة، والحكم على الرواة توثيقًا وتجريحًا»[4].
نماذج من النقد الداخلي (نقد المتن):
للمُحَدِّثين – في نقد المتن الحديثي – ضوابط ومعايير. سطروها في كتبهم تنظيرًا، ووظفوها في نقدهم للمتن تطبيقًا[5]، لذلك، فإذا كان نقد السند متوقفًا على معرفة أحوال الرجال من حيث التعديل والجرح.. فإن نقد المتن لا يتم بما تهواه الأنفس، أو تميل إليه العقول المجردة، بل ذلك مردُّه إلى طول مصاحبة لروايات الحديث، وتضلُّع في معرفة السنن والآثار.
ومن المعايير التي اعتمدها الإمام الذهبي في نقده للمتن ما يلي:
1- إخضاع الروايات للحقائق التاريخية:
أ- قصة خروج النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب، وأشياخ من قريش إلى الشام، ولقائه بالراهب بَحيرى، وقرار أبي طالب رد محمد صلى الله عليه وسلم، وأن أبا بكر بعث معه بلالًا. قال الإمام الذهبي ناقدًا: «رواه الناس عن قراد وحسنه الترمذي. وهو حديث منكر جدًّا وأين كان أبو بكر؟ كان ابنَ عشر سنين فإنه أصغر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بسنتين ونصف، وأين كان بلال في هذا الوقت؟ فإن أبا بكر لم يشتره إلا بعد المبعث ولم يكن ولد بعد»[6].
ب – «روى إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبيه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق مع جعفر إلى الحبشة. قال الحافظ الذهبي: ويظهر لي أن إسرائيل وهم فيه ودخل عليه حديث في حديث وإلا أين كان أبو موسى الأشعري ذلك الوقت؟»[7]. يريد – رحمه الله – أن أبا موسى الأشعري وقومه بلغهم مخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلقوا من اليمن يريدون المدينة، فألقاهم البحر في الحبشة[8].
2- اختبار الألفاظ ودلالاتها:
أ- لقد انتقد الحافظ الذهبي القصة السابقة المتعلقة بخروجه صلى الله عليه وسلم مع عمه إلى الشام من زاوية أخرى، وهي محاكمة ألفاظ الرواية، قال رحمه الله: «وفي الحديث ألفاظ مُنكرَة تشبه ألفاظ الطرقية»[9].
ب – في قصة الإسراء والمعراج أورد رواية هاشم بن القاسم بسنده إلى أبي هريرة، وفيها أنه عليه الصلاة والسلام مر على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم كلما حصدوا عاد كما كان. ومر على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها وهو يريد أن يزيد عليها… قال الذهبي معقبًا: والحديث منكر يشبه كلام القصاص، إنما أوردته للمعرفة لا للحجة»[10].
3- المحاكمة العقلية للمتون:
بالعقل المسدَّد بالوحي انتقد الإمام الذهبي كثيرًا من متون الروايات، ومن ذلك ما يلي:
أ – في قصة الخروج إلى الشام نفسها، وفيها أن غمامة تظله، وأنه لما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه – يعني إلى فيء شجرة – فلما جلس مال فيء الشجرة عليه. قال رحمه الله منتقدًا الرواية من جميع وجوهها: «فإذا كان عليه غمامة تظله كيف يتصور أن يميل فيء الشجرة؟ لأن ظل الغمامة يعدم فيء الشجرة التي نزل تحتها ولم نر النبي ذكَّر أبا طالب قط بقول الراهب ولا تذاكَرتْه قريش ولا حَكَتْه أولئك الأشياخ مع توفر هممهم ودواعيهم على حكاية مثل ذلك. فلو وقع لاشتهر بينهم أيما اشتهار ولبقي عنده حس من النبوة، ولما أنكر مجيء الوحي إليه أولًا بغار حراء وأتى خديجة خائفًا على عقله ولما ذهب إلى شواهق الجبال ليرمي نفسه. وأيضًا فلو آثر هذا الخوف في أبي طالب ورده، كيف كانت تطيب نفسه أن يمكِّنه من السفر إلى الشام تاجرًا لخديجة؟»[11].
اللافت للانتباه، أن الذهبي رحمه الله انتقد هذه القصة متنًا من خلال ثلاثة معايير: التاريخ، واختبار الألفاظ، والعقل.
ب – في احتضار أبي طالب، أورد رواية يونس بن بكير عن ابن اسحاق وفيها: «أن أبا طالب رؤي يحرك شفتيه فأصغى إليه العباس ليستمع قوله فرفع العباس عنه فقال: يا رسول الله قد والله قال الكلمة التي سألته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لم أسمع». قال الحافظ الذهبي – بعد تضعيفه للسند -: «وأيضًا فكان العباس ذلك الوقت على جاهليته ولهذا إن صح الحديث لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم روايته وقال له: لم أسمع وقد تقدم أنه بعد إسلامه قال: يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك. فلو كان العباس عنده علم من إسلام أخيه أبي طالب لما قال هذا ولما سكت عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: هو في ضحضاح من النار، ولقال: إني سمعته يقول: لا إله إلا الله. ولكن الرافضة قوم بهت»[12].
