وفاة مرسي وإشكالية الصندوق الأسود
بقلم د. بدر حسن شافعي
تعد عملية توثيق المراحل التاريخية لأي دولة أو أمة أو حتى جماعة، هامة لعدة اعتبارات منها حفظ الذاكرة من النسيان، وتبصير الأجيال القادمة بهذه الأحداث حتى يكونوا على علم بها، ثم إن هذا التوثيق هام للباحثين المعنيين بتحليل مضمون المعلومات بعد جمعها من مصادرها الرئيسية، فضلا عن المحيطين بها.
وبالتالي فإن غياب هذا التوثيق قد يترتب عليه نتائج عكسية، فقد يؤدي إلى غياب الوعي، أو صعوبة التحليل العلمي الدقيق لافتقاد المعلومات من مصادرها. ومن هنا فإن أحد الإشكاليات التي تواجه وستواجه الباحثين العرب والأجانب المهتمين بالشأن المصري هي ما يتعلق بثورة يناير بصفة عامة، وبفترة حكم الرئيس الراحل محمد مرسي التي تعد هامة رغم قصرها، كونها أول تجربة ديمقراطية حقيقية في مصر. وإذا كان باستطاعة الباحث تقييم هذه الفترة من خلال بعض المؤشرات لاسيما الكمية والموجودة في التقارير الاقتصادية والاحصائية مثل الناتج القومي والمحلي الإجمالي، وهل زاد أم نقص، عملية الأجور وهل تحسنت أم لا، القوى الشرائية للنقود، ومعدلات التضخم وغيرها، لكن في المقابل ستظل المعلومات المتعلقة بملابسات العديد من القرارات والمواقف غامضة وتخضع للتفسير الشخصي بسبب غياب المعلومة من مصدرها الرئيس.
ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر ملابسات إقالته لوزير الدفاع المشير طنطاوي ورئيس الأركان سامي عنان أغسطس 2012 بعد أحداث رفح، والاتيان بالسيسي وزيرا للدفاع، وهل هو فعلا الذي جاء به؟ أم أنه فرض عليه بحسب شهادة أحمد مكي وزير العدل السابق في عهد حكومة هشام قنديل لموقع مصر العربية “18 سبتمبر 2016”.
حيث يرى أن الأمر تم باتفاق عسكري – عسكري بعيدا عن مرسي، وأنه أشبه بالمسرحية ومحاولة إظهار أن مرسي هو الذي أقاله، وأيضا هناك ملابسات إصدار مرسي الإعلان الدستوري الصادر في نوفمبر 2012 والذي لم يعلم به بعض المقربين منه، وبعض مستشاريه، والذي أقال بموجبه النائب العام، وأعطى لنفسه بعض الصلاحيات الاستثنائية بسبب عدم وجود مؤسسات دستورية، وهو الإعلان الذي استغله خصومه في إظهاره بصورة المستبد، وأسفر عن وقوع أحداث الاتحادية، وما تلاها من تشكيل جبهة الإنقاذ، وحركة تمرد وغيرها، رغم أن مرسي تراجع عن هذا الإعلان بفترة وجيزة.
كذلك من القضايا الشائكة أيضا الكواليس التي شهدتها اللحظات الأخيرة قبل عزله ومنها: هل كان الرئيس على علم بالانقلاب؟ ولماذا لم يعزل السيسي؟ أو يدعو لانتخابات رئاسية مبكرة؟ أو حتى يخرج في خطابه الأخير “قبل عزله وحبسه” ليوضح الحقائق؟ وحتى عندما حاولت قناة الجزيرة الاقتراب من هذا الملف، والاستماع لشهادة سكرتيره للعلاقات الخارجية خالد القزاز في فيلم “الساعات الأخيرة” الذي بث في فبراير الماضي، انتقدت أسرة مرسي الفيلم كونه لم يستمع لشهادتها.
كل هذه الأسئلة هي بمثابة صندوق أسود فقدناه كباحثين بوفاة الرئيس مرسي، فهو الشاهد الأساسي على أفعاله وتصرفاته. ويبدو أن مرسي كعادة الرؤساء لم يكن لديه وقت خلال فترة الرئاسة القصيرة والمشحونة بقضايا حقيقية وأخرى مفتعلة، لتدوين مذكراته، التي غالبا ما يقوم بها الرؤساء والشخصيات الهامة بعد استقالتهم أو تفرغهم من مناصبهم.
كما يبدو، وهذه وجهة نظر شخصية، أن مرسي لم يصرح ببعض هذه الكواليس خاصة ما يتعلق بمحاولات الانقلاب التي كانت مؤشراتها واضحة للجميع قبل حدوثها بفترة، خشية حدوث مزيد من الانقسام في البلاد، وعدم تحميل الشعب من الجيش، وربما يفسر هذا طلبه في أكثر من مرة خلال محاكماته من عقد جلسة خاصة مع هيئة المحكمة، لأن لديه العديد من المعلومات التي يريد الإدلاء بها.
إن عملية إخفاء مرسي قبل الانقلاب، ثم ظهوره بعدها بحوالي أربعة أشهر في أول محكمة، ثم قرار عدم بث الجلسات على الهواء على غرار ما كان يحدث لمبارك في بداية الثورة، ثم وضعه في قفص زجاجي، وعدم التقائه بهيئة الدفاع أو بأسرته سوى مرتين فقط خلال ست سنوات، ثم الحرص على نزع لقب الرئيس الراحل من كل وسائل الاعلام المصرية بعد رحيله، كل هذه دلائل تشير إلى رغبة في طمس هذه المرحلة التاريخية وهذا الصندوق الأسود بلا رجعة.
وربما هذا قد يتكرر مع البقية الباقية من رموز ثورة يناير سواء من الإخوان أو غيرهم. وبالتالي تظهر هنا إشكالية التوثيق التي يفترض أن تقوم بها الجهات القومية باعتبارها أحد المراحل الهامة في حياة البلاد بغض النظر عن تقييمنا لها. لكن من الواضح حتى الآن أنها غير حريصة على ذلك، أو ربما تقوم بعملية توثيق غير علمي لا يستقي المعلومات من مصادرها الصحيحة، وإنما من محللين سياسيين ذوي توجه معين، وتصدير هذا الأمر على أنه توثيق. بل إنه ربما يتم حتى قلب الحقائق، فربما يوثقون لاحقا أن مرسي كان رئيسا للإخوان وليس رئيسا لمصر، بدليل أنه دفن بمدافن الإخوان وبجوار اثنين من مرشدي الجماعة السابقين، دون الإشارة إلى أن هذا كان قرار السلطات، وأن أسرته كانت حريصة على دفنه في مسقط رأسه بمحافظة الشرقية. وغير هذا كثير.
إن أحد الإشكاليات الهامة التي تواجه وستواجه قوى المعارضة المصرية خاصة الموجودة في الخارج، إشكالية تصحيح الوعي السياسي للشعب المصري، والذي يتم تزييفه بصورة ممنهجة لتشويه الأمور وقلب الحقائق ضد ثورة يناير، والقوى التي دعمتها وساندتها. تصحيح هذا الوعي، يتطلب من ضمن ما يتطلب عملية التوثيق أولا، والحصول على الشهادات من مصادرها الرئيسة.
صحيح أن هناك بعض الصعوبات في الوصول لهذه المصادر بسبب الظروف والتضييقات الأمنية كتلك التي تعاني منها زوجة الرئيس مرسي، أو بسبب اعتقال العديد من رموز هذه الثورة. لكن بعض هذه الإشكاليات يمكن التغلب عنها من خلال الحصول على شهادات مكتوبة، يتم إرسالها عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وما لم يتم ذلك، فستبقى بعض الروايات التي نسمعها هنا وهناك إما روايات شخصية تعبر عن وجهة نظر الراوي، وفي بعضها الأخر ربما تختلط المعلومة بالتحليل، ما يضع إشكاليات جمة على كل من الباحثين والأجيال القادمة [1].
[1] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
(المصدر: المعهد المصري للدراسات)