بقلم الشيخ ونيس المبروك
يزداد دور المنابر أهمِّية وخطورة، على خلفية مرحلة التِّيه التي عاشتها الشُّعوب في ظل الإستبداد وتلقين النَّاس الرأي الأوحد، ومصادرة الدَّولة الحديثة للمؤسَّسة الدِّينية، وفي ظلِّ التَّشويه الإعلامي الممنهج الذي تسلكه بعض وسائل الإعلام، حتَّى أمسى المسلم يعاني من تعسُّرٍ في فهم الخطاب الدِّيني، واختلال الموازين في تقييم المواقف والآراء، وحيرةٍ في تلقِّي الفتاوى والأحكام.
وسيبقى الإمام من خلال منبره ومحرابه هو حجر الزَّاوية في التَّعريف بتعاليم ديننا الحنيف، وصمَّام أمانٍ في مجتمعاتنا المسلمة، والدَّاعية الأوَّل لقيم الإسلام وأحكامه.
إنَّ من أهمِّ واجبات الوقت عند خطيب اليوم ، المساهمة في تشكيل الوعي الدِّيني الوسطي المعتدل، ومقاومة تيَّارات الغلو والتَّبديع والتَّكفير، التي تمسُّ الأمن القومي للأوطان المسلمة، وتهدد سلمها الاجتماعي، وتؤجِّج الخلاف الدِّيني بين النَّاس.
وبعد: فهذه وصايا عشر، أتقدَّم بها لإخواني من الأئمَّة والخطباء والدُّعاة، تواصياً بالحقِّ ونصحاً للخلق:
1- أوصي الخطيب بالتبرُّؤ من حوله وقوَّته، وبحسن الافتقار لله تعالى، وعدم الاغترار بما يكرِّره النَّاس من مدح وإطراء، بل عليه بإخلاص القصد، ومجاهدة النَّفس، كي يتحقَّق بمعاني الإخلاص والتواضع وحسن التوكل على الله سبحانه، فإنَّ كلَّ كلام يخرج من الصَّدر، هو كلام عليه كسوة القلب الذي خرج منه.
2- من الإحسان الذين أمرنا الإسلام به وحثَّنا المصطفى صلى الله عليه وسلم عليه، أن يُحضِّر الخطيب لخُطبته، ويحسنَ الإستعداد النَّفسي والذهني لها، ويتخيَّر ما يلامس واقع المسلمين في حيِّه وقطره، فترك الإعداد المسبق يؤدي لتشعُّب الحديث، وتشتيت ذهن السَّامع، وإخفاق الخطيب في توصيل رسالته في يسْرٍ ووضوح.
3- أن يتجنَّب الخطيب مواطن الاختلاف المعتبر من على منبره، ويتركَ التَّرجيح بينها أو الإنكار على بعضها، فقد تقرَّر عن المحقِّقين من أهل العلم أنَّه لا يجوز الإنكار في مسائل الاختلاف، وللتَّرجيح الفقهي مقامات ومواطن ليس المنبر من بينها، وعلى الخطيب أن يحدِّث النَّاس بما اتفق عليه جمهور الأمة دفعاً للحيرة والاضطراب الذي يعاني منه الشَّارع اليوم.
4- أن يبتعد الخطيب عن تجريح كافَّة المؤسَّسات والهيئات والكيانات الاجتماعيَّة، والتَّيَّارات الدِّينية من أهل القبلة، … وبحسبه أن يشير للأفكار المؤسِّسة لمواطن الخلل، والآراء التي تسبب في الزلل، دون التَّعرُّض لاسم ورسم، ويُسدي النُّصح اللين بصيغة التعميم، على طريقة “ما بَالُ أقوامٍ”.
5- يبنغي أن لا يتعرَّض الخطيب للشَّخصيَّات والأعيان والدُّعاة والعلماء …. من على منبره، مهما كان وجه الخلاف معها، فمنبر الجامع جامع، وليس من العدل والدين والمروءة استغلال منبره لهذه الأغراض.
6- على الخطيب أن يراعيَ العرف المعتبر في المجتمع، فالعرف في شرعنا الحنيف له اعتبار، مادام لا يصادم نصَّاً أو يحرِّم حلالاً أو يحِلُّ حراماً أو يلحق ضرراً عامَّا، وكما قال الإمام القَرافي – رحمه الله – : فمهما تجدد من العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب، … والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدِّين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسَّلف الماضين.
7- على الخطيب أن يحترم ما استقرَّت عليه أحكام الشَّريعة من المذهب الشَّائع في الدِّيار، وبخاصةٍ فيما يتعلَّق بقضايا الأحوال الشَّخصية والمعاملات، حتَّى لا ينقُض بقوله ما افتى به غيره، وما ترتبت عليه حقوقٌ وواجبات، فيؤدِّي ذلك لاضطِّراب العمل بالشَّريعة، وله – إن كان من أهل الفتوى والتَّرجيح – أن يفتي بما صحَّ دليله وترجَّح مأخذه بعيداً عن منبر الجمعة.
8- من آداب الخُطبة، تجنُّب الإطالة، والتَّحرُّز من التَّكلُّف الممقوت، أو التَّقعُّر في الحديث، كما يبنغي تنقية الكلام من الأحاديث الموضوعة والآثار الغريبة التي اشتهرت على ألسن النَّاس، ويحسن بالخطيب بثُّ الأمل والتَّفاؤل وتسليط الضَّوء على محاسن النَّاس وجميل آثارهم.
9- إنَّ إيمان المسلم هو أغلى ما يملك، فلا يجوز التعرُّض لعقائد النَّاس بشائبة تكفير أو تبديع، اتِّباعاً لقول من الأقوال، وينبغي للخطيب التمييز بين الاختلاف الذي نشأ بين أهل السُّنة والجماعة، وبين غيرهم من الطَّوائف والفرق، وليعلم الخطيب أنَّ الغلو في الدِّين والتَّطرف في التَّديُّن هو من أسوء ما يصيب الأفراد والمجتمعات.
10- إنَّ احترام مؤسسات الشؤون الدينية المعترف بها هو احترام للدَّولة، وتقديرٌ للتَّخصُّص، ومن الحكمة أن يسعى الخطيب لترسيخ هذا التقدير وهذا الإحترام، احتراماً لا يمنع من تقديم النُّصح، أو المبادرة بالنَّقد سراً وعلناً بحسب ما يقتضيه المقام.
وفقنا الله لعمل الخير وخير العمل، وجعلنا من الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب.