وفاءً للقرضاوي في عامه الخامس والتسعين!
بقلم عصام تليمة
يبلغ شيخنا العلامة القرضاوي عامه الخامس والتسعين، فقد ولد في 9/9/1926م، ويستحق منا الوفاء له بالكتابة عنه، فالكتابة عنه حق، ووفاء لقامة علمية كبيرة، قدمت لدينها وأمتها، ما ترجو به رضا ربها، وإذا كان حديثنا وفاء له، فسوف أجعل حديثي عن بعض معالم الوفاء في حياة القرضاوي.
يتصف الشيخ القرضاوي بالوفاء، والوفاء خلق رأيته في القرضاوي يمارسه مع كل ذي فضل عليه، مهما صغر أو كبر الجميل المصنوع معه، تجد ذلك في وفائه لأهله، ووفائه لشيوخه وأساتذته، ووفائه لتلامذته، بل الوفاء للناس كل الناس. ووفائه للمكان الذي ولد فيه، والمكان الذي يعيش ويحيا فيه.
الوفاء للأهل
فمن مواقف وفائه لأهله، ما قاله في حفل تكريمه في (دبي) بمناسبة اختياره (شخصية العام الإسلامية)، وذلك سنة: 2000م، وأخذ يذكر كل ذي فضل عليه، فكان مما قال:
واسمحوا لي أيها السادة أن أذكر في هذا المقام كل من كان له فضل علي في مسيرتي الطويلة حتى وصلت إلى هذا اليوم المشهود.
- أذكر أول ما أذكر والدتي – رحمها الله – التي كانت أول من دفعني وصحبني إلى الكُتَّاب وأنا في الخامسة من عمري.
- أذكر عمي أحمد، الذي كفلني بعد موت أبي وأنا رضيع في الثانية من عمري، فكان لي خيرا من كثير من الآباء لأبنائهم، وكان يعاملني كما يعامل أولاده، بل أفضل، وكنت أناديه دائما: يا أبي.
- أذكر أبناء عمي الذين كانوا لي أفضل من كثير من الإخوة لإخوانهم، وكانوا لا يدخرون وسعا لمساعدتي حتى أكمل مشواري في الأزهر.
- أذكر خالي عبد الحميد الذي كان يعتز بي، ويملأ نفسي بالأمل والطموح.
- أذكر جدتي وخالاتي اللاتي كن أمهات لي بعد أمي التي لقيت ربها وأنا في الخامسة عشر من عمري.
- أذكر أقاربي جميعا الذين أعطوني من حبهم ما نسيت به يتمي المبكر.
-
الوفاء لشيوخه
ومن وفائه لشيوخه: وفاؤه للشيخ الغزالي، فقد كتب كتابا كاملا عنه، وقد كان الكتاب مقالا فطال، والشيخ الغزالي يستحق أن تكتب عنه الكتب المطولات، وقد حكى لي الشيخ القرضاوي موقفا حدث له مع مجموعة من الشباب وذلك عندما التقوا به في السعودية، وكان قد ذهب للقاء في مؤسسة (دلة البركة) وبعد أن أدى صلاة الظهر، فأوقفه هؤلاء الشباب وقالوا له: أنت الشيخ القرضاوي؟ قال: نعم. قالوا: نريد أن نسألك سؤالا، فقال: ولكن عندنا اجتماع الآن، وأنا مشغول.
فقالوا: سؤال واحد ولن نطيل عليك فيه، فقال: تفضلوا اسألوا. قالوا: ما رأيك في الغزالي؟ قال لي الشيخ: فادعيت أني فهمت أنه يسألون عن الغزالي القديم، وأنا أعلم أنهم يسألون عن المعاصر، فقلت لهم: هو حجة الإسلام، ذلك الرجل الذي جدد الدين في عصره لما رأى انحرافا في السلوك وبعدا عن الروحانية، فكتب موسوعته (إحياء علوم الدين).
فقاطعني أحدهم وقال: نحن لا نقصد أبا حامد الغزالي، إنما نقصد الشيخ محمد الغزالي المعاصر صاحب (السنة النبوية بين أهل الفقه والحديث) فقال الشيخ: الغزالي لسان الصدق، الرجل الذي كافح الاستبداد، وحارب الظلم، ودافع عن الإسلام ضد العلمانيين والملحدين. فقالوا له: لكنه كافر. فقال الشيخ: إذا كان الغزالي كافرا، إذن لا يوجد على ظهر الأرض موحد واحد!
ومن وفائه لأقرانه من العلماء: الشيخ حسن عيسى عبد الظاهر رحمه الله، وقد كنا قد دعينا للغداء عند الطبيب الفلسطيني المقيم في قطر دكتور عبد الله شحاده، وقد كادت السيارة التي نركبها أن تصطدم بسيارة الشيخ حسن عيسى، ولذلك بسبب خطأ ارتكبه سائق الشيخ، فقال لي الشيخ: هذا الشيخ حسن عيسى عبد الظاهر، فقلت: – ولم أكن أعرفه حينذاك – لا أعرفه، فقال: إنه عالم جليل من العلماء الأثبات المتعمقين في العلوم الإسلامية، وينبغي أن تتعرف عليه، ثم أثنى ثناء حسنا عليه، وقد وجدت بالفعل أن ما قاله القرضاوي فيه، ولم يكن مبالغة في المدح، إنما وفى الرجل حقه.
الوفاء لتلاميذه
والقرضاوي وفي لتلامذته كذلك، تلمس ذلك في اهتمامه بمشكلاتهم، وسؤالهم عن آخر بحوثهم واهتماماتهم العلمية، والإشادة بما يكتبون، والنقل عنهم، وإن لم يحتج لهذا النقل، لكنه من باب الإشارة لجهدهم، وتنبيه الناس لعطائهم العلمي.
وما أشد وأقسى على القرضاوي من سماع نبأ مرض أحد تلامذته، أو إخوانه، فضلا عن وفاته، رأيت الحزن يملؤه عندما مرض الدكتور عصام البشير عندما أصابته جلطة سنة 1999م، عندما كان أستاذا زائرا في كلية الشريعة بجامعة قطر.
ورغم سنه ومتاعبه ومشاغله، لا يفوت مناسبة اجتماعية لمن له به صلة دون المشاركة، ولو بالقليل، وسألته مرة: لماذا تفعل ذلك وأنت رجل مشغول جدا؟ قال: إنني أرى سعادة في عيون الناس عندما أحضر لهم مناسبة اجتماعية، تجعل من الفرحة فرحتين، فرحة بمناسبتهم، وفرحة بحضوري ومشاركتي، ولا أحب أن أحرمهم هذه الفرحة والسعادة.
كثيرا ما كان يعاتبنا على أننا عرفنا بوفاة أحد ولم نخبره ليعزي أهله، وعندما توفي الشيخ فيصل مولوي رحمه الله، خشينا عليه من وقع الخبر، فأخفيناه عنه مدة، وقد كان وقتها في المستشفى، وزاره وقتها الدكتور صلاح سلطان فك الله أسره، ولم نكن نبهناه لذلك، فإذ بصلاح سلطان يقول له: شد حيلك في الشيخ فيصل، وأنا أعلم مكانته لديك، فقال له الشيخ: ماله الشيخ فيصل؟ عندها علم صلاح سلطان أن الشيخ لا يعلم، فأخبره، فهاج الشيخ وعاتبنا بشدة، وقبل عذرنا بأننا خشينا على صحته في مرضه وقتها.
ورأيت دموعه تنهمر، ويبكي بكاء حارا على وفاة تلميذه الأديب القطري الدكتور محمد قطبة رحمه الله، وأثر فيه أكثر أنه مات وهو خارج قطر، وقد حرم من تشييع جنازته والصلاة عليه، وإن استدرك ذلك فيما بعد، فتكلم عنه في خطبة الجمعة، وصلى عليه صلاة الغائب، كما صلى في الجمعة التالية صلاة الغائب على الأستاذ عادل حسين صديقه الذي عرفه عليه الأستاذ محمد عبد الحليم أبو شقة رحم الله الجميع.
وعندما دخلت ابنتي (سارة) رحمها الله في غيبوبة قبل وفاتها، زارها مرتين في المستشفى، وظل لخمس سنوات كلما هاتفني، أو رأيته، يسأل عن أحوالها، ويفتيني في شأنها بفتوى لم أستطع تنفيذها، ولم أجرؤ أن أقول الفتوى لزوجتي ولا لأهلي، ولما توفيت، عزاني، ثم كلمني بأسى وتأثر، لصبرنا على مرضها، وأني أخطأت بأني ترددت في الأخذ بفتواه.
البحث عن حمزة زوبع
القرضاوي رجل وفي لمن صحبه ولو ساعة، كلما اتصلت به للسؤال عنه، يجرنا الحديث للسؤال عن أشخاص أعرفهم ويعرفهم، ويسألني عن أخبارهم، وأحوالهم، ومرة فوجئت به يسألني عن شخص معروف بيننا بسوء الخلق، والفساد المالي، ولا يعرف ذلك عنه الشيخ، سُرق جواز سفره، أو ادعى ذلك، فوجئت به يسألني عنه، وماذا فعل في مشكلته؟ لمجرد أن الشخص اتصل به وطلب منه المساعدة، وقابله وقتها، والعجيب أنه بعد سنتين أو ثلاث نسي اسم الشخص حين ذكرته به مرة أخرى.
وفي رمضان الماضي، فوجئت بمكتب الشيخ، وقد أرسل تهنئة لكل محبيه بمناسبة شهر رمضان، وكان الشيخ مريضا بكورونا، وكلما زاروه، يخبرهم أنه نسي أن يهنئ واحدا من الإخوان المسلمين، وهو إعلامي، وطبيب، وكلما ذكروا له اسما، يقول: لا، ليس هو، ثم قال لهم: اسألوا عصام يعرفه، فسألوني، قلت لهم: هذه الأوصاف لا تنطبق إلا على الدكتور حمزة زوبع، وقد كان فعلا، وسر بذلك زوبع.
الوفاء لمصر وصفط تراب
بل نرى وفاء الشيخ للمكان نفسه، فتجده وفيا للمكان الذي ولد فيه، والمكان الذي ينتمي إليه، أو بلده الأول: مصر، فقد تبرع لقريته (صفط تراب) لبناء مسجد ومعهد أزهري، وقد أطلق الشيخ على كل مشاريعه الخيرية في قريته اسم (الصحوة) فأراد بذلك أن ينسبها إلى الأصل، لا أن تنسب إلى اسمه، فالصحوة أشمل وأعم من القرضاوي، كما يرى.
ووفيا لبلده مصر، رغم تنمر سلطته، وتجبرها عليه، منذ أيام عبد الناصر، حتى الآن، ومحكوم عليه بالإعدام ظلما وافتراء، ومع ذلك لا يكل من الدعاء لمصر بالخير، ولأهلها، لأن شعبها – كما يقول – لا يستحق هذا الجبروت والاستبداد من أنظمتها، بل يستحق كل خير.
الحديث عن وفاء القرضاوي يتسع ويطول، ولكني أردت من باب الوفاء له في يوم ميلاده، وفاء له ولمواقفه، أن نذكر بها، زاده الله وفاء، ومتعه الله بالصحة والعافية، وكل عام وأنتم بخير يا مولانا.