مقالاتمقالات مختارة

وحدة الأمة والأصول الشرعية.. ارتباط عضوي غائب

بقلم أحمد التلاوي

بالرغم من العوامل الخارجية العديدة والمتنوعة في اتجاهاتها وطبيعتها، والتي قادت إلى حالة الفرقة والتشرذم الحالية بين ظهراني الأمة؛ إلا أن هناك سببًا شديد الأهمية ويُعتبر مركزيًّا في هذا الصدد، وهو قضية علاقة المسلم، على المستوى الفردي، وعلاقة المسلمين على المستوى العام، بالأصول الشرعية للإسلام، متمثلة في القرآن الكريم وصحيح السُّنَّة النبوية الشريفة.

فهذه الأصول، بما تتضمنه من أحكام شرعية واحدة، وسياقات تتعلق بكافة أمور حياة المسلم، من العبادات، وحتى الأعياد والمناسبات، والمكون الفكري والثقافي؛ فإنها من المفترض –كما في سنوات الأمة الأولى– أن تصنع ما يُعرَف في علم النفس والاجتماع بالوجدان الجمعي.

والوجدان الجمعي، أو الضمير الجمعي، أو الوعي الجماعي، هي حالة من الشعور والمدركات المتشابهة والموحَّدة الطابع التي يشترك فيها مجموعة من الأفراد، وتقود إلى أن يشكِّل هؤلاء فيما بينهم مجتمعًا موحَّدًا ومتماسكًا.

ولقد ركَّز عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم (1858م – 1917م)، في تعريفه لهذا المصطلح، على “المعتقدات والمواقف الأخلاقية المشتركة”، وقال إنها “تعمل كقوة للتوحيد داخل المجتمع” [قاموس “كولينز” لعلم الاجتماع، ص93].

في هذا الإطار نفهم أهمية النصوص الشرعية المقدسة، من قرآن وصحيح الحديث النبوي، وما صحَّ من السُّنَّة النبوية بشكل عام، وفق ما ثبت في كتب السيرة النبوية الموثوقة.

فهذه النصوص، في حالة المسلمين، هي مصدر ما تحدث عنه دوركايم، وغيره من علماء الاجتماع والنفس في صدد المكوِّن العقدي، والمكون الأخلاقي المشترك الذي يحافظ على تماسك ووحدة المجتمعات الإنسانية.

وفي حقيقة الأمر؛ فإن هناك أمراً ربما غير واضح عند الكثير من الأجيال المتأخرة من المسلمين؛ ممَّن تأثروا بالتيارات التغريبية التي حملها معه الاستعمار، ثم الحكومات العلمانية التي تلت خروج الاستعمار من بين ظهراني بلاد الأمة العربية والإسلامية.

تتعلق هذه القضية بنقطة العلاقة العضوية بين المسلم والمسلم على المستوى الفردي، وبين جماعة المسلمين بشكل عام.

فمما هو ثابت في القرآن الكريم، وفي السُّنَّة النبوية الشريفة أن أقوى رابطة بين المسلم والمسلم، هي رابطة الدين. وهي الرابطة التي تجمع ما بين المسلمين مهما كانت انتماءاتهم القومية، أو أي انتماء آخر لهم.

مما هو ثابت في القرآن الكريم، وفي السُّنَّة النبوية الشريفة أن أقوى رابطة بين المسلم والمسلم، هي رابطة الدين. وهي الرابطة التي تجمع ما بين المسلمين مهما كانت انتماءاتهم القومية، أو أي انتماء آخر لهم

يقول الله تعالى في سُورة “الحُجرات”: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [من الآية:10]، وهو المعنى الذي تكرر في أكثر من موضع من القرآن الكريم.
وفي السُّنَّة النبوية، يقول “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”: (المسلم أخو المسلم) (رواه البخاري ومسلم)، وتكرر كذلك هذا المعنى في أكثر من حديث نبوي صحيح.

