وثائق (جنيزة القاهرة) وأهميتها التاريخية!
عرض وقراءة عرفة عبد علي
إذا كان لليهود بعض الخصائص الثقافية التي تميِّزهم؛ فمن المؤكد أنها كانت ثقافة فرعية ذات أصول دينية نَمَت داخل الإطار العام لثقافة المجتمع الإسلامي؛ خاصة في العصر الوسيط. ولقد أدى النشاط الثقافي الهـائل الذي شهدته فترة إشراق الحضارة العربية الإسلامية في ذلك العصر، إلى تخلي اليهود في جميع أرجاء العالم الإسلامي – خاصة في مصر – عن اللغة الآرامية واللغة العبرية، واتخاذهم اللغة العربية لغة للكتابة والإنتاج الفكري.
والدراسة التاريخية أو الاجتماعية أو اللغوية لعصر مَّا، لا بد من أن تعتمد على المخطوطات والوثائق؛ فهي أصدق تعبير عن العصر الذي كتبت فيه، وإلى جانب الأهمية البالغة لوثائق الجنيزة بالنسبة إلى تاريخ يهود العالم العربي، فإنها تشكل أيضاً أحد مصادر دراسة التاريخ الإسلامي عامة، وفي مصر بشكل خاص.
والجنيزة مصطلح حـديث أُطلق على الوثائق والمخطوطات التي كنزها اليهود في العصور الوسطى، في معبد (بن عزرا) بحي مصر القديمة الخاص بطائفة اليهود الربانيين، ومقابر اليهود في حي البساتين، ولهذا أُطلق على هذه المجموعة اسم (جنيزة القاهرة).
ويطلق اسم الجنيزة على مستودع الأوراق البالية من الكتابات اليهودية المقدسة التي لا يجوز إبادتها؛ وذلك لما يفترض من ورود اسم الله في ثناياها، وقد جرت العادة على خزن هذه الكتب البالية وقصاصات الورق (مؤقتاً) في مكان محدد في المعبد، ثم يتم من حين إلى آخر، تفريغ هذا المكان من محتوياته، لتنقل إلى المقبرة حيث تدفن نهائياً، ويطلق اسم (غرفة الجنيزة) على المستودع المؤقت في المعبد، وكذلك على المدفن الدائم في المقبرة.
ومعبد (بن عزرا) بحي مصر القديمة بالقاهرة الذي اكتشفت فيه مخطوطات الجنيزة، كان يُعرَف باسم معبد إلياهو، ويعرف أيضاً بقصر الشمع، وتزعم بعض الروايات اليهودية أن النبي إلياهو (إيليا) قد تجلى ذات مرة للمتعبدين هناك!
وتعتبر محتويات غرفة الجنيزة في معبد (بن عزرا) أخطر وأهم مخطوطات الجنيزة على الإطلاق، وهي ملحقة بأعلى المعبد نهاية بَهْو النساء وتبلغ قياساتها نحو خمسة أمتار مربعة، وليس لها مدخل سوى نافذة عالية يمكن الوصول إليها بسلم خشبي متنقل، حيث كان على يهود ذلك العصر الصعود لإلقاء أوراقهم من تلك النافذة إلى داخل الغرفة، وأول من علم بوجود الجنيزة في الفسطاط، كان الرحالة اليهودي سيمون فون جلورن الذي زار المعبد في سنة 1752م وألقى نظرة على الجنيزة، كما ذكر في يومياته.
ومما لا شك فيه أن دراسة التاريخ اليهـودي قد أفادت كثيراً من وثائق الجنيزة، التي ترجع إلى الفترة الممتدة من عصر الدولة الفاطمية حتى عصر الدولة الأيوبية أي من نهايات القـرن العاشر حتى أواسط القرن الثالث عشر الميلادي، وتوجد وثائق أيضاً من العصرين المملـوكي والعثماني، بل إن هناك أيضاً بعض الرسائل والوثائق يرجع تاريخهـا إلى منتصف القرن التاسع عشر.
وتؤكد وثائق الجنيزة أن اليهود لم يختلفوا كثيراً في مصر والدول المجاورة لها، في العصور الوسطى، عن جيرانهم المسلمين في أنشطتهم الاقتصادية وعاداتهم الاجتماعية، ولذا فهي تعد أحد مصادر تاريخ العالم الإسلامي الاقتصادي والاجتماعي في تلك الحقبة.
وتنقسم وثائق الجنيزة إلى ثلاثة أقسام لغوية: الأول بالعبرية، والثاني بالعربية المكتوبة بالعبـرية، والثالث بالآرامية.
وتنقسم من حيث الموضوعات إلى نوعين: المصادر الأدبية، والمصادر الوثائقية:
المصادر الأدبية: تشكل الجزء الأكبر من هذه المخطوطات، وتشمل: الصلوات والشِّعر الديني وصفحات من التوراة على لفائف الورق أو البردي، أو ترجمات للتوراة إلى اليونانية، وقصصاً نثرية، والمشناة، والتلمود، ومؤلفات في التنجيم والفلسفة والطب، وتعاويذ، ونصوصاً سحرية.
