وقائع هزيمة محتومة.. فورين أفيرز: لماذا أخفقت أميركا في أفغانستان؟
كشفت مجلة “فورين أفيرز” (Foreign Affairs) في مقال مطول عن أن قائد القوات البريطانية السابق في أفغانستان الجنرال مارك كارلتون سميث هو أول من تنبّأ بأن التحالف الدولي الذي يخوض حربا في تلك الدولة الواقعة في آسيا الوسطى لن يخرج منها فائزا.
وورد في المقال الذي كتبته الصحفية البريطانية كريستينا لامب أن الجنرال أخبرها في عام 2008، من قاعدة عسكرية بولاية هلمند تتمركز فيها قوات تابعة للتحالف الدولي لقتال حركة طالبان، أنهم يخوضون حربا لا يمكن كسبها عسكريا.
كان سميث أول ضابط كبير في التحالف يصرح بذلك علنا، فما كان من وزير الدفاع الأميركي آنذاك روبرت غيتس إلا أن سارع بالتنديد بالجنرال البريطاني ووصفه بالانهزامي أمام وسائل الإعلام.
إنهاء الحرب الأبدية
ولكن بعد 13 عاما من ذلك، يبدو أن الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن توصل إلى الاستنتاج نفسه الذي خلص إليه الجنرال مارك سميث. فقد أعلن بايدن في أبريل/نيسان الماضي أن الولايات المتحدة ستسحب ما تبقى من قواتها في أفغانستان بحلول الذكرى 20 لهجمات 11 سبتمبر/أيلول منهيا بذلك ما وصفها بالحرب الأبدية.
على أن انسحابا من هذا النوع بات أمرا مفروغا منه الآن، فقد أثبتت طالبان أنها “عدو عنيد” لن يبرح مكانه وأحكم سيطرته على نصف مساحة أفغانستان تقريبا، كما تقول كريستينا لامب في مقالها.
أما كيف ساءت الأمور بذلك الشكل في الصراع الذي وُصف من قبل بـ”الحرب الجيدة” (لتمييزها عن الحرب في العراق)، فكان هذا السؤال هو محور كتاب جديد بعنوان “الحرب الأميركية في أفغانستان” (The American War in Afghanistan) لمؤلفه المؤرخ كارتر مالكاسيان الذي عمل مستشارا سابقا للقادة العسكريين الأميركيين في أفغانستان.
ففي ذلك الكتاب، كما تستعرضه كاتبة المقال، يتساءل مالكاسيان قائلا: كيف يعقل أن تخفق الولايات المتحدة وحلفاؤها في إلحاق الهزيمة بطالبان رغم حشدهم زهاء 140 ألف جندي في عام 2011 وأحدث أنواع الأسلحة والعتاد في العالم؟
ويمضي المؤرخ الأميركي متسائلا عن السبب الذي جعل القوى الغربية تمكث طوال تلك المدة ليكلفها ذلك ما يفوق 2 تريليون دولار وأكثر من 3500 من أرواح جنود الحلفاء، هذا غير أعداد كثيرة أخرى من الجنود الذين أصيبوا إصابات بليغة في قتالهم بحرب وصفها الجنرال البريطاني وآخرون بأنه “مستحيل الفوز بها”.
سبب إطالة الحرب
وتلفت كريستينا لامب -وهي كبيرة مراسلي الشؤون الخارجية بصحيفة “صنداي تايمز” (The Sunday Times) البريطانية- إلى أن التدخل الأجنبي في أفغانستان بدا في مستهل الحملة العسكرية أنه سيكون تجربة ناجحة، فقد دخلت الولايات المتحدة إلى أفغانستان في أكتوبر/تشرين الأول 2001، وهي تحظى بدعم الأمم المتحدة وتستمد عنفوانها من غضب عالمي تجاه هجمات 11 سبتمبر/أيلول على واشنطن ونيويورك.
فكان أن نشرت أميركا “قاذفات بي-52” (B-52 bombers)، وصواريخ موجهة بالليزر وقوات خاصة تعرف باسم “القبعات الخضر” -وهي إحدى وحدات القوات الخاصة الأميركية- التي عملت إلى جانب المليشيات المحلية لإطاحة حركة طالبان في غضون 60 يوما.
وبدت العملية -التي لم تفقد فيها أميركا سوى 4 جنود فقط 3 منهم بنيران صديقة- في مستهلها نموذجا للتدخل، وبلغت تكلفتها الإجمالية 3.8 مليارات دولار.
وكان جراء ذلك أن سقطت طالبان، وغادر أسامة بن لادن إلى باكستان، ولم تعد إدارة بوش تعرف ما تريد تحقيقه في أفغانستان على ما يبدو.
أخطاء أميركا
ورغم ما أحرزته واشنطن من بعض نجاح هناك -على سبيل المثال منح المرأة الأفغانية حقوقها- فإنها لم تكن لديها رغبة في إعادة إعمار أفغانستان، وليس لها دراية بالدولة التي تعصف بها الحرب، فضلا عما يتطلبه تأمين تلك البلاد وإعادة بنائها من عمل.
وتنقل كريستينا لامب في مقالها عن مالكاسيان أن الولايات المتحدة ارتكبت من الأخطاء بين عامي 2001 و2006 ما مهد الطريق إلى ذلك الإخفاق، فوزير الدفاع الأميركي آنذاك دونالد رامسفيلد لم يرغب بالاستثمار في تدريب الجيش الأفغاني، وكان أمراء الحرب يتنقلون بحرية حتى إنهم أصبحوا وزراء ونوابا في البرلمان رغم أن معظم الأفغان يحملونهم وزر انزلاق البلاد في أعمال العنف.
