وجوه الاتفاق بين الدين الإسلامي والأديان السابقة بأصول الفضائل والأخلاق
بقلم د. علي الصلابي (خاص بالمنتدى)
اتّصف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأفضل الصفات وأنبل الأخلاق والفضائل، وفي مقدمتها؛ الصدق، والأمانة، والفطانة، والبيان وغيرها، وقد تحدَّث القرآن الكريم عن أصول الدين وشرائعه الجامعة، التي اتفقت عليها الرسل وهي متفقٌ عليها في كل الديانات السماوية ومقرَّرة في كل الشرائع العادلة كالوصايا العشرة المذكورة في سورة الأنعام، قال تعالى:﴿وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 151-153] .
فهذه الوصايا العشرة هي وصايا الله تعالى لبناء مجتمع إنسانيٍّ كامل يُبنى على أساس التعاون الإنسانيّ، والمودَّة ودفع الأذى ووقاية المجتمع من الآفات ورعاية الضعفاء.
وفي الحق أن هذه الوصايا الإلهية التي هي وصايا النبي (ﷺ) يقوم عليها بناء المجتمع الإنساني السليم وبها تحارب الآفات الاجتماعية التي تتردَّى بها الجماعات في مهاوي التفرُّق والانحلال، وفيها تطهر النفس والعقول من افات الفكر، وتطهير المجتمع من التقاطع والتنابذ ومنع الاعتداء بأيِّ نوعٍ من أنواعه، وفيها التعاون على حماية الضعفاء، وفيها إعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه، وفيها إقامة العدل في كل ضروبه الذي هو ميزان الحقوق والواجبات، وفيها الوفاء بالعهود الذي هو رباط الجماعات الإنسانية مهما تختلف أجناسها وشعوبها وقبائلها وإن شئت أن تقول: أن فيها أكثر التكليفات الاجتماعية البانية والواقية وهي متفق عليها في كل الديانات السماوية ومقرَّرة في كل الشرائع العادلة، وإن لم تكن فيها على هذا السموّ الرفيع كما جاء في القرآن. (محمد أبو زهرة، زهرة التفاسير، 5/2728)
- الوصية الأولى: النهي عن الشرك:
قال تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ﴾ [الأنعام: 151]
ألا تشركوا به شيئاً هذا هو الأمر الأول الذي حرَّمه الله تعالى، وهو أعظم الأمور وأقواها أثراً لأنه يتعلق بخالق الكون ومنشئ الوجود وأصل الاعتقاد الديني، وهو أول الشريعة وعليه اجتمعت كل الرسالات، فالوحدانية لبُّ الإيمان والله يجعل كل السيئات قابلة للغفران إلا الشرك.
وإن الوحدانية فيها تطهير للعقول من رجس الأوثان، والإذعان للإنسان والأوثان، وهي تربِّي العزَّة في المرء فلا يخضع إلا للواحد الأحد، الفرد الصمد (محمد أبو زهرة، زهرة التفاسير، 5/2729)
- الوصية الثانية: الإحسان إلى الوالدين:
قال تعالى: ﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾
إن الإحسان إلى الوالدين برٌّ ممن جعلهم الله سبباً مادياً في وجود الولد، ولذا قال تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾، فهذا هو الأمر الثاني وهو الوصية بالوالدين، والوصية بهما هي الإحسان إليهما، والإحسان مرتبة أعلى من العدل، إذ هو فوق العدل في الرحمة والرأفة فهو عدل ورأفة ووفاء وبرٌّ، ولذلك كان الأمر بالإحسان بجوار الأمر بالعدل، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90] ، وقال تعالى:﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: 23].
وإن الأمر بالإحسان يتضمن النهي عن الإساءة، إذ هو نهيٌ عن الإساءة، وأمرٌ بفضل العاطفة والمواساة والقرب وإحسان الصحبة.
وإن الله تعالى أمر بالإحسان إلى الوالدين مقترناً بالنهي عن الشرك في كثير من الآيات في القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [النساء: 36].