أما النوع الثاني الوثائقي: فقد توسع يهود مصر كثيراً في تفسيرهم لتحريم إبادة الأوراق المكتوبة؛ إذ اختزنوا أوراقاً كثيـرة، لا تحمل شيئاً من التقديس، فتضمنت مذكرات للمفكرين والتجار اليهود، حوت معلومات عن الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الإسلامي، كما تضمنت ملفات المحاكم (عقود الزواج، وثائق الطلاق، الوصايا، صفقات بيع وشراء، فواتير حساب، وشهادات عتق عبيد وإماء، وإبراء، وخطابات رسمية إلى السلطات، وتقارير، وشكاوى، والتماسات، ورسائل خاصة بجمع تبرعات من اليهود لأعمال الخير؛ كعتق جارية يهودية، أو تقديم فدية ليهود تعرضوا للأسر في أثناء السفر في البحر…)، كما عُثِر على مؤلفات بعض المسلمين باللغة العربية، وبعضها بالأحرف العبرية، وهو ما يؤكد شغف اليهود بأدب الدولة الإسلامية التي عاشوا بين ظهرانيها، فظهر أثر ذلك في كثير من إنتاجهم الأدبي نفسه، كذلك عُثِر على وثيقة يهودية عبارة عن قائمة بجهاز عروس، تلقي الضـوء على جانب من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية بشكل عام؛ إذ أوردت هذه الوثيقة أشياء من شوار العروس بقيمتها المالية، وترسم صورة للملابس والحلي التي استعملتها النساء في ذلك العصر. جوانب كثيرة من الحضارة المادية تتجلى من خلال هذا النوع من الوثائق.
أهمية مخطوطات الجنيزة:
وترجع أهمية هذه المخطوطات إلى أمرين أساسيين:
الأمرالأول: تلك السماحة الإسلامية العظيمة التي تمتع بها الذميون عامة، واليهود منهم في العالم الإسلامي، وهو الأمر الذي فتح لهم الأبواب للاشتغال بالأعمال الثقافية والمهن العلمية كالطب والصيدلة والاقتراب من دوائر الحكام المسلمين، على غرار الحاخام موسى بن ميمون الذي كان طبيباً ومستشاراً خاصاً لصلاح الدين الأيوبي إبَّان الحـروب الصليبية؛ وهو ما يعني أنه قد شاهد أموراً كثيرة تتصل بتاريخ تلك الحروب من داخل خيمة البطل الإسلامي صلاح الدين، ومن هنا تبـدو أهمية المخطوطات في الكشف عن التاريخ الاجتماعي والسياسي للعالم العربي والإسلامي، فقد عثر في جنيزة القاهرة على أوراق عديدة بقلم موسى بن ميمون نُشِر بعضها، وما زال بعضها الآخر طي الكتمان بجامعة كامبريدج.
الأمر الثاني: الذي يجعل لهذه الوثائق أهمية تاريخية، هو أن طريق التجارة عبر شبه الجزيرة العربية إلى الهند، سواء بالبحر أم بالبر، كان هو الطريق الذي يسلكه التجار اليهود ضمن قوافل التجارة الكبيرة ومن هنا، فإن سجلاتهم التجارية، ومذكراتهم حول مشاهداتهم عن حياة شبه الجزيرة ومنطقة الخليج، تمثل سجلاً تاريخياً تلقائياً للأوضاع العامة في تلك المناطق، وإذا أضفنا إلى ذلك أن هؤلاء التجار، حين عودتهم إلى مصر، قاموا بنقل البضائع إلى المغرب وفي نطاق حوض البحر المتوسط، فإنه يمكننا أن نتصور المدى الجغرافي الذي تغطيه هذه الوثائق، وتكشف عن طبيعة الحياة فيه وعن جوانب التأثير التي أحدثها الفقة الإسلامي والفكر الإسلامي في الديانة اليهودية، إلى حدِّ ظهور فرقة يهودية جديدة تحمل اسم (اليهود القرائين) تأثرت في نشأتها وأفكارها بفكر المعتزلة، بدأت في العراق ثم انتقل مركزها إلى مصر.
وتشمل جنيزة القاهرة أيضاً، ما يسمى بـ (البيوط) ويعني هذا المصطلح الشعر الديني، أو تلاوة التـوراة بأسلوب شعري، وقد ارتبط هذا الشعر أو البيوط بيوم التاسع من آب/ أغسطس الذي يصوم فيه اليهود وتتحدث هذه الأشعار الدينية عن كائنات تشبه الملائكة تتدخل وتشن حرباً شعواء لا تبقي أحداً ولا تذر من أعداء الرب، وهذه الملائكة تظهر حينما يعلن شالتئيل عن قدرته على تحقيـق الخلاص، وإعادة بناء الهيكل فيثيرون القلاقل في جميع الأمم، وتحل المجاعات، وتهب العواصف والأعاصير، ويسيل دم الأعداء كجداول الأنهار، ويلقى آلاف الناس حتفهم من هول ما يرون!