وفي الوقت نفسه، استبعدت الولايات المتحدة وحلفاؤها التفاوض مع طالبان على تسوية سياسية لعدم تقديرهم أن الحركة تمثل وجهة نظر العديد من أفراد قبيلة البشتون.
وبدلا من ذلك عملت واشنطن على تمكين المليشيات، وأفرطت في شنّ عمليات لمكافحة “الإرهاب” الأمر الذي أدى إلى نفور المواطنين الأفغان العاديين ودفع حركة طالبان المستبعدة إلى اللجوء مرة أخرى إلى العنف، حسب مقال فورين أفيرز.
وعلى الرغم من ذلك فقد عدّت إدارة بوش حملتها في أفغانستان ناجحة ووجهت اهتمامها صوب العراق. وفي تلك الأثناء، فرّت حركة طالبان عبر الحدود إلى باكستان حيث أعادت تنظيم صفوفها وجمعت تبرعات وجنّدت طلبة المدارس الدينية ودرّبتهم بمساعدة من أجهزة الأمن والمخابرات الباكستانية.
الدور الباكستاني
ويرى مالكاسيان أن تفكير إسلام آباد الإستراتيجي كان يتركز على غريمتها نيودلهي مخافة أن تقوم الهند بتطويقها إذا ما حصلت على نفوذ في أفغانستان، إلا أن دور باكستان تبين أنه مدمر. وحتى عندما كانت الولايات المتحدة تباشر حربها في أفغانستان، وجد خصومها الذين تقاتلهم ملاذا وتدريبا في باكستان المجاورة.
غير أن إدارة بوش لم تكتف بغض الطرف عن “مكايد” باكستان، بل قدمت لها معونة بمبلغ 12 مليار دولار خُصص ما يزيد على نصفها كتعويض عن العمليات العسكرية اعتقادا منها أن إسلام آباد تقدم لها يد المساعدة في القتال -الذي تعدّه واشنطن الأهم- ضد تنظيم القاعدة.
ويشير مالكاسيان في كتابه إلى أن ثمة شيئا آخر كان في مصلحة حركة طالبان ألا وهو أنها حظيت بتأييد الريف الأفغاني لها، “حيث المنازل مبنية من الطين، والنسوة مخفيات عن الأنظار والأطفال حفاة”، وهو ما عدّه المؤرخ الأميركي عالما آخر “حيث لا هواتف نقالة ولا سيارات ولا بنادق هجومية، عالم بعيد عن القرن 21”.
ويزعم المؤرخ في كتابه أن طالبان عمدت إلى تصوير نفسها قوة تحارب الكفار من أجل الإسلام، واستغلت التنافس بين القبائل لمصلحتها، وهو ما لم تكن القوى الغربية على دراية به.
ومضت كريستينا لامب في مقالها إلى التذكير بأن الرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي استبدّ به الغضب جراء الغارات الجوية لحلف الناتو، وتدخل البريطانيين في شؤون ولاية هلمند، وبدلا من أن يعمل على توحيد القبائل لمحاربة طالبان سعى إلى تقسيمها حتى لا تشكل تهديدا سياسيا.
وانتقدت الصحفية البريطانية إستراتيجية الرئيس الأميركي باراك أوباما في أفغانستان، مشيرة إلى أنه لم يفكر قط في سحب كل قواته منها رغم أنه أبدى تحفظه من إرسال القوات وإنفاق الأموال في تدخلات عسكرية وعارض الحرب في العراق.
إيران وروسيا
وبينما كانت الولايات المتحدة عالقة في أفغانستان، كانت حركة طالبان توسع نفوذها بمساعدة من إيران وروسيا اللتين كانتا تريدان جعل الحياة صعبة للأميركيين في أفغانستان، حسب تعبير كريستينا.
أما الرئيس دونالد ترامب فكان يريد مخرجا من أفغانستان، فدخل في مفاوضات مع طالبان لأول مرة وأبرم اتفاقا معها في فبراير/شباط 2020 تعهد فيه بالانسحاب من هناك بحلول الأول من مايو/ايار 2021.
ولما اعتلى جو بايدن سدّة الحكم في الولايات المتحدة، أعلن أنه سينسحب من هناك بحلول سبتمبر/أيلول المقبل، مشددا على ضرورة التركيز على “السبب الذي حدا بنا إلى الذهاب (إلى أفغانستان) في المقام الأول وهو ضمان ألا تُستخدم أراضيها كقاعدة انطلاق للهجوم على وطننا مجددا”.
ورغم من أن أميركا -كما تدّعي كاتبة المقال- أنجزت تلك الغاية، إذ لم يُشنّ أي هجوم عليها من أفغانستان منذ 11 سبتمبر/أيلول 2001، فإن تنظيم القاعدة لم يختف من الوجود، بل إن الوضع أصبح أكثر تعقيدا من ذي قبل في حقيقة الأمر.
وأوضحت أن الخطة الأميركية الحالية تقوم على احتواء “الإرهاب” من بعد باستخدام الطائرات المسيّرة، وشبكات التجسس، وشنّ عمليات خاصة من قواعد عسكرية في المنطقة.
وتختم كريستينا لامب مقالها في مجلة فورين أفيرز بالقول إن حركة طالبان تنظر إلى الانسحاب الأميركي على أنه انتصار لها.
(المصدر: فورين أفيرز)