وقرن الله تعالى شكر الوالدين بشكر الله وجمعهما معاً، قال تعالى: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [لقمان: 14-15]
والإحسان إلى الوالدين شريعة النبيين أجمعين قد كُلِّفها بني إسرائيل، قال تعالى:﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [البقرة: 83]، فمن يعقُّ الوالدين فهو فاسق عن أمر الله ونهيه (محمد أبو زهرة، زهرة التفاسير، 5/2730)
- الوصية الثالثة: النهي عن قتل الأولاد:
قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ﴾ [الأنعام: 151]
هذه الوصية الثالثة، وقد نزل سبحانه من إكرام الأصول والإحسان إلى الأولاد؛ لأنه أمرٌ فطريٌّ تتقاضاه المحافظة على النفس، فالولد امتداد أبيه، وما جاء القرآن بالأمر بالإحسان إلى الأولاد، ولكن أمر الإسلام بالقيام على تربيتهم ورعاية شؤونهم ورزق أمهاتهم، ولكن كان في وحشية الجاهلية من يئد بناته بغياً بغير علم، وكان من يفعل ذلك وغيره لإملاقهم قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ﴾ وقد نهى الله تعالى عن ذلك الإثم الجاهليّ وهو من إغواء الشياطين، ولعلَّه كان يسهِّل على الذين يفعلونه معهم، أنهم يفعلون ذلك وهو بعد في المهد أو عقب ولادتهم، فلم يكونوا تعلقوا بهم تعلُّق الاباء بالأولاد وكانوا يفعلون ذلك سفهاً بغير علم، ولم يكونوا قد ذاقوا محبتهم بالإلف والتودُّد، وقد قال تعالى في بيان أن الفقر والإملاق لا يبرَّر، لأنهم لا يرزقوهم ولكن يرزقهم الله، ولذلك قال تعالى: أي نحن نرزقكم معهم كما رزقناكم أنتم ﴿نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ [الأنعام: 151] ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [هود: 6].
وقد قرَّر مجمع البحوث الإسلامية المنعقد في الأزهر سنة (1965م) أن الإسلام يرغِّب في النسل؛ لأنه يقوِّي الأمة اجتماعياً واقتصادياً وحربياً، ويربِّي في الأمة روح العزة والمنعة، وقرر أن تنظيم النسل حق للزوجين دون غيرهما يستعملانه للضرورة، ومسؤوليتهما عن الضرورة أمام الله وحده (محمد أبو زهرة، زهرة التفاسير، 5/2732)
- الوصية الرابعة: الابتعاد عن الفواحش وعدم الاقتراب منها ما ظهر منها وما بطن:
قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ [الأنعام: 151]
هذه الوصية الرابعة، وهي تتصل بالنهي عن الفواحش، والفواحش هي المعاصي؛ لأن فيها انحراف، والأصل في الفحش الزيادة عن المعقول والفطرة، والخروج عن مناهجها، وعن الطريق المستقيم، وما ظهر: ما يُعلن ويجهر به، والجهر بالمعصية في ذاته حرام، وما بطن: أي ما استُتر ولم يُجهر به وهو إثم، ولكنه دون إثم المجاهرة، ومن يجهر بالمعاصي فإنَّ ما يفعله إثمان، إثم الفعل وإثم المجاهرة.
ومن المعاصي ما يستتر استتاراً؛ لأنه من خلجات القلوب، ولم يظهر العمل إلا لعدول صاحبها، ولكنه فوجئ بما فوت عليه مقصده، كمن بيَّت الاعتداء أو الزنى واتجه إلى الفعل، ولكن فات عليه ارتكابها لأمرٍ خارجٍ عن إرادته، فإنه يكون أبطن معصيته ولكن لم يمكَّن من ارتكابها رغماً عنه، لا مريداً، فإن من الآثام ما يكون باطناً، وعليه الإثم، وكمن يهاجر إلى مكانٍ لا يريد الهجرة لله أو لعملٍ صالح، ولكن يريد الفسق والفجور أو البغي، فإن هذا يكون فاحشة مما بطن، وهذا النصُّ مثل قول الله تعالى: ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾ [الأنعام: 120].
- الوصية الخامسة: النهي عن قتل النفس بغير حقّ:
قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ﴾ [الأنعام: 151]
هذه الوصية الخامسة التي أوصى بها ربُّ العالمين وهي النهي عن قتل النفس التي حرَّم الله تعالى قتلها إلا بالحق، فيكون القتل بحق ـ أي بسببٍ ـ يوجب القتل.
وهذا النصُّ يفيد تحريم قتل النفس أساساً، فهي على أصل المنع إلا أن يكون ثمَّة موجب لذلك، فإن ذلك يكون لحماية النفوس العامة، وقد قتل قابيل أخاه هابيل حسداً وبغياً، وقال تعالى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32].
