واجب المسلمين تحرير بيت المقدس وتطهيره من دنس الصهاينة المجرمين
بقلم الشيخ فايز النوبي
بيت المقدس أو القدس المبارك هو : ثالث أقدس الأماكن لدينا ونحن المسلمين بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة ، وكان مسجدها الأقصى المبارك قبلة المسلمين الأولى طيلة مايقارب من عام ونصف قبل أن تتحول القبلة إلى الكعبة المشرفة ،
ولبيت المقدس والمسجد الأقصى أهمية كبيرة ، ومكانة عظيمة في ديننا ، فهو مسرى رسولنا الكريم — صلى الله عليه وسلم — وفيه جمع الله — عزوجل — لسيدنا محمد — صلى الله عليه وسلم — الأنبياء والمرسلين ، وصلى بهم إماما ، وجميعهم أعلن له الولاء ، وسُلمت له الراية ، وأُعطيت له القيادة ، ودل ذلك على أن الله — سبحانه وتعالى — جمع في رسالته سائر الرسالات ، وفي نبوته جميع النبوات ، وأن دعوته شاملة ، وشريعته جامعة خاتمة، ثم عُرج به — صلى الله عليه وسلم — من مكانه بالمسجد الأقصى إلى السموات العلا ، والتقى مرة ثانية بإخوانه الأنبياء والمرسلين ، وفُرضت عليه وعلى أمته الصلوات الخمس ، وقد تحدث القرآن الكريم حديثا مُجْملا عن هذه الرحلة في مطلع سورة الاسراء فقال تعالى : (( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير )) .
وقد أجمع المفسرون على أن المقصود بالمسجد الأقصى : مدينة القدس ذاتها ، وسُمى الأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام بمكة المكرمة ، ووصفه بالبركة وتعني : النماء والزيادة في الخيرات الإلهية والمنح والهبات الربانية ، وهي بركة حسية ومعنوية ، فالحسية هي : ماأنعم الله — عزوجل — به على أهل تلك البقاع من الثمار والزورع والأنهار ، والمعنوية و هي : ما اشتملت عليه تلك الأماكن المباركة من جوانب روحية ودينية حيث كانت مهبط الوحي ورسالات الأنبياء السابقين ، وقد جاء وصف البركة لهذه البقاع الطاهرة في أكثر من موضع في كتاب ربنا — عزوجل — فقال سبحانه وتعالى حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام في هجرته الأولى إلى بيت المقدس وبلاد الشام : (ونجنيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنافيها للعالمين ) .
وقال سبحانه وتعالى على لسان نبيه موسى عليه السلام : (ياقومي إدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولاترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين) . وفي قصة نبي الله سليمان عليه السلام يقول سبحانه وتعالى : (ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنافيها وكنا بكل شئ عالمين )) . فهذه الأرض التي باركها الله — عزوجل — من قديم الزمن وجعلها موضع تشريف وتكريم وإلهام بالوحي والحكمة والخير ، وإشعار بالسلام والأمن والحياة الكريمة لمن يلوذ بها ويعيش في رحابها ، فهي رمز ومصدر للإلهام والسمو الروحي ، وهبها الله — عزوجل — هذه الخصوصية من الفضل والبركة كما وهب وميز قبلها أم القرى وأطهر بقاع الأرض مكة المكرمة ، وشرف كذلك المدينة المنورة بهجرة الحبيب المصطفى إليها ، وإقامته بها ودفنه فيها بعد وفاته — صلى الله عليه وسلم — فهذه أماكن منحها المولى — عز وجل — مزايا ليست لغيرها ، ولذا لايمكن قبول المساس بها وطمس هويتها ، ومحو معالمها وتخريبها والنيل من أهلها ، ولايمكن المسلمين التخلي عنها بأي حال من الأحوال ، فالدفاع عنها وحمايتها أمر لازم وفرض واجب ، وهو من صميم عقيدتنا وثوابت ديننا.
وإذا عُدنا وتصفحنا التاريخ سنرى : كيف كان يهود في صلتهم بهذه الأرض ، وكيف جرَّ عليهم طمعهم وحقدهم وبغيهم ، وعداؤهم للإنسانية أفظع الويلات عليهم وعلى الإنسانية من حولهم.
كانت هذه البلاد من قديم الزمن كما ذكر المؤرخون : أرضا عربية يستوطنها الكنعانيون ، ولما نزل بهم العبرانيون مهاجرين من العراق لم يعلق العرب الكرام أصحاب الموطن الأصليين كبير أهمية على هذا الحدث ، ولم يكن في حسبانهم أن الأرض ستضيق يوما بهم وبالنازلين عندهم من طلاب العيش واللاجئين إليهم ، وتحت ظروف قاسية هاجر جانب من العبرانيين إلى مصر ثم عادوا إلى فلسطين ، ثم هاجر أنسالهم من الاسرائيلين إلى مصر مرة أخرى وعاشوا بها في عهد نبي الله يعقوب — عليه السلام — وبعد عهود من الخضوع لظلم الفراعنة نزحوا إلى فلسطين مرةأخرى مع نبي الله موسى — عليه السلام — وهناك على شواطئ خليج السويس الممتد من بحر القلزم ( البحر الأحمر ) عبدوا العجل ، وشغبوا على نبيهم موسى وأخيه هارون — عليهما السلام — وأبوا أن يقاتلوا معهما للإستيلاء على الأرض المقدسة ؛ فحرّمها الله عليهم وحرمهم منها ، وحكم الله — عزوجل — عليهم بالتيه والضياع في الأرض أربعين سنة ، وجعلهم من الفاسقين لخروجهم على أمر الله وتمردهم على أحكامه ، وكثرت ذريتهم في التيه ، ورأوا الفرصة سانحة بنشوب الخلاف والعداوة بين أصحاب البلاد ؛ فاحتلوها عُنوة وأجلَوا عنها أصحابها العرب ، وعاشوا بها كما لو كانت وطنا لهم منذ آلاف السنين ، ولقد كانت مدينة القدس التي بني فيها المسجد الأقصى المبارك معروفة قبل الميلاد بألف وخمسمائة عام ، وكانت تُسمى يبوس ، ويُسمى سكانها باليبوسيين ، وجاء نبي الله داود — عليه السلام — والذي كان عرشه في حبرون ، وفتح المدينة في القرن العاشر قبل الميلاد ، وأضاف اليها أبنية كثيرة ، وسماها : أورشليم ، ولما خلفه ابنه سليمان — عليه السلام — زاد في عمارتها ، وبنى على الصخرة هيكله الشهير ،
وتعرضت مدينة القدس بعد وفاة نبي الله سليمان — عليه السلام — وزوال ملكه لهجمات عدة ، وكانت لهذه الهجمات دوافع أهمها : طبيعة البغي والعدوان لدى اليهود والتي كانوا يعاملون بها جيرانهم الأمر ، الذي جعلهم أمام الغير أعداء لايُؤمن جانبهم ؛ لذلك هاجمهم سنحاريب ملك بابل سنة 712 قبل الميلاد ، وكان يريد هدم القدس بأكملها ، ولأمر ما رجع عنها بعد أن هدم جانبا منها ، واستولى على بعض تحف الهيكل وأساسه ، وكانت الوقعة الثانية على يد بختنصر المنتقم الذي أنزل بشعب يهودا ذُل الأبد ؛ إذ هاجم المدينة ثلاث مرات أولاها عام 606 ق م ، والثانية 596ق م ، والثالثة 588ق م ، وأستولى على كل ما في المدينة والهيكل من نفائس ، ثم أمر بتدميرها تدميرا تاما ، ولم يتركها إلاقاعا صفصفا ،
ثم جاء ملك الفرس قيروش ورأى ذل أبناء يهودا فرحمهم وجدد المدينة ، ورد إليها كثيرا من تحفها ونفائسها ، وما حمله على ذلك حبه ليهود الذين يبغضهم طوب الأرض وكل من عاشرهم ، وإنما كان محاولة منه لضم شعب يهودا إلى صفوفه ضد أعدائه عند الضرورة ، ولم تكد القدس تسترد أنفاسها حتى دهمها الرومان سنة 64 قبل الميلاد في عهد الملك بومبيوس ، وادخلوها تحت سلطانهم حتى ظهرت في عهدهم رسالة المسيح — عليه السلام — والذي لقي وأمه البتول من اليهود أبشع أساليب البغي والإساءة والعدوان ،
ولما جاء عهد الملك أدريان أعاد عمرانها وحرم على اليهود البقاء فيها ، وجعل الديانة الرسمية فيها هي المسيحية ، وبنى فيها كنيسة القيامة سنة 138 بعد الميلاد ، واستمر الحكم الروماني على المدينة حتى جاء العرب المسلمون وفتحوا بيت المقدس ، وأعادوا هذه البلاد لطابعها في الخير والسلام بعد ضياعها مئات السنين مابين اليهود والبابلين والفرس والرومان ، والذين لم يكن في عهود حكمهم إلا الفوضى والسلب والنهب ، والخراب والدمار وإهدار القيم الإنسانية ، وبعد استعادتها وفتحها صارت دار أمن و سلام وحرية لجميع سكانها ، والتاريخ خير شاهد لمآثر المسلمين الخالدة وسياستهم العادلة ، فعندما حاصر القائد العبقري الفذ عمرو بن العاص مدينة القدس أبى أهلها أن يفتحوا المدينة رغم شدة الحصار ، واشترطوا أن يأتي الخليفة عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — بنفسه ويمنحهم الأمان لما سمعوا عنه من عجائب الأخبار في عدله ورحمته ، وإنسانيته وإنصافه ، ولم يجد عمرو بدا من الكتابة لأمير المؤمنين عمر بمراد القوم ، ووصلت الرسالة ، وأجاب عمر ولبى رغبتهم ، وأتى إلى بيت المقدس ، وكتب لأهلها عهدا يفيض رحمة وحدبا وبرا بالإنسانية ، ودخلت المدينة المباركة في حكم المسلمين عند حاكم لايحكم بهواه ولا من أجل نفسه ، وإنما يحكم بشريعة منزلة من رب العالمين لايحيد عن نصوصها ولا عن روحها قيد شعرة ، ومما يسجله التاريخ الإسلامي أن الفاروق عمر — رضي الله عنه — لما أبصر معبدا يهوديا قدطمرته الرمال أمر بكشف الرمال عنه ، وشارك العاملين عملهم بعضا من الوقت ليريهم كيف يكون الحق والعدل والعمل لخير الجميع ، ومنذ الفتح الإسلامي ظلت مدينة القدس ترتدي ثوبها الإسلامي القشيب ، وتزهو بالمسجد الأقصى المبارك إلى أن جاءت الحملات الصليبية وأوقعت المدينة المباركة ، في فوضى من السلب والنهب ، والقتل وسفك الدماء من الصليبين المعتدين ، وظلت القدس أسيرة قرابة قرن من الزمان حتى قيض الله — عزوجل — لها البطل المغوار والقائد المظفر صلاح الدين الأيوبي الكردي ، والذي جاء بجيوشه وجنده المسلمين الصادقين ، وأنقذ المدينة المباركة ، واستخلصها من براثن الصليبين الحاقدين ، وأعادها حرما آمنا سنة 1186 .
هذه أثارة من تاريخ بيت المقدس نرى من خلالها كيف جاء أسلاف اليهود في القديم يطلبون ملجأ ومأمنا ، وعندما استقروا وتمكنوا بدءوا عدوانهم على جيرانهم أهل البلاد الأصليين ، ونرى أيضا كيف جرُّوا على أنفسهم العداء والكراهية حتى شردوا في الأرض مطرودين شذاذ آفاق ، معقدي النفوس مفعمي القلوب بالحقد على الإنسانية كلها وعلى الأديان كلها ، وعلى الأوطان كلها إلى حد أن ينكروا على غيرهم حتى مجرد الإنتماء إلى آدم وحواء ، وهذا مدون في كتب عقائدهم المحرفة الزائفة ،
هؤلاء الذين عاشوا ولايزالون وراء جدران سميكة من الحقد والكراهية لايعرفون إلا أنفسهم ولايخدمون سوى مصالحهم ، وإذا كانوا قد حققوا في القرن العشرين الميلادي بعض أحلامهم بإقامة دولتهم العنصرية الباغية ، وبحركاتهم الإرهابية ، وتكتلاتهم الصهيونية ، ورصد الملايين والمليارات المنهوبة من ثروات وخيرات الشعوب ،
وإذا كانوا قد تمكنوا بمساعدة دول استعمارية ظالمة من اغتصاب فلسطين واحتلال بيت المقدس المبارك ، وتدنيسه وطرد أصحاب الأرض وتشريد هم في أنحاء الأرض ، وقتلهم وإرهابهم للرجال والنساء والشيوخ والأطفال ،
إذا كانوا قد انشأوا دولة ظالمة معتدية غاصبة وسمّوها إسرائيل ، وهم يعلمون وغيرهم : أن تاريخ إسرائيل قد باد وتبدد منذ آلاف السنين ، ومعلوم أن الذي قوى شوكتهم ومكنهم من تحقيق مرادهم هو ضعف المسلمين وتفككهم ، وبعدهم عن دينهم ، وتركهم الركون لمصدر عزتهم وأساس قوتهم ، وهو الإعتصام بحبل الله المتين مكنهم منا وجرأهم علينا أيضا: إرتماء حكامنا وحكوماتنا — أو بالأحرى المتحكمين فينا — في أحضان السياسات الجاهلية ، وتنكرهم لشريعة ربهم ، وظلمهم لشعوبهم ، ولكنا نقول : كل ذلك لاينبغي أن يفُت في عضدنا ، ويجعلنا نيأس ونستسلم ، ونتخلى عن قدسنا ومسجدنا الأقصى المبارك ، فإرتباطنا به قائم ومستمر إلى يوم القيامة ، وإدعاءات الصهاينة ليس لها ظل من الحقيقة ، ولن تتم لهم مطامعهم مهما طال الوقت ، ولن يتمكنوا بإذن — الله عزوجل — من بلوغ مآربهم وهدم الأقصى وتغيير معالمه ،
ولذلك ينبغى أن يُعلن ويُقال : بأن التاريخ قديما وحديثا ، والأحداث الأخيرة أثبتت خبث هؤلاء الصهاينة المجرمين ، فلا دين يردعهم ، ولاقانون يمنعهم ليرحموا الضعفاء ، ويردوا الحقوق لأهلها ، ويَرْعوا العهود ، ولاخُلق ولاشرف يدعوهم إلى عدم ظلم العباد ، والإنسان المجرد من الدين والخلق والمنطق ، ومن كل القيود الإنسانية لاتُرجى معه مُعايشة سلمية ، بل تكون الحياة معه مهددة دائما وصدق الرسول — صلى الله عليه وسلم — إذ يقول :(إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ماشئت ). وإذا كان الأمر كذلك فلا يفِل الحديد إلا الحديد ، والعبد يُقرع بالعصا والحر تكفيه المقالة ، وهؤلاء قد إعتمدوا القوة فلاتكسرهم إلا القوة ، وهؤلاء عبيد الأهواء والمطامع والدنيا فليس لهم إلا القرع بالعصا ، والضرب الموجع والحق في عصر القوة ، وعند المتبجحين لاينال بالكلام والمساومة والمفاوضة ، بل بالكفاح والمغالبة وصدق الله — عزوجل — إذ يقول : (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) .
ومانيل المطالب بالتمني ،
ولكن تُؤخذ الدنيا غلابا .
ألا إنها مسؤلية كبرى في أعناق المسلمين في شتى بقاع الأرض أن لايتركوا قبلتهم الأولى ، ومسرى نبيهم الأمين — صلى الله عليه وسلم — ومثوى الأنبياء الطاهرين ،
إنها مسؤلية حذاري أن نُفرط فيها ، أونتخلى عنها لشرذمة تعيث فيها فسادا وتلوث قدسيتها بفجورها ومكرها وكيدها وتخريبها ، وتحدياتها وكبريائها ، إنها مسؤلية ينبغي الإنتباه إليها والقيام بالواجب نحوها ، والعمل الجاد وتوحيد الصفوف لتطهير الحرم القدسي من دنس أرجاس الصهاينة المجرمين الجبناء الذين يخشون بأس المسلمين وغضبتهم ، إذا تجمعوا واتحدت كلمتهم وارتفعت رايتهم ،
فهيا للكفاح والعمل لنرفع أصواتنا في جنبات بيت المقدس مرددين قول الله عز وجل : (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير ) .
اللهم أَعِد إلينا قدسنا الأسير ، ورُدَه إلينا ردا جميلا ، وهيئ لنا قادةً عظاماً من أمثال عمر وخالد وصلاح الدين ؛ ليعيدوا أمجاد المسلمين .
آمين .
(المصدر: رابطة علماء أهل السنة)