بقلم محمد أمزيل
تقديم عام
إن السيطرة دائمًا ما تستوجب وسائل لتحقيقها من جهة، ووسائل لاستمرارها من جهة أخرى، وكلما كانت هذه الوسائل ناجعة تكون السيطرة ناجحة.
تختلف نوعية السيطرة حسب التنظيم المُتخذ لأجلها، فمثلًا هناك السيطرة الديكتاتورية، وتنظيمها يكون مبنيًا على أساس خوف الرعية من قوة الحاكم سواء أكان فردًا أم حزبًا. وهناك (كمثال دائمًا) السيطرة الرأسمالية، والتي يكون تنظيمها مبنيًا على أساس القوة الاقتصادية.
لن نتحدث عن مفهوم السيطرة في هذا المقال، ولن نتحدث عن أنواعها، وإنما سنتحدث عن الوسائل التي يستعملها الطواغيت ليس لتحقيق سيطرتهم، وإنما لاستمرارها.
هناك سبع وسائل يستعملها الطواغيت لاستمرارهم في الحكم:
1- فقهاء السلطان.
2- الإعلام.
3- المدرسة.
4- القضاء الضعيف.
5- المثقفون الانتهازيون.
6- خرافة السمو.
7- فزاعة التهديد الخارجي أو مغبة الفوضى.
إن هذا الترتيب ترتيب مهم، وهو ترتيب يبدأ من أنجع الوسائل لاستمرار سيطرة الطواغيت، إلى أقلها نجاعة (حسب رأيي). أما معيار هذا الترتيب فهو معيار التأثير النفسي الذي تستطيع كل وسيلة أن تُحققه في نفسية المواطن، وسأشرح تأثير كل واحدة منها، خلال العرض. وسأكتفي في هذا الجزء بتوضيح الوسيلة الأولى المستعملة لاستمرار السيطرة، وأقصد فقهاء السلطان.
1- من هم فقهاء السلطان؟
إنهم أشخاص يوجدون بمحيط السلطان (1)، ويدَّعون أنهم متمكنون من الدين وما يرتبط به من قواعد وتاريخ وتطبيق. والسؤال المطروح من أجل هذا العرض هو؛ كيف يستطيع هؤلاء الفقهاء أن يحافظوا على استمرار سيطرة الطاغوت؟
إن العامل الديني له قوته النفسية في تحفيز الإنسان للقيام ببعض الأمور الخلاقة أو المدمرة حسب تقييمه للأفعال بمعياره الديني. فلو كان معياره الديني يوجب الكسل فإنه سيتكاسل، وإن كان يوجب العمل فإنه سيحب العمل وكل ما يرتبط به. فماذا لو تم الاستحواذ على هذا المعيار من طرف أشخاص يستغلونها لتحقيق بعض المصالح؟
إن الاستحواذ على هذا المعيار لا يتم إلا إذا تم إقناع المتدينين بأن المُستحوِذ عليه (أي على المعيار) هو شخص أفضل أو شخص مختار من طرف الله لهذا الغرض. وهذا ما يُحاول فقهاء السلطان إقناع الناس به، حيث يُظهرون أنفسهم على صورة الأشخاص الطيبين المتمكنين من دينهم، والمطبقين له على أحسن وجه.
فإذا تمكن فقهاء السلطان من هذا، فلن يبقى لهم سوى استعماله للغرض المذكور سابقًا. فكيف يمكن استعماله إذن لبقاء الطاغوت واستمراره؟
2- ثلاثة مواقف يتخذها فقهاء السلطان للحفاظ على استمرارية السيطرة
إن استعمال هذا المعيار يتغير أسلوبه حسب نوع الموقف الذي يجد الطاغوت نفسه فيه، وهي مواقف تتشكل انطلاقًا من المواقف التي يتخذها الشعب منه. ولدينا هنا ثلاثة مواقف مهمة في صيرورة استعمال المعيار الديني:
– الموقف الأول: عندما يجد الطاغوت نفسه يحكم شعبًا لأول مرة، ويحاول أن يُقنعه بأنه سلطان شرعي، وأن حكمه هذا هو حكم لا ريب فيه. فالموقف الذي يتخذه الشعب من هذا الطاغوت، في هذه اللحظة هو طرحه للسؤال الآتي «هل هذا السلطان شرعي أم لا؟» هنا يتدخل فقهاء السلطان ليُجيبوا بطريقة ميتافيزيقية، «إن هذا السلطان لديه تفويض إلهي أو أنه من السلالة النبيلة أو أنه من أبناء أحد الأبطال الأسطوريين أو أنه سليل الأنبياء أو أنه أحد الأولياء الصالحين أو أنه المهدي المنتظر أو المنقذ». ويقتنع الشعب بهذا الطرح، حسب النفوذ الذي يتمتع به هؤلاء الفقهاء وسطه.
– الموقف الثاني: عندما يفشل السلطان في تحقيق طموحات الشعب الاقتصادية والقضائية والاجتماعية، يتخذون موقفًا سلبيًا منه ومن وعوده التي وعدهم إياها، عندما كان لا يزال جديدًا في السلطة. فيستنتجون أن شرعيته الميتافيزيقية بها خلل ما. هنا يتدخل فقهاء السلطان مرة ثانية، فيطلبون من الشعب أن يتحلى بصفة الصبر، لأن الصبر من أسمى الصفات التي يجب أن يتصف بها المتدين ليصل إلى المراتب العظمى، ومن عاش عيشة ضنكًا في الدنيا فله في الآخرة عيشة رغدة.
– الموقف الثالث: عندما ينتهي صبر الشعب، سواء صبره على المعاناة، أو صبره على انتظار انفراج الحالة المأساوية التي يعيشها، فإنه يتخذ موقفًا أكثر تشددًا من الموقف السابق، حيث يعتبرون شرعية السلطان مجرد كذبة، لهذا من الواجب الخروج عنه، هنا يتدخل فقهاء السلطان تدخلًا أكثر خشونة من التدخلين الأولين، حيث يتحول استعمالهم للمعيار الديني من استعمال ترغيبي إلى استعمال تهديدي، حيث يعتبرون كل من يخرج عن طاعة السلطان هو في الحقيقة يخرج عن طاعة الله.
إن ترتيب هذه المواقف هو ترتيب مرحلي للصيرورة التي يأخذها مسار السيطرة الطاغوتية نحو الانهيار، فمحاولات السلطان للبقاء، ما هي إلا تأجيل لنهاية حتمية.
حتى إن تدخلات فقهاء السلطان للحفاظ على الوضع، خوفًا أو مصلحة، تكون مجرد ستر لعيوب موجودة حقًا، لهذا لا طائل منها.
توضيح مهم
لابد هنا أن أوضح أمرًا، ليس جميع الفقهاء، فقهاء سلطان، وليس جميع فقهاء السلطان فقهاء. لهذا لا يجب الخلط، لأن الواقع يُحدثنا أن هناك فقهاء معارضين للطواغيت بشدة. ولإزالة اللبس عن الأذهان، بشأن تبرير أعمال الطواغيت باسم الدين. ففي الدين الإسلامي، الكفر بالطاغوت يأتي قبل الإيمان بالله. قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا﴾ [البقرة: 256]. والترتيب في القرآن مهم، كما نعلم.
_________________________________________________________
(1): المقصود بمحيط السلطان، ليس المكان حيث يقطن، وإنما المقصود هو النظام المصلحي الذي يستفيد منه، أي النطاق الفكري والتنطيمي الذي يخدم مصالحه وبقاءه. فحتى ولو كان هؤلاء الفقهاء في كوكب الزهرة، والسلطان في كوكب المريخ، وكانوا يدافعون عن مصالحه واستمرارها، فإنهم يُنعتون بفقهاء السلطان.
(المصدر: ساسة بوست)