وعادت طالبان
بقلم أحمد طه
بعد نحو 20 سنة من قتال المحتل الأمريكي وتحالفه الدولي في أفغانستان.. تُسطر حركة طالبان انتصاراتها الباهرة بعدما هربت من أمامها أكبر قوة عسكرية في العالم.. وبقيت تواجه ذيول المحتل من الحكومة المحلية العميلة الباغية، وفي هذا الحدث الجليل فرح للمؤمنين..
ودروس عظيمة للأمة المسلمة، وبيان لطريق النصر؛ بقتال المحتل الخارجي، وجهاد العدو الباغي العميل المنافق الداخلي، ولا سبيل لتحقيق الأمة للتمكين في الأرض إلا بمواجهة العدو الخارجي والداخلي. ومن ثم سياسة الأمة بالشورى والعدل، والتحاكم إلى الشرع.
لقد قاتل المجاهدون الأفغان المحتل الروسي، ومن قبله المحتل البريطاني، فهو شعب كريم حر شجاع على فقره وبساطته، ولكن الله رحم المجاهدين من قيادات سفهيه رعناء، وقاتل حتى النصر أو الشهادة.. عصمهم الله من فكر جين شارب ومقاومة اللاعنف، وعصمهم من الغلو والهوس بالتكفير، وحفظهم من الانقسام على أنفسهم والاختلاف فيما بينهم فكانوا يداً واحدة على عدوهم.
واجهوا القوة بالقوة بلا غلو ولا تميع، وواجهوا الناس بالحسنى والرضى، وواجهوا الطغاة من بني جلدتهم بما يستحقون، وعفوا عن سفهاء وجهلاء قومهم.
إنَّ هذه التجربة الحرة الكريمة لجدير بنا أن نتدارسها من كل أبعادها الفكرية والنفسية والاجتماعية والسياسية والحربية؛ لنقف على مواطن العبرة، ولنتعلم ـ نحن الجهلاء ـ من هؤلاء الأحرار، ونعرف موطن الخلل في نفوسنا؛ فنُغير ما بأنفسنا حتى يتغير ما بواقعنا، كما هي سنن الله في خلقه.
وأما المبغضون لهذا النصر فهم غلاة التكفير، وغلاة السلمية، والمنافقين والطغاة وعبيدهم.
ولقد كان “تنظيم الدولة” قاب قوسين أو أدنى من نصر أعظم من ذلك، لكن وحش التكفير والغلو أكله، وتعنته مع الناس أفسد حاضنته، واستعداء البشرية كلها جعل الجميع يريد الخلاص منه، والغلو كان له جذوره.. ولكن جاء من نفخ فيه حتى تحول إلى نار أكلت التنظيم كله، حتى نبذه الجميع، وهو نفس ما حصل في الجزائر في التسعينات، والغفلة عن هذه الدروس جريمة كبرى يجب عدم تكرارها مرة ثانية أبدا، والتوبة إلى الله توبة نصوحا، وتصحيح المناهج التي أدت لهذا الغلو، وتجفيف البيئة والظروف التي قد تسمح بخروجه مرة ثانية، أو يحصل من خلاله الاختراقات.
ويقول ديفيد هيرست عن الأنظمة العربية: “يبعث كل هذا [انهزام الغرب في أفغانستان، وانهياره] برسالة مخيفة إلى هؤلاء الأمراء والجنرالات في الشرق الأوسط، الذين قد يجدون صعوبة في الاستمرار لخمسة أسابيع إذا سحبت الولايات المتحدة قواتها أو دعمها العسكري؛ إذ إن الديوان الملكي في الرياض وأبو ظبي وعمان، وكذلك القصر الرئاسي في القاهرة، يجب عليهم أن يسألوا أنفسهم كم أسبوعاً يمكنهم أن يصمدوا إذا كان هناك مسلحون إسلاميون يحظون بشعبية قادمون إليهم.
يشتهر عن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قوله إن السعودية قد تصمد لأسبوعين إذا غادرت الولايات المتحدة. ولم يكن يمزح..” [عربي بوست]
***
وإنَّ دخول طالبان قصر كابل كان هو الفصل الأخير من رحلة كفاح مرير استمر عقدين من الزمان سقط فيه من القادة والشهداء ما الله به عليم؛ وذاقوا من الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات ما ذاقوا.. إن القادة والجنود الذي سطروا هذا النصر بدمائهم لم يروه اليوم، وقد كانوا يرون ما هو أفضل منه، وهو اليقين بوعد الله ونصره.
وإنه منذ بعثة النبي ـ عليه السلام ـ وإلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، تظل هناك طائفة قائمة بالحق، داعية إليه في كل جيل، وهذا هو نصر الله، وتمام نوره، وإن انتصار الأمة منوط بمدى استجابتها لدعاة الحق، فإذا هي استجابت وجاهدت.. عزت وتمكنت وانتصرت، وإن وهنت وضعفت واستكانت.. كان ذلها وهزيمتها.
***
ومن اللافت للنظر تهنئة مفتي عُمان لحركة لطالبان، وإصداره بيانا مطولاً يبارك فيه دحر المحتل الأجنبي، وهو ينتسب إلى المذهب الإباضي! وهذا هو موقف المسلم الصحيح، وإننا لا نطمع أن نجد ذلك عند قياداتنا السنية الرسمية، أو قيادات الشيعة، ولكننا نطمع أن تُهنأ قيادات الحركة الإسلامية هذا الفتح العظيم وتدعمهم معنويا، وماديا إن استطاعوا.. أم إنهم يخافون نظرة الغرب، أو يواسونه في مصابه، أم يخافون على مكانتهم وتجارتهم في بلاد الغرب؟!
وجزى الله خيرا العلماء المستقلين، وحركات الجهاد الذين بادروا بالمباركة، مما يوحد شعور الأمة في التحرر، وكسر الطوق، ومشاركة النصر والفرح به، والفرح بالنصر ليس معناه إعطاء العصمة للمنتصر، فهناك مبدأ إسلامي يمنع ذلك وهو: “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، فهذا المبدأ يمنع مباركة الأخطاء أو التمادي فيها، فيوازن بين الفرح والمباركة وبين أخذ الحذر من كيد الأعداء وشرور الأنفس.
***
وإنَّ الغرب إذ يعلن أن يوم دخول طالبان لكابل يوم الإذلال للغرب، وقالوا كما جاء في صحيفة الإندبندنت البريطانية: The humiliation of the west in Afghanistan is now complete”” (إذلال الغرب في أفغانستان قد اكتمل الآن) فإنهم لم يقصدوا أمريكا فحسب ولا أوروبا بل الحضارة الغربية التي أخذت عهداً على نفسها بمحاربة الإسلام وشريعته، واستعباد المسلمين وسرقة مقدراتهم وثرواتهم.. إنه يوم إذلال لخطتهم وهزيمة مهينة لهم.
وعندما يشعر الكيان الصهيوني بالقلق من فتح كابل فإننا نشعر بالطمأنينة، وعندما يشعر المجرم بوش الابن بالحزن العميق، فإننا بشعر بالفرح الكبير، وعندما يشعر بايدن بالصدمة فإننا نشعر بالخير والفلاح.
ولذا فهذا اليوم يعتبر يوم عيد.. يوم يذل الغرب، وينتكس عملائه، ويُعلمنا أن النصر من عند الله، وأن النصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، ومن يمضي في سنة التدافع، ويستفرغ وسعه ويحسن التوكل على الله ينصره الله، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ومازال الغرب يتعامل بمنطق الاستعلاء والهيمنة والاستكبار، ويتظاهر بمظهر المدافع عن حقوق المرأة، والحريات، وهو أكبر قاتل ومجرم في تاريخ البشرية كلها، قتل الملايين، واغتصب آلاف النساء، ويعمل كأكبر قواد في العالم، وبعض دوله بعض دخلها القومي من أعمال الدعارة، ومازال يتاجر بلحومهن باسم التحرير، ومواجهة الغرب بدجله وكذبه وخداعه معركة مستقلة بذاتها قائمة معهم إلى قيام الساعة، ويجب أن لا نتهاون أبداً في رغبته المجنونة في الظهور بمظهر المتحضر الإنساني المعلم، وهو الطاغوت الجبار المفسد العنيد، بينما الأمة المسلمة هي الأمة الشاهدة والمعلمة والوارثة للكتاب والرسالة، وما عليها إلا الاستمساك بالكتاب والاستعلاء به، والجهاد في سبيل الله. والصبر على الأذى، وعدم الوهن والضعف والاستكانة.
ولعل هذه الفئة من المجاهدين سلكت طريق: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُواۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران (146)]
فاللهم أتم عليهم نصرك، وأحفظهم من شرور أنفسهم، وسيئات أعمالهم، وأحفظهم من مكر المنافقين والخائنين، وأيدهم بالحق، وأحفظهم من الغرور والكبر والظلم.
***
وهل أخلف الله وعده معنا في بلادنا العربية؟!
لقد وعدنا الله ـ جل جلاله ـ بالنصر والتمكين، فهل أخلف الله وعده؟
لقد قال تعالى:
ـ ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًاۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًاۚ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النّور (55)].
ـ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر (51)].
فأين هو هذا النصر والتمكين؟
لقد اشترط الله علينا حتى يُحقق لنا النصر والتمكين أن نلتزم بكتابه ولا نحيد عنه؟ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد (7)].
فبماذا أمرنا في كتابه، وما هو قدر استجابتنا لما أمر؟
أمرنا بـ:
ـ ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال (60)].
[ولم نفعل شيئا من ذلك، بل على العكس تحللنا من كل قوة مبذولة لنا].
ـ ﴿فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ [النساء (89)]. ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ﴾ [المائدة (3)].
[واتخذنا المنافقين والعلمانيين أولياء، واتقينا الذين كفروا، وتحاكمنا إليهم، وطلبنا نصرتهم لنا].
ـ ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُواۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران (146)]
[واتخذنا الوهن والضعف والاستكانة طريقاً واحداً لتحقيق النصر!!].
ـ ﴿وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الأنعام (55)].
[وتغافلنا عن استبانة سبل المجرمين، وصممنا آذننا عن كل ناصح أمين يُبصرنا بهم].
ـ ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ [الرّوم (60)].
[وقد استخف بنا الذين لا يوقنون، بل وأعطينا لهم أسماعنا وأبصارنا، وطلبنا نصحهم، فأضلونا].
ـ ﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةًۚ﴾ [النساء (102)].
[ونحن لم نغفل عن أسلحتنا فحسب، بل سلّمنا لهم للسلاح، وتبرأنا منه].
لقد أخلفنا وعدنا نحن مع الله، ولم نتمسك بعهده وميثاقه، والله ـ جل جلاله ـ لا يُخلف وعده أبدا.
لا إله إلا أنت سبحانك.. إنا كنا ظالمين.
***
المصدر: موقع البوصلة