الفيلم الوثائقي (من القاهرة إلى السحاب):
منذ عام 2015م ازدادت ضغوط المنظمات والجمعيات اليهـودية في الولايات المتحدة وأوروبا على نظام الحكم في مصر من أجل استعادة ممتلكات اليهود التي قدَّروها بستة مليارات من الدولارات. والمخطوطات والكتب النادرة التي كانت في المعابد اليهودية القديمة وتم تجميعها في معبد (شعار هاشمايم – أبواب السماء) بشارع عدلي باشا بوسط القاهرة، ووثائق الجنيزة التي تعد جزءاً من التاريخ المصري ولكنهم اعتبروها (إرثاً ثقافياً يهودياً).
وتم بالفعل النهب المنظم لهذه الوثائق وتهريبها إلى مراكز الأبحاث الإسرائيلية ومتحف الجنيزة في تل أبيب، وجامعة برينستون وجامعة كامبريدج، مثلما تم التنازل لهم عن حقول الغاز المصرية في شرق المتوسط ثم يبيعونه لنا، وسيناء التي يرتعون فيها، ومعبد ابن عزرا بالقاهرة ومعبد إلياهو هانبي بالإسكندرية اللذَين تم تجديدهما بـ 71 مليون دولار طبقاً لتصريح وزير الآثار. وطبقاً لصحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية في 12 يناير الماضي: «لن تقام فيه صلوات لقلة عدد اليهود بالإسكندرية». فالأهم هو إرضاء الصهاينة!
في عام 1996م كنت أعمل بوزارة الثقـافة وتتبعها هيئة الآثار المصرية، وكنت علـى صلـة وثيقة بكبـار المسؤولين فيها، وباختصار شديد: علمت أن بعثة (إسرائيلية – أمريكية) جاءت خصيصاً لتصوير وثائق الجنيزة في معبد ابن عزرا، ورَفَضَ المسؤولون في الهيئة وطلبوا الحصول على موافقة المخابرات العامة التي رفضت بدورها، ورفع السفير الإسرائيلي الطلب إلى رئاسة الجمهورية وبالعرض على الرئيس حسني مبارك وقتها رفض رفضاً قاطعاً.
ونظراً للأهمية العلمية والتاريخية لهذه الوثائق، تم إنتاج فيلم وثائقي بعنوان (من القاهرة إلى السحاب) في أكتوبر 2018م تحدث عن 250 ألف وثيقة من وثائق الجنيزة التي تمت سرقتها ونقلها علانية: أكثر من 200 ألف وثيقة من معبد ابن عزرا وحده، بالإضافة إلى وثائق مدفن عائلة موصيري الشهيرة بحي البساتين ومقبرة اليهود بحلوان بالقاهرة، ومقبرة اليهود بحي الشاطبي بالإسكندرية، وضمت أيضاً أوراقاً مستهلكة من التوراة كان يُتبَرَّك بها في الأعياد اليهودية وفي يوم (التفلين) يوم الاحتفال بختان الذكور وصلوات تتلى أثناء عشاء عيد الفصح خاصة، وأوراق (الميزوزا) وهي نوع من الرقى وبعض آيات من سِفْر الخروج كانت توضع في شق أعلى أبواب بيوت اليهود حتى لا ينسوا أبداً خروجهم من مصر الفرعونية!
والفـريق الذي تولى كتابة المادة العلمية هـو: البروفيسور المؤرخ مارك كوهين خدوري سليل عائلة خدوري ورئيس قسم (خدوري – زيلخا) للتاريخ اليهودي بجامعة برينستون، د. ستيفان ريف أستاذ الدراسات اليهودية بكلية سان جون بجامعة كامبريدج، د. بنجامين أوتووايت رئيس وحدة أبحاث الجماعات اليهودية في إفريقية، والمؤرخ الإسرائيلي ألبير أريه، وإخراج ميشال ميمار التي شاركت أيضاً في كتابة السيناريو، وتضمَّن شهادات لحاخامات ومؤرخين وبعض أساتذة التاريخ اليهودي بجامعات الكيان الصهيوني وأدباء، واستخدمت تطبيقات التكنولوجيا الحديثة لإعادة بناء المخطوطات الممزقة ورسوماً متحركةً ومؤثراتٍ مرئيةً في محتوى جذاب لإبراز أهمية هذه الوثائق وتسليط الضوء على تاريخ الطائفة في مصر.
هكذا يسرقون ويوثقون ما لا يملكون… مثلما سرقوا الأرض والتاريخ!
(المصدر: مجلة البيان)