فالقتل حرام إلا إذا كان ما يبرِّره فيكون بحق، ومن الحق الذي يوجب القتل ويحل النفس أن يقتل غيره أو أن يبغي، أو أن يحارب الله ورسوله وهم قطاَّع الطريق وأهل الحرابة، وإن النهي عن قتل النفس عام، لأن الله تعالى حرم قتلها فقوله تعالى التي حرَّم قتلها فيه الصلة، وهي علَّة النهي، فقتلها منهيٌّ عنه، لأن الله حرمها.
الإشارة إلى المذكور من النهي عن الشرك والأمر بالإحسان إلى ﴿ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *﴾، والنهي عن قرب الفواحش وهو نهي عن المقاربة لا عن الوقوع، لأنه نهي عن أن يدنوَ منها، فمن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه، والنهي عن القرب يدل على النهي عن الوقوع، والإشارة تشمل النهي عن قتل النفس، فهذا كله من وصايا الله سبحانه وتعالى، ووصايا الله جديرة بالاتباع، وقوله أي لكي ترجعوا دائماً أن تكونوا ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *﴾، والتوصية هي الطلب المؤكد من العباد.
- الوصية السادسة: تحريم أكل مال اليتيم:
قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ [الأنعام: 152]
نهى الله تعالى أن يقربوا مال اليتيم أو يأخذه إلا بما يحفظه وينميه، لأنه فقد من يحميه، فقد الأب الحامي الذي يأخذ بيده إلى مدارج الحياة، فنهى الله عن التعدي على مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، كما أن المال أمانة في يد وصيِّه وفي رعاية الأمة مجتمعة ممثَّلة في قاضيها حتى يبلغ أشدَّه، أي يبلغ السن التي يقدِر فيها على المحافظة على ماله والقيام على شؤونه في خاصة نفسه وفي معاملته، وقد شدد الله تعالى في الوصية باليتامى في أموالهم وأشخاصهم لأنهم ضعاف. (زهرة التفاسير، 5/2736)
- الوصية السابعة: الإيفاء بالكيل والميزان بالقسط:
قال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [الأنعام: 152]
أي بالاعتدال في الأخذ والعطاء عند البيع ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾، والقسط: العدل، أي طاقتها في إيفاء الكيل والوزن. وهذا يقتضي أن هذه الأوامر إنما هي فيما يقع تحت قدرة البشر من التحفظ والتحرز ﴿لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ لا يمكن الاحتراز عنه من تفاوت ما بين الكيلين، ولا يدخل تحت قدرة البشر فمعفو عنه. وقيل: الكيل بمعنى المكيال. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إنكم معشر الأعاجم قد وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم: الكيل والميزان.
ولقد أوصى الله تعالى بالإيفاء بالكيل والوفاء بالوزن في الموزون بالقسط، من غير بخسٍ ولا شطط، ولا زيادة ولا نقصان، بل للناس من وفاء الكيل بمقدار ما تطلب وتعطيهم من الوزن بمقدار ما تطلب، لو كنت طالب الكيل والميزان وذلك على حسب الطاقة في تحرِّي الحق في مكيل غير منقوص، وموزون غير مبخوس، وكان الأمر بالوفاء، لأنه المطلوب، فالزيادة غير مطلوبة إلا من أهل السماحة، والنقص محرم ممنوع، وإن الوفاء في الكيل والميزان يرمز إلى حسن التعامل بين الناس ومنع أكل أموالهم بالباطل.
- الوصية الثامنة: العدل وقول الحق:
قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ﴾ [الأنعام: 152]
أمر الله تعالى بالعدل في القول، وألا نقول إلا عدلاً، ولذا قال: َ، والعدل في القول تحرِّي الحق فيه، ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا﴾ ينطق بأمر لا يكون حقاً.
والعدل في القول يشمل الحكم بين المتخاصمين، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ﴾ [النساء: 58]، وتشمل الفصل في الخلافات بين الناس، فلا يقول إلا الحق، لأن الحقَّ يحسم النزاع، ويقطع دابر الخلاف، ويشمل القول في الشهادة، فلا ينطق إلا بما رأى وعاين، فإن الشهادة حكم أو هي طريق الحكم ودليله، وإذا قلت في مباراة فكن عادلاً، وإذا قلت في امتحانٍ فكن عادلاً، لأن الامتحان تقدير كفاية فهي حكم.