4- الترجيح بين الروايات:
أ- بعد إيراده رواية الكلبي: «ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الفيل بخمس عشرة سنة»، قال رحمه الله: «قد تقدم ما يبين كذب هذا القول عن ابن عباس بإسناد صحيح»[13] (أنه ولد عام الفيل).
ب- رجح رواية ابن مسعود على رواية ابن عباس: «ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم…» الحديث. قال الحافظ الذهبي: ويحمل قول ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قرأ على الجن ولا رآهم يعني أول ما سمعت الجن القرآن ثم إن داعي الجن أتى النبي صلى الله عليه وسلم – كما في خبر ابن مسعود وابن مسعود قد حفظ القصتين»[14]، فرجَّح رواية ابن مسعود لكونه حضر الحادثة وشهدها.
5- اعتماد أقوال النقاد من العلماء:
أ- تعقب رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب: «بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم على رأس خمس عشرة سنة من بنيان الكعبة، وكان بينه وبين مبعثه وبين أصحاب الفيل سبعون سنة»، بقوله: كذا قال. وقد قال إبراهيم بن المنذر وغيره: هذا وَهْم لا يشك فيه أحد من علمائنا. إن رسول الله ولد عام الفيل وبعث على رأس أربعين سنة من الفيل»[15].
ب- اعتمد مذهب أهل العلم في نقد رواية الكلبي: «تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان، فصارت أم المؤمنين، وصار معاوية خال المؤمنين. قال الذهبي: «كذا روى الكلبي وهو متروك. ومذهب العلماء في أمهات المؤمنين أن هذا حكم مختص بهن ولا يتعدى التحريم إلى بناتهن ولا إخوانهن ولا أخواتهن»[16].
مما سبق من النماذج المنتَقَدة، يتضح أن الاهتمام بتنقية مرويات السيرة النبوية وتصفيتها وتمحيصها، شغل كبار المحدثين النقاد، وما عَملُ الإمام الناقد الحافظ الذهبي إلا خير شاهد على ذلك. وعلى منواله سار الإمام ابن كثير في «سيرته» (ت 774هـ).
لقد بذل الإمام الذهبي جهدًا مشكورًا في تعقب الروايات والأخبار، أعمَلَ خلالها المقاييس المعتمَدة عند المحدثين في نقد الروايات، غير أن النقد لم يكن شاملًا لجميع ما ورد في كتابه «السيرة النبوية»، وقد يرجع السبب إلى كثرة الروايات وغزارتها، لذلك لاحظت سكوته عن كثير منها، بل واستغربت لسكوته – رحمه الله – عن قصة الغرانيق غير الثابتة التي أوردها عن موسى بن عقبة دون تعقب. لكن الكمال عزيز.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
لائحة المصادر والمراجع:
– تاريخ الإسلام (السيرة النبوية)، لشمس الدين الذهبي، تحقيق د. عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1987م.
– الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، لابن حجر العسقلاني، تحقيق محمد عبد المعيد ضان، نشر مجلس دائرة المعارف العثمانية – حيدر أباد، الهند، الطبعة الثانية، 1972م (6 أجزاء).
– منهج النقد عند المحدثين نشأته وتاريخه، د. مصطفى الأعظمي، مكتبة الكوثر، السعودية، الطبعة الثالثة، 1990م.
– معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، اعتنى به د. محمد عوض مرعب وفاطمة محمد أصلان، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2001م.
– المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، القاهرة، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، 1998م.
– صحيح البخاري، تحقيق محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، الطبعة الأولى، 1422هـ (9 أجزاء).
– الوافي بالوفيات، صلاح الدين الصفدي، دار إحياء التراث العربي، 2000م.
—————————————–
:: مجلة البيان العدد 344 ربـيـع الثاني 1437هـ، يـنـايــر 2016م.
[1] الوافي بالوفيات 1/217.
[2] مقاييس اللغة ص 1006.
[3] المعجم الوسيط 2/944.
[4] منهج النقد عند المحدثين، د. مصطفى الأعظمي ص 5.
[5] ينظر في ذلك على سبيل المثال: المنار المُنيف في الصحيح والضعيف لابن القيم، دراسات حديثية تطبيقية في نقد المتن، د. أمين عمر دغمش.
[6] تاريخ الإسلام (السيرة النبوية) للذهبي 1/55-57.
[7] نفسه 1/ 192.
[8] ينظر صحيح البخاري، كتاب المغازي. باب غزوة خيبر، 5/137 رقم الحديث:4230.
[9] تاريخ الإسلام (السيرة النبوية) 1/57.
[10] نفسه 1/276-277.
[11] المصدر السابق 1/57.
[12] نفسه 1/236.
[13] 1/25 نفسه.
[14] المصدر السابق 1/97-98.
[15] نفسه 1/24.
[16] نفسه 2/304.