مقالاتمقالات مختارة

وسائل استمرار السيطرة ج(7).. فزاعة التهديد الخارجي أو مغبة الفوضى

بقلم محمد أمزيل

مدخل للجزء:

لما أحست فرنسا سنة 1830م بأنها على صفيح ساخن، وأن الشعب قد أصبح يعود للشارع للإطاحة بالطاغوت، حاولت أن تجد مخرجًا، للخروج من هذا الوضع، وتحويل انتباه الشعب من الشارع الذي امتلأ بالأصوات المطالبة بتغيير الوضع إلى مكان آخر، فاستعملت لذلك استراتيجية العدو الخارجي، والذي سيكون الجزائر.

نفس الأمر فعلته إسبانيا في عهد حكومة أودونيل، والتي حاولت أن تُعيد الاستقرار إلى إسبانيا، بالاعتماد على استراتيجية العدو الخارجي، والتي ستتمظهر بشكل جلي في حرب تطوان 1859-1860، وهكذا ينجح أودونيل في جعل الرأي العام يتجه نحو المغرب كاهتمام رئيسي في حياته العامة، متناسيًا وضعه الداخلي المرير، لتتأجل الإطاحة بأودونيل إلى سنة 1863م.

وبالمثل، فعلت وتفعل دول أخرى قديمًا أو في العصر الحديث. وهذا الأخير ظهرت فيه أمريكا، التي كلما أصابها خلل داخلي، وجهت الرأي العام إلى العدو الخارجي، ابتداءً من الإرهاب الأحمر، إلى الإرهاب الأخضر، حتى صارت تصطنع العدو الخارجي بنفسها، ولو بشكل وهمي، وذلك عن طريق الإعلام، لتجعل انتباه الرأي العام موجهًا دائمًا إلى العدو الخارجي، دون الالتفاف إلى المشاكل الداخلية التي تُصيب أفراد الشعب (خاصة التمييز العنصري الذي يُعاني منه السود). فأصبح مصطلح الأمن القومي أكثر المصطلحات المستعملة عند أصحاب القرار، في كل الحكومات العالمية، وذلك لجعله درعًا وقائيًا ضد أي احتجاج محتمل، إلى درجة أن توني بلير قال «عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي فلا تُحدثني عن حقوق الإنسان» بمعنى أن الإنسان لا يُساوي شيئًا بمبرر الأمن القومي. وانطلاقًا من هذا التبرير، تُصبح لدى الدولة قوة تبريرية لضرب المعارضين.

إذا تعمقنا في استراتيجية العدو الخارجي، فإننا سنجدها مرتبطة بادعاء ردع الفوضى الداخلية. والذي يربطهما هو مصطلح الأمن الداخلي. إن الطواغيت يُحذرون الرأي العام من العدو الخارجي، الذي يستفيد من الفوضى الداخلية، لهذا أي احتجاج على الوضع فهي مؤامرة خارجية، يقوم بها العدو الخارجي، من أجل تفتيت الوطن وجعله لقمة سائغة له.

إذن هناك علاقة وطيدة بين استراتيجية العدو الخارجي والتهديد بالفوضى الداخلية، فكيف يُساهم هذان المبرران في استمرار سيطرة الطاغوت؟

كيف تُساهم فزاعة التهديد الخارجي أو مغبة الفوضى في استمرار سيطرة الطاغوت؟

– زرع الخوف الواهم: تُحاول الأجهزة الإعلامية التي يتحكم فيها الطاغوت، أن تجعل من الوهم قوة تُغيب الوعي، وتُثير مخاوفه، عن طريق الصناعات الإعلامية من سينما وأخبار كاذبة. فتجعل المواطنين ينظرون إلى الاستقرار الآمن كنعمة إلهية يجب المحافظة عليها، حتى ولو كان وضعهم الإنساني مثيرًا للاشمئزاز، ففكرتهم هي الأمن أفضل من الكرامة، وليس الكرامة أفضل من الأمن. دون أن يطرحوا الأسئلة المهمة هنا؛ لماذا لا توجد الكرامة والأمن معًا؟ ما الذي يمنع الطاغوت من توفيرهما معًا؟ وهل الفوضى تكون نتيجة للاحتجاج؟ أم أنها تكون نتيجة الظلم الذي يُمارسه الطاغوت؟ من يتحمل مسؤولية الفوضى إن اندلعت؟ هل شعب يُطالب بحقه؟ أم طاغوت يقمع مطالب الشعب؟

إن قبول الوضع كما هو، حتى ولو كان معارضًا لكرامة الإنسان، هي نتيجة وهمية، جاءت من مغالطة منطقية تدعي أن الفوضى لا تأتي سوى بالاحتجاج، والاحتجاج لا يأتي بالكرامة، لهذا يجب ترك الأمور تسير إلى ما يريده الطاغوت.

– الخوف من ضياع الوطنية: ينظر المواطن البسيط إلى الوطن، من منظور إعلامي، يحصره في الدولة والعَلم، دون أن يلفت انتباهه إلى مكانة الإنسان، ويُصبح تعبيره عن الوطن متعلقًا بمصطلحات الحدود السياسية والعلم والنشيد الوطني وحامل القميص الوطني في كرة القدم، أما ما يتعلق بالحالة الإنسانية في وطنه فلا تُهمه في شيء.

إن هذا المعيار الذي زرعه الإعلام في عقل المواطن البسيط (مسلوب الوعي)، هو الذي يُسَهِّل عليهم مأمورية تمرير مغالطات منطقية، وهي؛ أن الإنسان الذي يصرخ على الدولة (التي تركته يُعاني في وضع مزرٍ) هو شخص يُحاول زرع الفوضى (الفتنة باللغة الشرعية) في الوطن، بعد أن تلقى تمويلًا من العدو الخارجي. وانطلاقًا من هذا الفهم، يُصبح هذا الإنسان الذي يُعبر عن حالته المزرية شخصًا خائنًا، تسقط عنه الوطنية، لأنه يصرخ في وجه الدولة، التي تعني في عقل المواطن البسيط (مسلوب الوعي) الوطن.

الوطن لا يعني الدولة، الدولة مجرد جهاز يقوم بتسيير أوضاع مجموعة من الناس، وسط حدود سياسية وجغرافية معترف بها دوليًا، فإذا كان التسيير يجعل الإنسان يُعاني ولو كان فردًا واحدًا بين مليار شخص بخير، فهذا يعني أن التسيير به خلل ما، يجب تغييره، لأن هذا يتعلق بحياة إنسان. أما الوطن فيعني حياة الإنسان وسط رقعة أرضية، فبدون الإنسان، لن يكون هناك وطن، ولا شعور بالوطنية، إذن الإنسان هو الوطن، لأنه هو الذي يُدركه بوعيه، فإن كان الإنسان يُعاني، ومن بجانبه يطلب منه بكل وقاحة أن يتحلى بالوطنية، فاعلم أن المستفيد من هذه الوطنية ليس الإنسان، وإنما الوقاحة. لأن إدراك الوطن يختلف حسب وضعية الفرد، فإن كان يُعاني فكيف تريده أن يفهم الوطن؟ وصدق سيدنا علي رضي الله عنه لما قال: «الغنی في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة» إنها تُلخص كل شيء.

«لكن» بين الإصلاح والعائق: يُحاول الطاغوت بأجهزته الإعلامية، أن يجعل من نفسه مصلحًا ومُخلِّصًا من الوضع المزري الذي يُعانيه المواطنون، وفي الحقيقة والواقع لا يفعل شيئًا يُذكر، سوى نشر الفساد. فإن قام الإنسان مُحتجًا على هذا الوضع، فإن الطاغوت يقوم مباشرة بتكرار جملة تافهة ولكنها شديدة التأثير في الرأي العام وهي «أريد الإصلاح ولكنّ هناك أيديَ خارجية تحاول إعاقتي، لهذا أطلب منكم أيها الشعب أن تلتفوا حولي لإنجاح هذا الإصلاح وضرب مطامح العدو الخارجي».

طبعًا هو يقصد بالأيدي الخارجية الأيدي الخفية التي جعلت الإنسان يحتج عن وضعه. أي أنه (الطاغوت) يُحاول أن يُحمل مسؤولية فشل الإصلاح الذي حاول القيام به، بالإنسان المُحتج في الشارع، والذي لم يحتج – حسب ما يريد الطاغوت تسويقه – إلا بعد أن تلقى التعليمات من الخارج، وهكذا يجد المواطن البسيط نفسه أمام تصديق ادعاءات الطاغوت، أو تصديق الإنسان الذي يحتج في الشارع عن وضعه المزري، وبالفعل، سيكون إلى جانب الطاغوت، لأن له قوة إعلامية يختار بواسطتها اللقطات (حتى وإن كانت مزيفة) ليُصور احتجاجات الإنسان بأنها فوضوية، وأن هدفها هو زرع الفوضى بين أفراد الشعب لتحقيق الأطماع الخارجية.

خاتمة للجزء

إن تهديد الشعب بمصطلح العدو الخارجي، وتخويفه من مغبة الفوضى، لا يُنهي مسألة الوضع المتأزم الذي يزداد سوءًا، تحت التسيير الفاشل الذي فرض نفسه بالقوة، بدون إرادة شعبية، التي لو فرضتْ بإرادة حرة، لكان بإمكانها أن تُغيره بإرادة حرة، وذلك بالاختيار التشريعي الذي يُميز الدول الديمقراطية (مع التحفظ على مصطلح الديمقراطية هنا)، ولكن الطاغوت فرض نفسه، ويُريد جعل الجميع يرضى بذلك، إما بتخويفهم بالعدو الخارجي، أو من مغبة الفوضى الساحقة، فيفرض وضعًا شبيهًا بالوضع الذي صوره جورج أورويل في روايته 1984، نعم إنه يصنع ديستوبيا مرنة.

خاتمة عامة

حاولت أن أفصل في تصنيف الوسائل التي يستعملها الطاغوت في استمرار سيطرته، وقد اعتمدت على المعيار النفسي في هذا التصنيف، والذي يُسمى في علم الاجتماع بالعنف الرمزي. أي أنني تفاديت ذكر العنف المادي (كالاعتقال السياسي والقمع…)، وذلك اعتقادًا مني بأن العنف الرمزي أقوى وسيلة للـتأثير على الرأي العام. فالعنف المادي حتى وإن استطاع إلحاق الأضرار بالمحتج، فإنه لا يستطيع أن يؤثر على التفكير الذي يتحكم في السلوك، فالسلوك الاحتجاجي يقوم على أساس فكرة، إن تم تغييرها فسيضمحل السلوك مباشرة. في حين أن السلوك حتى وإن تعرض للعائق فإنه لا يعني نهايته، وإنما يعني إبداع طريقة لتجاوز هذا العائق.

 

(المصدر: ساسة بوست)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى