وجوه ابن خلدون العقلانية الحديثة.. المؤرّخ الذي أهمله العرب وعرفه العثمانيون والمستشرقون
بقلم أشرف الحساني
ليس غريبا أن يُلقب المُؤرّخ عبد الرحمن بن خلدون بـ”مونتسكيو العرب” فمنذ أن اكتملت صورته الفكرية خلال القرن الـ17 من لدن الاستشراق، كأحد أعلام التاريخ العربي إبان العصر الوسيط، سارع الأوروبيون إلى الاهتمام بتُراثه ودراسته وتحقيقه وتفكيكه وإبراز ما يشتمل عليه كتاب تاريخ “العِبَر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر” من معارف وعلوم.
خاصّة أن صاحب “العبر” المؤرخ والقاضي والعلامة وعالم الاجتماع يُعتبر أحد أبرز المصادر التاريخية المهمة ببلاد المغرب الأقصى خلال القرن الـ13 الميلادي، والتي وسّعت أفق علم التاريخ، وقد حرص في ذلك الوقت المُبكّر على جعل الكتابة التاريخيّة، علما له قوانينه ومُسبّباته ومُرتكزاته، التي يستند عليها كأيّ علم آخر داخل مجال العلوم الإنسانية.
على هذا الأساس ظلّت صورة ابن خلدون داخل الكتابات الاستشراقية يطبعها الكثير من التوجّس تارة والاهتمام به تارة أخرى، بسبب رصانة علمية تميّز بها ابن خلدون سواء كمُمارس للسلطة السياسية عبر القضاء أو من خلال كُتبه التاريخية، التي لعبت دورا كبيرا في إبراز صورته كعلاّمة منذ تخليه عن السياسة واعتزاله حياة النخبة والجاه بعد وفاة عائلته.
آنذاك قرّر ابن خلدون في خلوته التفرّغ للعبادة والتأليف في علم التاريخ، تلك الخلوة التي أضحى معها أكثر المُؤرّخين العرب جدلاً في العصر الوسيط والحديث، نظرا إلى متانة فكرية تميّزت بها مؤلفاته، بحيث إنّ الصورة الوحيدة، التي يحتفظ بها العالم اليوم عن ابن خلدون، ليس صورة السياسي أو رجل القضاء، وإنّما العلاّمة الجامع في تحصيله العلمي والمُؤسّس لعلم العمران البشري الذي اشتهر به.
ابن خلدون والفنّ
فنيا وسينمائيا لم تنل شخصية ابن خلدون اهتمام بعض المخرجين العرب والأجانب، روائية كانت أم وثائقية، بالمقارنة مع شخصيات أخرى مثل الفارابي وابن سينا وابن رشد وابن عربي وغيرهم من المُفكّرين العرب، الذين سلّطت عليهم الكاميرا أضواءها، بسبب عظم سيرهم وأفكارهم بوصفهم ظواهر نبتت وسط هامش المجتمعات العربيّة واخترقت المركز ومعه بنيته التقليدية الشفهية في موضوعات كثيرة، كانت بمثابة يقينيات فكرية خلال العصر الوسيط.
هذا وتبقى الرواية الجنس الأدبي الوحيد، الذي رافق سيرة حياة ابن خلدون الفكرية والوجدانية، نحيل هنا على سبيل المثال لا الحصر، إلى رواية “العلّامة” للمُفكّر المغربي بنسالم حميش الذي خصّ هذه الرواية بعناية فائقة، سواء من حيث اللّغة أو العوالم الخفية من سيرة ابن خلدون.
في هذه الرواية سلّط حميش الضوء على موضوعات وقضايا لم تتناولها أغلب الدراسات الفكرية، التي تعرضت للمتن الخلدوني بالدرس والتحليل، مع العلم أنّ حميش نفسه، سبق له أن أنجز دراسة فكرية عميقة بعنوان “الخلدونية في ضوء فلسفة التاريخ”.
اهتمامات الاستشراق
عن أهميّة ابن خلدون وقيمته واكتشافه من لدن الاستشراق يقول المُؤرّخ اللبناني خالد زيادة للجزيرة نت إنّ الشائع هو “أنّ ابن خلدون قد أعيد اكتشافه من جانب الباحثين الأوروبيين في مطلع القرن الـ19، بعد أن غاب ذكره عن العرب مدة 4 قرون” .
