بقلم د. وصفي عاشور أبو زيد – الجزيرة
تابع كثير من المخلصين تطورات المشهد داخل جماعة الإخوان المسلمين بقلق بالغ، وحق للأنفاس أن تنحبس، وللقلوب أن توجل؛ حينما يهدد شبح الانقسام جماعة كبيرة عاملة للإسلام كجماعة الإخوان المسلمين.
ونود أن نبين لإخواننا هذه المعاني فرارا من شبح التهويل أو الوقوع في فخ التهوين فنقول:
أولا: لابد أن نؤكد على أنه ينبغي أن نتعامل مع المستجدات وفق الرؤية الشاملة التي أُسِّست الجماعة لأجلها، وهي إقامة الإسلام الشامل وتحكيمه لـ (يكون الدين كله لله).
ولا يصح التفاني في نصرة الأشخاص وفي موالاتهم على حساب الانحياز للمبادئ والقيم.
ولا يمكن أن يكون هناك تعارض بين مصلحة الجماعة ومصلحة الإسلام؛ إذ إن الجماعة إنما أقيمت لنصرة الاسلام.
ثانيا: الخلاف وارد فيما لا نص فيه، وهو أظهر ما يكون في المستجدات الحياتية والنوازل السياسية، وبالأخص عند المحطات الفاصلة، والتي تنتقل فيها الجماعة من التنظير إلى التطبيق.
ولك أن تعلم أنه في المواجهة مع المحتل الايطالي في ليبيا رأي كثيرٌ من شيوخ الحركة السنوسية في ليبيا أن التفاوض مع المحتل أولى من مواجهته، ولكن البقية أكملت طريق الجهاد مع الشهيد عمر المختار، وبقي ذكر السنوسية بذكر المختار.
وفي تركيا حدثت تصدعات في البناء الحركي المناهض للعلمانية نتج عنها كيانات دعوية مستأنسة تقول: (أعوذ بالله من الشيطان والسياسة)، وأخرى حنَّكتْها التجارب وسارت في الشوط إلى منتهاه على غير رغبة من الأولى، وكان أن وصلت لحكم البلاد بكفاءة وتميز، كما نراه الآن، وكل هذا كائن وموجود.
ولا يغيب عنك أن الرأي الذي كان لا يحظى بالدعم في مقاومة المحتل في فلسطين بالقوة والسلاح، أصبح الآن هو المفخرة التي يتغنى بها كل مسلم غيور، والمتمثل في حركة المقاومة الإسلامية (حماس).
إن أية فكرة تنتقل من طور التنظير إلى التطبيق لابد أن تفرز رأيين أو أكثر، وهذا واقع ومشاهد وملموس، بل متوقع.
ثالثا: ليس انقساما بقدر ما هو أغلبية تصارع الأحداث على الأرض، وأقلية من الرموز تستحضر هواجس الماضي وتنعزل عن متغيرات ومتطلبات الواقع، وآفاق المستقبل، وتريد أن تأخذ الجميع إلي منحاها.
وإن الذي يطلب أن يجتمع كل أفراد الصف على رأي واحد في كل صغيرة وكبيرة مما لا نص فيه يطلب مستحيلا.
والخلاف لا يفسد الود، ولا ينغي أن يؤثر على عرى الأخوة وروابط الإيمان، وهو سنة إلهية، وهو وارد في كل مراحل الدعوة، وبالأخص مراحلها المفصلية في تاريخها كما ذكرنا.
ومثل هذه القضايا ينقسم الناس فيها بين مؤيد ومعارض، لكن هناك أكثرية وأقلية، وهناك رأي يمثل القواعد العريضة ورموزها المنتخبة ورأي آخر يتبناه بعض الأفراد ولو من القيادات التاريخية التي تستحضر هواجس الماضي دون القراءة المتأنية لحقائق الواقع، فتأتي تصوراتها أسيرة الهواجس بعيدة عن متطلبات الواقع ومنعزلة عن رؤية القواعد، مع احتكار الحقيقة بالافتئات على حق الصف الأصيل في الاختيار وإبداء الرأي والمشاركة في شورى حقيقية، كما يحاولون دعم موقفهم باحتكار المشروعية والحديث باسم المؤسسات.