والعدل ميزان الحق في معاملات الناس وأحوالهم، والإسلام دين العدل، وإذا كان لكل دين سِمة، فسِمة الإسلام هي العدل ولذا قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90] ، لذا كان العدل رابطة الجماعة وميزانها، قال تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾، أي ولو كان الذي يقوم عليه العدل في القول في حكم أو شهادة أو فصل في خصومة، أو مباراة أو امتحان، فإنها العدل حيث تتنازع العواطف، وتمتلك النفوس هو فعل الأبرار، وهو المقياس الذي تتفاوت به مراتب العدول، وإذ كان العدل ميزان الترابط بين الجماعات في الأمة، فالوفاء بالعهد ميزان العدالة في الأمم (زهرة التفاسير، 5/2739)
- الوصية التاسعة: الوفاء بالعهد:
قال تعالى: ﴿ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ﴾ [الأنعام: 152]
تطلب هذه الوصية من الناس أجمعين الوفاء بالعهد، وقوله تعالى: قدم فيه (بعهد الله)؛ لأهمية الوفاء بعهد ﴿وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا﴾، ولمعنى الاختصاص؛ أي احرصوا على الوفاء بعهد الله دون غيره.
وعهد الله تعالى الذي يتجه إليه ما عهده إلى بني آدم من فطرة مستقيمة أنشأهم عليها، كما قال تعالى: وإن تكليفات الله تعالى عهود ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الأعراف: 172]
والعهود بين العباد عهود الله تعالى عليهم ; لأنهم عادة يوثقونها بأيمانهم، وقد قرر سبحانه وتعالى ذلك وقال: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [النحل: 91-92] ، فهذه الآية تحث على الوفاء بما يكون من العهود بين الاحاد والجماعات، وهي تدل على ثلاثة أمور:
- أولها: أن من وثق عهده بالله فقد جعل الله تعالى كفيلاً بالوفاء، والخيانة أو خفر العهد خيانة لله تعالى.
- ثانيها : أن الوفاء بالعهد يقوي الأمة فيجعل الناس يثقون بها، وتلك قوة، ولذلك شبه الله تعالى من ينقض عهده بالحمقاء التي تنقض ما فتلته من غزل، فتجعله أنكاثاً شعراً متفرقاً.
- ثالثها: أنه لا يصح أن تكون الرغبة في زيادة الأرض والسلطان سبباً لخيانة العهد ; لأن ذلك ظلم وطغيان، وفقد لقوة أكبر وأعز من النكث في العهد والخيانة، وصدق ما قاله ابن عباس فيما نقلنا: (ما خفر قوم في العهد إلا سلط الله تعالى عليهم عدوهم). (زهرة التفاسير، 5/2740 ـ 2741)
- الوصية العاشرة: اتباع الصراط المستقيم:
قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 153]
هذه آية عظيمة عطفها على ما تقدم ; فإنه لما نهى الله وأمر حذر هنا عن اتباع غير سبيله، فأمر فيها باتباع طريقه، فكل الوصايا أو جماعها هي طريق الله تعالى، وهي طريق مستقيم، وقوله فالصراط: الطريق وهو دين ﴿صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا﴾، ومستقيماً: حال من اسم الإشارة، ومعناه مستوياً قويماً لا اعوجاج فيه، فأمر باتباع طريقه الذي طرقه على لسان نبيه محمد (ﷺ) وشرعه ونهايته الجنة، وتشعبت منه طرق فمن سلك الجادة نجا، ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به إلى النار، إذن الطريق المستقيم هو صراط الله، وهو الخط الذي بيَّنه الله تعالى لعباده يجيء بجواره سبل مختلفة هي مثارات الشيطان يضل بها عباد الله تعالى عن الطريق المثلى، والمنهاج السويّ الهادي.
إن هذا الصراط هو جماع التوصيات، لذا قال تعالى: أي رجاء أن تمتلئ قلوبكم بتقوى الله ﴿ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾، وأن تجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية، ولعلكم ترجو رحمته بعد خوف عقابه، فإن الله غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى.
إن هذه الوصايا مجمع عليها في الأديان، وهي الأساس النفسي والعملي لتكوين الجماعات الفاضلة، وقد جاءت بها الأديان كلها ورضيتها الشرائع الوضعية المستقيمة.
___________________________________________________
المصدر:
علي محمد الصلابي، المسيح عيسى ابن مريم عليه السّلام، ص 221-229.