ولَم يعيدوا اكتشافه إلاّ من خلال المستشرقين الذين لفتوا الانتباه إلى أهميته باعتباره صاحب نظرية في قيام الدول وانهيارها، وذلك قبل أن يكتشف باحثون غربيون أنه مؤسس علم الاجتماع (العمران)، وكتبت دراسات كثيرة حول ابن خلدون وأهميته ونظرياته من جانب باحثين ودارسين أوروبيين وعرب.
والصحيح أن المؤرخين العرب الذين جاؤوا بعده قد أهملوا ذكره وأثره باستثناء تقي الدين المقريزي (ت: 845هـ/ 1442م) صاحب تاريخ “السلوك لمعرفة دول الملوك” وصاحب كتاب “إغاثة الأمة بكشف الغمة”، وفيه يأخذ بمبدأ ابن خلدون (الظلم مُؤْذِنٌ بخراب العمران)، “فأسباب المجاعات ليس طبيعيا وإنما هو لسبب سوء إدارة الحكام”.
من “الإسناد” إلى”قوانين العمران”
على هذا الأساس، انتبه العرب لأهميّة ابن خلدون ومكانته باعتباره مُؤرّخا سباقا في تقديم إشارات حول علم التاريخ وقوانينه والخروج به من إسار سرديّة عمياء، لا ترى الحدث إلا في نقله وسرده دون التمحيص في مصادره ومُستنداته ورواته، ما جعل الكتابة التاريخيّة العربيّة منذ أطوارها الأولى، تتخذ بُعدا خبريا بامتياز، فقد بُنيت على مفهوم الخبر ومنهج “الإسناد”، كما تبلورت ملامحها داخل مَصادر تاريخيّة عديدة، أبرزها كتاب الطبري “تاريخ الأمم والملوك” أو “تاريخ الرسل والملوك” المعروف بتاريخ الطبري الذي يُعدّ أوّل عملٍ تاريخي، جعل من الإسناد أداة منهجية لكتابة التاريخ العربي والإسلامي.
وهو ما أتاح للطبري في ذلك الوقت المُبكّر من التاريخ الإسلامي، أنْ يغدو أحد أهم المؤرخين الذين حققوا قفزة نوعية ومهمّة على مستوى منهج الإسناد الدخيل على حقل الكتابة التاريخيّة من العلوم الدينية من أجل تمحيص أكبر للأخبار.
يقول المُفكّر المغربي علي أومليل في كتابه “الخطاب التاريخي: دراسة لمنهجية ابن خلدون” عن هذا الأمر، “إذا فحصنا الأرضية التي شيّد عليها الطبري تاريخه نجد أنفسنا بصدد تاريخ صيغ على أرضية الخبر، فالأخبار فيه قد رتبت حسب أحداث، وكل حدث مدعم بسند أو عدة أسانيد. وهنا بالذات حقق الطبري طفرة هامة بتجاوز تاريخ الخبر”.
وأمام نسيان العرب لابن خلدون، يرى خالد زيادة أنّ العثمانيين لعبوا دورا كبيرا في التعريف بسيرة الرجل الفكرية، خاصّة وأنّهم كانوا سباقين إلى اكتشافه، يُوضّح خالد زيادة ذلك بقوله: “وإذا كان العرب قد أهملوا ابن خلدون خلال 4 قرون قبل إعادة اكتشافه من خلال الأوروبيين، فإن الأتراك العثمانيين، قد عرفوا ابن خلدون مبكرا، وكان اكتشافه يخدم البحث عن أسباب التراجع العثماني”.
وأول الأتراك الذين عرفوا ابن خلدون هو حاجي خليفة (ت: 1067هـ/ 1657م) صاحب موسوعة “كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون” يشير فيها إلى كتاب “العِبَر وديوان المبتدأ والخبر…”، ويقول إن الشيخ أحمد المقري المغربي (ت: 1631م) قد شرح الكتاب.
