بقلم محمد أمزيل
تقديم للجزء
الأخطر من أولئك الذين ينخدعون، هم أولئك الذين يخدعون: المزيفون. ولكي يتمكنوا، على نحو أفضل، من إقناع المشاهدين أو المستمعين أو القراء، يلجؤون إلى حجج، هم أنفسهم لا يصدقونها. قد يؤمنون بقضية، لكنهم يعمدون إلى وسائل غير شريفة للدفاع عنها. إنهم إذن مزيفون يصنعون عملة ثقافية مزورة من أجل ضمان انتصارهم في سوق المعتقدات الراسخة.
هناك من هم أسوأ: المرتزقة. هؤلاء لا يؤمنون بشيء، سوى أنفسهم. ينتسبون (أو بالأحرى يتظاهرون بالإنتساب) إلى قضايا، ليس لقناعتهم بصحتها، بل لأنها في تقديرهم واعدة ولها مردود هام وتسير في اتجاه الرياح السائدة. (مقتطف من كتاب (المثقفون المزيفون) لمؤلفه (باسكال بونيفاس)، ترجمة: روز مخلوف، ط.1 2013، ص 5-6).
تحدث باسكال بونيفاس عن نوعين من المثقفين الذين يزيفون الحقائق، الأولون هم المزيفون الذين يدافعون عن معتقدات راسخة باعتماد حجج كاذبة، ثم هناك المرتزقة أو الانتهازيون الذين يدافعون عن قضية هم أصلًا لا يؤمنون بها، ولكن يدافعون عنها لأنها قضية ستدر عليهم أرباحًا كثيرة، وهذا النوع الأخير هو الأكثر انتشارًا في واقعنا، وقلما تجد النوع الأول في البلاطويات الإعلامية. لهذا سنقتصر في حديثنا عن النوع الثاني.
وسائل المثقف لنشر فكره
كان قديمًا المثقفون بصفة عامة يجدون في الكتب الوسيلة التي ينشرون من خلالها أفكارهم التي يؤمنون بها، ولكن بعد القفزة النوعية التي شهدتها وسائل الإعلام، أصبحت الكتب تُهمش في هذه المسألة، وصارت الجرائد والبلاطويات التلفزيونية، تستقبل المثقفين لنشر أفكارهم. ولأن الإعلام دائما يكون تحت إمرة شخصيات مستفيدة من الوضع، فإنها لا تغامر في استضافة مثقف ينتقد الوضعية الواقعية، وإنما تستقبل المثقفين الذين يدافعون عن الوضع القائم، بل أنها تبحث عن أي شخص يحمل بعض الصفات المعرفية وتُطلق عليه اسم المثقف، ثم تضعه أمام الكاميرات ليتحدث عن الوضع كما يريد الإعلام.
كيف يساهم المثقفون الانتهازيون في استمرار سيطرة الطاغوت؟
فيما يتعلق بالطاغوت، فإن المثقفين الانتهازيين يحاولون إضفاء العقلانية على أفعاله، فيقدمون أدلة مصطنعة لتبريرها، وجعلها في مرتبة الأفعال الحكيمة.
إن المثقف الانتهازي، يحاول بما أوتي من سفسطة، وتلاعب بالألفاظ، أن يُلبس الأخطاء التي يرتكبها الطاغوت نوعَا من الحكمة، والذكاء الذي يتجاوز الحاضر، من أجل مستقبل أفضل، فما يعانيه الأفراد في هاته اللحظة، ما هو إلا مرحلة صنعها الطاغوت (الذي يسمونه هم الحكيم)، من أجل الوصول إلى مرحلة فُضلى.
يستعمل المثقف الانتهازي مجموعة من الأدلة المصطنعة ليؤكد على أن النظام هو دائما أفضل من الواقع، وذلك لأجل ترسيخ فكرة وهي أن الوضع القائم، حتى وإن كان مزريا، فهو على الأقل أفضل من حال الفوضى، فكأنه يقول لنا بصريح العبارة: الغرق في مياه كثيرة أفضل من الموت بالظمأ. وهذا تبرير سخيف، يتم تمريره، نظرا للرأي الواحد الذي تعتمد عليه البلاطويات الإعلامية؛ مما يجعل الرأي السخيف حكيما، لأن لا وجود لرأي آخر مخالف، يمكن المقارنة معه، حتى نتأكد من صحة الرأي الأول أو سخافته، فالمستقيم لا يمكن الحكم عليه إن كان طويلا أو قصيرا، إلا بعد وضعه بجانب مستقيم آخر يختلف عنه في الطول.
يبدأ هؤلاء الكهنة الجدد، من مقدمة بدهية، للوصول إلى نتيجة مسبقة الوضع، بالإعتماد على ادلة مصطنعة ليس أمامها أي دليل مناقض. فهؤلاء يرسمون نتيجة في رأسهم، ثم يُحاولون الوصول إليها، وأي دليل يُقدمونه فإنه سيكون واقعيا، إن كان لا يُناقض نفسه.
فهم يُحاولون أن يضعوا الوضع القائم، في مرتبة الحلقة الأخيرة، التي لا حلقة بعدها، فهي الوضعية الواقعية التي لا يمكن تغييرها، وهي الوضعية الأفضل في تاريخ الوطن المعني بالأمر.
خاتمة
إن نظرة العامة إلى شخصية المتعلم تتسم غالبا بنظرة الوقار والإحترام، خاصة وإن كان هذا المتعلم يظهر كشخصية مشهورة في التلفزيون، مما سيجعل من رأيه رأيا ساميا، لا يمكن تكذيبه. وهكذا، فإن أية مغالطة يمررها هؤلاء الكهنة الجدد فإن العامي سيتقبلها على أنها حقيقة لا تقبل النقاش. وبتكرار التمرير، ستترسخ الفكرة في رأس العامي كاعتقاد متحجر، من المغامرة أن يُحاول أحدهم تكذيبه.
وفي الأخير، أرغب في أن أقول، إذا كان المثقفون الإنتهازيون كهنة جدد، فإن الإعلام فهو الدير الذي تُباع فيه صكوك الغفران، وهذه الأخيرة، ليست كما كان في العصور الوسطى بأوروبا، الغرض منها هو المغفرة، وإنما الغرض منها هنا في الحاضر، هو حماية الطاعة، يعني أنها صكوك الطاعة.
كما أرغب أن أوضح، أنه إن كان فقهاء السلطان يستغلون الدين للدفاع عن أفعال الطاغوت، فإن المثقفين الانتهازيين يستغلون المنطق للدفاع عن هذه الأفعال، فكلاهما يتكاملان في فسيفساء على جدار القصر الذي يقطنه الطاغوت، إنهما كائنات خُلقت لتغييب العقول.
(المصدر: ساسة بوست)