وإن كل المحطات الخلافية في تاريخ الجماعة لم يكن فيها إجماع على أمر معين، ولكن الجماعة اعتمدت – انطلاقا من روح الإسلام – الشورى الملزمة، والنزول على رأي الأغلبية فيما لا نص فيه، ولم يقل أحد أن هذا انقسام في جسد الجماعة، وتسمية هذا الأمر انقساما مغالطة فكرية.
والضمانة أن نعلي من شأن المؤسسية والشورية في الجماعة، وهو الأمر الذي ينبغي ألا يختلف عليه اثنان.
رابعا: الانقسام بعد عزيمة الشورى هدر؛ حيث إن الانقسام الذي ينتج عن عدم رغبة فريق بالنزول على ما أنتجته الشورى والمؤسسية، لا يعد انقساما في الأصل؛ لأن التمسك بالرأي والاستكبار على المؤسسية يبقى هدرا وغير معتبر، وهو بخلاف التباين الأوّلِي في عرض الآراء أثناء الشورى، والذي يثري النقاش ويزكيه.
فإذا ما اتفقت الأغلبية – التي تمثل الصف بالانتخاب – على أمر ليس فيه نص يصير الرأي ملزما للجميع، وإن شذوذ البعض بعد عزيمة الشورى لا يسمى انقساما، بل يسمى خروجا عن ثوابت العمل الجماعي؛ إذ الواجب على الأقلية حتى وإن كانوا رموزا وهامات أن تنزل على رأي الشورى الملزمة.
فقد رأينا رسول الله ينزل عن رأيه لرأي الأغلبية في أحد – وهو الرمز والقدوة – لكن ابن سلول أسرها في نفسه، وانخذل بثلث الجيش بدعوى أن رأيه لم يسمع.
ومثل هذه الصورة لا تعد انقساما، بل هي عرقلة ينبغي أن يتجاوزها الصف على أية حال، وإهمال هذا الصنف – الذي لا زال يرى نفسه فقط – واجب شرعي وحركي وتنظيمي، ولا شك أن ذلك يصب في مصلحة الجماعة ومصلحة الإسلام.
خامسا: الكلام في المواقف لا يعني إهدار فضل أهل الفضل، فكثير من أفراد الصف يعطي بعض الشخصيات أكبر من حجمها، ونحن مأمورون شرعا بالعدل في القول، والإنصاف – ولو من النفس – وبالنصيحة لكل أحد.
إن فضل الصحابة لم يمنع القرآن من تقييم أداءهم، فقال الله معقبا على أخطاء بعضهم في غزوة أحد: “فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم”. “منكم من يريد الدنيا”. “فأثابكم غما بغم”. وقال لهم عقب بدر: “تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة”. “فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم”.
وفضل أبي ذر لم يمنع الرسول من أن يحجب عنه الإمارة حين سألها، فقال له: “إنك ضعيف، وإنها أمانة”.
وفضل العلاء بن الحضرمي، الذي ظهرت على يديه الكرامات، لم يمنع عمر بن الخطاب من محاسبته عندما أخطأ، فعزله عن قيادة الجيش.
وبالجملة: ليس يجوز فرض الرأي عن طريق التشغيب على الصف، واحتكار الحديث باسم المؤسسات وأن تهدر هذه الرموز رأي من في الميدان ممن اختارهم الإخوان بل وتعزلهم، وإلا هددت وتوعدت وفصلت وانقسمت.
بل عليها أن تغير مواقعها بتجرد وإخلاص وتخدم الدعوة في باب هي تحسنه، وهي وإن تأخرت خطوة في التنظيم، فإن تاريخها وقدرها محفوظ كتاج على الرءوس لا ينكره إلا جاحد، لكن ليس لها أن تتخذ من جهادها السالف سيفا على رقبة الجماعة، تأخذ به حقوقا ليست لها، ولهم في الصحابة المثل والقدوة.