وفي السيرة النبوية يُعتبر موقف المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، من أكثر المواقف دلالة على ذلك.

فهذا الموقف بالذات، يقول بأن كلمة “إخوة” التي وردت في القرآن والسُّنَّة؛ إنما لم تكن على سبيل المجاز؛ ذلك أن هناك الكثير من العبارات البلاغية في القرآن الكريم والحديث النبوي، كانت تتضمن المجاز، وفق ما هو معروف في لغة العرب وآدابهم.

فالمؤاخاة التي تمت، تمت بالمعنى الفعلي؛ وذلك أنها رتبت أحكامًا شرعية عديدة نتيجة هذا التآخي، شملت سائر الحقوق المترتبة على أُخوَّة الرَّحِم والصُّلْب.

ويمكن في هذا الإطار، وضع مسألة “الولاء والبراء”، كإحدى أهم التجليات.

وفي حقيقة الأمر فإن هذه القضية من القضايا التي تم البحث فيها بشكل كبير عبر التاريخ الإسلامي، وفيها ما فيها من دراسات وكتب.

ولكن ما يعنينا هنا هو أن العقيدة والشريعة الإسلامية هي الأساس الذي يصنع هذه الرابطة بين المسلمين في كل مكان، وبالتالي فإن مصادر العقيدة والشريعة تُعتبر هي البوتقة الجامعة التي تبرز مفردات وتفاصيل المشتركات الجماعية بين المسلمين.

العقيدة والشريعة الإسلامية هي الأساس الذي يصنع هذه الرابطة بين المسلمين في كل مكان، وبالتالي فإن مصادر العقيدة والشريعة تُعتبر هي البوتقة الجامعة التي تبرز مفردات وتفاصيل المشتركات الجماعية بين المسلمين

وفي حقيقة الأمر فإن تفلُّت المسلمين من قرآنهم وسنَّتهم يأخذ أكثر من صورة.

الصورة الأولى- هي هجران الأصول الشرعية التي نستمد منها عباداتنا وقيمنا الروحية، وهو أمرٌ تنبأ به القرآن الكريم، عندما تحدث عن بعض مواقف الناس يوم القيامة، فقال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [“الفرقان”– الآية:30].

كما أشار إليه الرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، عندما قال إنه سوف تأتي على أمته أيام، يتم فيها زخرفة المساجد والمصاحف، في مقابل عدم إتيانها على الوجه الصحيح.

أما الصورة الأخرى- من صور تفلُّت المسلمين من الأصول الشرعية، فهي أغلاط الفهم، واختلاف التفسير، وهي الصورة التي من ضمن الظواهر السلبية التي تولَّدت عنها، فتنة التكفير؛ ذلك أن الخلاف في تفسير نص ما، أو في النظر إلى بعض النصوص حتى غير ذات الصلة بالعقيدة؛ قاد إلى تكفير بعض المسلمين للبعض الآخر.

بل إن الكثير من الجماعات والحركات التي تصنِّف نفسها إسلامية، قد قامت على أساس تفسير أو رؤية معينة لنص أو نصوص تتعلق بباب أو قضية بعينها في القرآن الكريم، وتقصي كل التفاسير والرؤى الأخرى لذات القضية، وتعتبر من يطرحونها، خارجين عن الدين.

وفي حقيقة الأمر فإن أحد أهم أسباب هذه المشكلة هو غياب مركزية جامعة للمسلمين -وبالذات على المستوى الفقهي- تعمل على مواجهة الأفكار الهدامة والتفاسير الخاطئة، واستدراك المستجدات، والتصحيح المستمر للمتون، واستبعاد الغث منها، والذي ظهر في مراحل الانحطاط أو الغزو الخارجي، وغياب الرموز الفقهية الحقيقية، مع الإبقاء على الصحيح من القراءات والتفاسير للنصوص الشرعية.

