وقعة الأصنام: قاصمة ظهر خوارج المغرب
بقلم أحمد الظرافي
في عام 123هـ، سيطر خوارج البربر والعرب والموالي، على القسم الأعظم من بلاد المغرب، بعد أن هزموا جيوش الخلافة الأموية ثلاث هزائم كبرى قاصمة، قتل خلالها أشراف العرب وخيرة التابعين، الذين نزلوا أفريقية عند الفتح، وفني فيها معظم جيش الخلافة في المغرب، وجيش الإنقاذ الذي بعث به الخليفة هشام بن عبد الملك، من الشام، بقيادة كلثوم بن عياض القشيري، بعد أن خرجت الأمور عن سيطرة عبيد الله بن الحبحاب أمير أفريقية.
وبعد هذه الانتصارات المدوية التي حققها الخوارج وسيطرتهم الواسعة على أرجاء بلاد المغرب الكبير، انتشى رءوس الخوارج، وأظهر عدد منهم المروق عن الإسلام، وأخذوا النساء المسلمات سبايا، واسترقوا الأطفال، وفعلوا الأفاعيل بالعرب، بمن فيهم العرب المسالمين والمحايدين. ثم لم يلبثوا أن قرروا الزحف على القيروان حاضرة ولاية أفريقية، ومهد الإسلام واللغة العربية، والمعقل الأخير للخلافة الأموية، ومن ثم إبادة من تبقي فيها من العرب والتابعين، وأوشكت بلاد المغرب كلها أن تخرج نهائيا عن الحكم العربي الإسلامي، وقطعت الطريق إلى الأندلس، وصار المسلمون هناك في عزلة تامة عن إخوانهم في القيروان والمغرب الأدنى، ولذلك، فقد وثب أهل الأندلس على عقبة بن الحجاج، أمير الأندلس، لعبيد الله بن الحباب فعزلوه وولوا عليهم عبد الملك بن قطن الفهري، من دون أخذ موافقة الخلافة.
في ذلك الوقت كان الخليفة هشام بن عبد الملك، قد صار شيخا كبيرا راقدا على سرير المرض، ومع ذلك، فقد أهمه ما يحدث من تمرد وردة في بلاد المغرب، فأوقف الحملات الصيفية والشتوية المعتادة على حدود الإمبراطورية البيزنطية في آسيا الصغرى، واستدعى 30000 مقاتل، من خيرة جيش الشام، ذلك الجيش النظامي المحترف، الذي كان بمثابة العمود الفقري، للدولة الأموية، وبعث به إلى أفريقية، وكتب إلى والي مصر، حنظلة بن صفوان الكلبي، أن يترك إمارته ويتوجه على رأس ذلك الجيش، إضافة إلى جيش مصر، إلى القيروان حاضرة بلاد المغرب، لحمايتها من الخوارج، وللحفاظ على ولاية أفريقية، والقضاء على ثورة الخوارج بها مهما كان الثمن، فسار حنظلة إلى القيروان، فوصل إليها في ربيع الأول سنة 124هـ/741م، وأخذ يدرس الموقف، ويرسم الخطة للقضاء على هذه الفتنة الخطرة، وفي نفس الوقت، أخذ يبعث بالرسائل لقبائل المغرب الأوسط والأقصى، يدعوهم فيها إلى لزوم الطاعة وعدم مفارقة الجماعة، ويحذرهم من مغبة مؤازرة رءوس الخوارج، الذين يزحفون باتجاه القيروان. وكان هشام بن عبد الملك، رغم مرضه، دائم الاتصال بحنظلة لتوجيهه والاطمئنان على مصير جيشه.
وفي غضون ذلك أقبلت جحافل الخوارج نحو القيروان، وكانت مكونة من جيشين عظيمين، ليدخلوها من جهتين مختلفتين، وفي وقت واحد، طبقا لخطة عسكرية محكمة كانا قد اتفقا عليها عند منطقة الزاب، وكان أحد ذينك الجيشين بقيادة عكاشة بن أيوب الفزاري (أحد الفرسان العرب المنشقين عن جيش عبيد الله بن الحبحاب)، والآخر بقيادة عبد الواحد بن يزيد الهواري، وكان الجيش الأخير، هو الاعظم والأقوى، بمن انضم إليه من قبائل البربر في الطريق، وبخاصة بعد أن سيطر على تونس. ولم ينتظر حنظلة بن صفوان، حتى وصول الجيشين إليه، ولم يعطهما الفرصة للأطباق عليه، فقد أرسل جيشا إلى باجة، لعرقلة حركة سير جيش الهواري، الذي سلك طريق الجبال، وتأخيره عن الوصول إلى القيروان، في حين بادر هو بالخروج، للقاء جيش الفزاري، الذي كان قائده عكاشة يتعجل الوصول إلى القيروان، ليحوز شرف القضاء على الأمويين بها، وبالتالي، تكون له الزعامة على خوارج البربر في المغرب، وليس للهواري، فالتقى حنظلة بهذا الجيش، عند مكان يدعى القرن، في جنوب القيروان، وأنزل به هزيمة ساحقة، وقتل الخوارج قتلا ذريعا، فولوا مدبرين، وانضمت فلولهم إلى الجيش الرئيسي، الذي يقوده عبد الواحد الهواري، والمعسكر في مكان يدعى الأصنام (سمي كذلك لما فيه من التماثيل الرومانية القديمة)، وهو يقع على بعد ثلاثة أميال من القيروان شمالا. وبعد ذلك، عاد حنظلة بن صفوان مسرعا إلى القيروان، قبل أن يستبيحها جيش الهواري، ولكي يستعد للقاء هذا الجيش العرمرم، الذي قيل أن تعداده كان300 ألف مقاتل (وهي مبالغة ولاشك). واستنفر حنظلة كل من كان في القيروان من العرب، وعلى رأسهم التابعون والعلماء والقراء، وفرق على المقاتلين كل ما كان في الخزائن من سلاح وأموال، وقدّم الشباب، وبذل أقصى ما يستطيع من جهد استعدادا، لهذه المعركة الفاصلة والحاسمة، التي ستقرر مصير الإسلام واللغة العربية في المغرب، وتداعى العرب بالقيروان للجهاد، وكثرت جموعهم حول حنظلة. وعند اصطفاف المسلمين للقتال خرج التابعون والعلماء والقراء، على رءوس الصفوف، وقد لبسوا الأكفان، وأخذوا يحثون الناس على جهاد الخوارج، ويوعونهم بخطرهم ويذكرونهم بأعمالهم السوداء، وكيف أنهم يسبون نساء المسلمين، ويسترقون أطفالهم، ويكفرون المسلمين، ويعتبرون دارهم دار حرب، كما أن نساء المسلمين خرجن من خلفهم، حاملات للسلاح مستبسلات للموت، وأخذن يحرضنهم على الثبات، ويبعثن الحمية في نفوسهم. وعندئذ حمي المسلمون، واشتدت عزائمهم وقويت نفوسهم على القتال، وعزموا على عدم التراجع إلى الخلف مهما كان الثمن، ومن ثم، القتال حتى آخر رمق، وابتدأت المعركة، وكانت من أشد المعارك هولا في التاريخ، فقد حمل المسلمون على الخوارج حملة واحدة، وكسروا أجفان سيوفهم، وجثوا على ركبهم، استهانة بالموت، واشتد القتال، وصبر الفريقان صبر الفناء، وكثر القتلى من الطرفين، فانكسرت ميسرة جيش حنظلة وميسرة جيش الهواري، لكن ميسرة جيش حنظلة لم تلبث أن كرت على ميمنة جيش الهواري، واشتد القتال، وطال الصمود، وكانت شخصية حنظلة بن صفوان القوية، وقيادته الواعية، وحسن إدارته للمعركة، واستشعاره، ومن معه، بأنها معركة مصير، تلعب دورا في ذلك الصمود الأسطوري، حتى بدأت صفوف الخوارج تتضعضع، وأجنحة جيشهم تترنح تحت ضربات المسلمين، وكثر القتل فيهم، ولم يلبثوا أن ولوا الأدبار هاربين لا يلوون على شيء، والمسلمون من خلفهم يقتلونهم ويفتكون بهم، وأنزلوا بهم ضربة من أشد الضربات إيلاما، وقتلوا طغاتهم، وأكابر مجرميهم، وعلى رأسهم عبد الواحد الهواري، وعكاشة الفزاري، وبحيث لم تقم بعد ذلك قائمة للخوارج الصفرية، الذين تولوا كبر هذه الثورة العنيفة. وسجد حنظلة والمسلمون شكرا لله على هذا النصر العظيم المؤزر. فقيل: لم يقتل بالمغرب أكثر من هذه القتلة، فكانت عدة القتلى مائة وثمانين ألفاً (وهذه مبالغة أيضا)، وكان الليث بن سعد (94-175هـ)، يقول: ما غزوة إلى الآن أشد بعد غزوة بدر من غزوة العرب بالأصنام. وفي رواية: ” ما غزوة كنت أحب أن أشهدها بعد غزوة بدر أحب إليّ من غزوة القرن والأصنام”. وكتب حنظلة من فوره، بأخبار هذا الظفر الكبير للخليفة هشام بن عبد الملك، فوصله وهو في الرمق الأخير، وذلك سنة 125هـ. وبعد ذلك هدأت فتنة الخوارج في المغرب، لفترة من الوقت، واستولى عبد الرحمن بن حبيب حفيد عقبة بن نافع على أفريقية، وعاد حنظلة إلى المشرق، لكن الفتنة تجددت بعد سقوط الدولة الأموية، سنة 132هـ، إلا أن الخوارج كان قد قصم ظهرهم، وكانوا قد انقسموا على أنفسهم إلى صفرية وأباضية، وفقدت حركتهم زخمها السابق، وكثر فيها الطامحون للرياسة والزعامة، ولم تهدأ البلاد إلا بقيام الدولة الأغلبية، سنة 184هـ.
(المصدر: مجلة البيان)