وقد لجأ حاجي خليفة إلى مقدمة ابن خلدون في رسالة وجهها للسلطان محمد الرابع تحت عنوان “دستور العمل لإصلاح الخلل”، وفيها يشرح أسباب التأخر العثماني -كما عرضها ابن خلدون- ويقول إن الدول مثل الأفراد تمر بـ3 مراحل، النمو والركود والانحطاط، وإن الدولة العثمانية قد عاشت طويلاً ومرحلة الركود قد مضت وظهرت ملامح المرحلة الثالثة.
كذلك فإن المؤرخ أحمد بن لطف الله (ت: 1702م) والمعروف باسم منجم باشي قد لجأ إلى ابن خلدون حين ذكر في تاريخه (جامع الدول) ضرورة معرفة العمران من أجل كتابة التاريخ، فضلا عن المؤرخ مصطفى نعيما (ت: 1716م) الذي يذكر ابن خلدون وكتابه الذي يشتمل على جواهر علوم ونوادر حكم ومعارف دفينة. وينقل نعيما عن ابن خلدون في حديثه عن أطوار الدول، لكنه يقول إن الخروج من الانحطاط النهائي يمكن عبر رجال من العقلاء الذين يعملون على منع انحطاط الدولة.
فصل الديني عن المعرفي
وبالرغم من اعتماد ابن خلدون على الطبري في كتاباته والارتكاز عليها في أحيانٍ كثيرة، فإنّ الطبري، لم يسلم من نقدٍ صارم وجّهه له ابن خلدون لمنهجه الإسنادي داخل الكتابة التاريخيّة، خاصة أنّ ابن خلدون تميّز في رؤيته وتصوّراته بدعوة صريحة نحو عقلانية، تستند على ضرورة الفصل بين الديني والمعرفي أو بعبارة أخرى فصل الكتابة التاريخيّة العربيّة، بين علم التاريخ بوصفه علما أبستمولوجيا مُستقلاً عن العلوم الدينية.
وعلى هذا الأساس وغيره، حقّق ابن خلدون ثورة منهجية جعلته المُؤرّخ الأكثر “حداثة” إبان العصر الوسيط، وهو يخترق عباب منظومة فكرية تقليدية شُيّد عليها التأريخ العربي منذ أطواره الأولى، عاملاً على جعل قوانين العمران، باعتبارها أهم الطرق الموضوعية والأدوات المنهجية للتأكد وقياس صحة الأخبار من زيفها.
في هذا الصدّد، يقول ابن خلدون في مقدمته “كان التعديل والتجريح هو المعتبر في صحة الأخبار الشرعية لأنّ معظمها تكاليف إنشائية أوجب الشارع العمل بها حتى حصل الظن بصدقها، وسبيل صحة الظن الثقة بالرواة بالعدالة والضبط. وأما الأخبار عن الواقعات فلا بد في صدقها وصحتها من اعتبار المطابقة، فلذلك وجب أن ينظر في إمكان وقوعه، وصار فيها ذلك أهم من التعديل ومقدما عليه”.
هذا، ويشير المُؤرّخ خالد زيادة إلى أنّ “أوّل ترجمة لأجزاء من مقدمة ابن خلدون جاءت من جانب أحد العلماء الذي تسلم لفترة منصب شيخ الإسلام وهو بيري زاده (1748)، وهكذا فإن المقدمة أصبحت بمتناول العلماء وكُتّاب الدولة في فترة عصيبة شهدت أولى الهزائم الكبرى أمام دول أوروبا وروسيا”.
ويضيف زيادة أن تأثير ابن خلدون لم يتوقف على العثمانيين خلال القرن الـ19، “فالمؤرخ خير الله (1865) استخدم في تاريخه مفاهيم العمران والعصبية، وكذلك المؤرخ أحمد جودت (ت: 1895م) الذي أكمل ترجمة المقدمة”.
ويخلص إلى أن أثر ابن خلدون تغلغل عبر المؤرخين وكُتّاب الدولة العثمانيين لأداء وظيفة حيوية لإعادة بناء الدولة بتفسير أسباب التدهور والتأخر وتراجع المؤسسات عن القيام بوظائفها بين بداية القرن الـ17 وحتى نهاية القرن الـ19.
(المصدر: الجزيرة)