من أسباب ظهور هذه المشاكل في أمتنا غياب مركزية جامعة للمسلمين -وبالذات على المستوى الفقهي- تعمل على مواجهة الأفكار الهدامة والتفاسير الخاطئة، واستدراك المستجدات، والتصحيح المستمر للمتون، واستبعاد الغث منها

ومشكلة غياب المركزية هذه، بدأت مع ظهور عوامل الضعف على آخر دولة جامعة للمسلمين، وهي الدولة العثمانية، ظهور المدارس الحركية التي انتسب كلٌّ منها إلى تصور معين؛ لإعادة إحياء المشروع الإسلامي.

وجزء من هذه المشكلة، يعود إلى حالة الاستبداد والفساد التي ميزت الحكم في مقابل ضعف القبضة المركزية للدولة الإسلامية، مما أدى إلى ظهور أصوات وحركات إصلاحية تحدت السلطة المركزية في ذلك الحين.

وهذا التحدي بالرغم من أنه لم يستهدف المركزية السياسية للمسلمين، ممثلة في بلاط الحكم العثماني ومؤسسات الدولة العثمانية في ذلك الحين، بل استهدفت تقويتها من خلال إصلاح أوجه الخلل التي كانت قد بدأت في الظهور، وأدت إلى نجاح القوى الغربية في احتلال غالبية العالم العربي والإسلامي، حتى المناطق التي كانت تخرج عن سيطرة الدولة العثمانية في غرب ووسط أفريقيا، ومناطق آسيا الوسطى، إلا أنه قد تم توظيف هذه الحركات والأصوات الإصلاحية في بعض الأحيان لإضعاف المركزيات السياسية والدينية في الدولة الإسلامية.

وفي مرحلة ما بعد ظهور الدولة القومية في العالم الإسلامي، فإن ظهور النعرات القومية، والإعلاء من قيمة الوطنية –التي لا يرفضها الإسلام ولكنه ينظمها مثل أية ظاهرة إنسانية أخرى– على حساب الانتماء الديني الأوسع، وذلك لمصلحة الأنظمة التي حكمت بعد ذلك؛ قاد إلى إضعاف الكثير من المؤسسات الدينية والسياسية التي كان لها طابع مركزي في تنظيم شؤون الأمة، وعلى رأسها الأزهر الشريف.

إن ظهور النعرات القومية، والإعلاء من قيمة على حساب الانتماء الديني الأوسع، وذلك لمصلحة الأنظمة التي حكمت بعد ذلك؛ قاد إلى إضعاف الكثير من المؤسسات الدينية والسياسية التي كان لها طابع مركزي في تنظيم شؤون الأمة

ومع إهمال التعليم الديني، وتحول الإعلام إلى أداة تغريب وإفساد في كثير من دول العالم الإسلامي، فإن الرابطة بناء على الدين، ذابت لدى الغالبية العظمى من أبناء المجتمعات المسلمة، بل إن البعض يعتبر تحمل المسلمين في دولة ما لمشكلات مسلمين في دول ومجتمعات أخرى، بمثابة عبء.
كل ذلك بسبب عدم إدراك المسلمين للقرآن الكريم وما يدعو إليه في هذا الصدد، وعدم دراسة السُّنَّة والسيرة النبويتَيْن بالشكل الكافي، بل ربما هناك مسلمون، صاروا يأتون الدنيا ويخرجون منها من دون قراءة القرآن الكريم ولو مرة واحدة.

وهي مشكلة تجد الكثير من الصعوبات لمعالجتها في ظل الأحوال السياسية التي تعيشها معظم الدول العربية والإسلامية في الوقت الراهن، إلا أنه يبقى الأمل في برامج التربية الفردية، والدور المسجدي كبداية؛ سعيًا لمعالجة هذا الخلل الذي هدم أواصر الأمة أو كاد!

(المصدر: موقع بصائر أونلاين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى