بقلم د. حافظ الكرمي
في تمام السادسة وثلاث وأربعين دقيقةً من مساء الثلاثاء 24/4/2018 ترجّل الفارسُ وألقى عصا التّسيار معلنًا انتهاء الرّحلة في أتون هذه الحياة، والوصول إلى خطّ النّهاية في مضمارها الكؤود.
لحظةً بلحظةٍ واكبتُ أيامَه وساعاته الأخيرة وتابعتُها عن كثبٍ، وإخوانُه الذين ما فتؤوا يلفّونَه بالشّغاف، ومنذُ أن أُغشيَ عليه إلى أن أسلمَ الرّوح لباريها ارتسمت أمامنَا عشراتُ المرّاتِ مسيرةَ حياةِ جبلٍ أشمَّ، مسيرةَ جاهدٍ مجاهدٍ ترجَّل وروحُه معجونةٌ بالأرض التي عشقها وأحبها، وقلبه معلّقٌ بالقدسِ والأقصى، وبصرُه يرنو إلى اليوم الذي يتبّرُ فيه جندُ الله ما علا المحتلون تتبيرًا.
إلى فلسطين كانت تسري روحه الطاهرةُ كلّ يومٍ، تستريح على كتفِ “عقربا” مرتشفةً من معينِ الوحي الذي بارك تلكم الأرض ما يُشعلُ همَّةً ما خبَت يومًا من الأيّام.
أبا يحيى … يا مهجةَ الفؤاد …. يا جبلَ الإباء ….يا رمز الوفاء … يا منبع الرواء …يا قرة عين ميساء …يا حبيب لميس … يا فؤاد نور … لقد تقدمت الصف منذ نعومة أظفارك جاهدًا باذلًا غاية الوسع، مجاهدًا مناضلًا بنفسك وجهدك ووقتك وفكرك وقلمك في الدفاع عن أجمل وأطهر زهرة من زهرات المدائن، فكانت آخر كلماتك مستودعاً بها هذه الدنيا موصيًا إخوانك من بعدك: ”استشعروا عِظم قضيّتكم التي جعلها الله تعالى قرآنًا يتلى، ولا تيأسُوا من كثرة المؤامرات، فأشدُّ الأوقات حلكةً ما يسبق انبلاج الفجر”، هكذا أعلنها أبو يحيى.
يا أم يحيى …يا أم المؤمنين والمؤمنات … يا معلمة الصابرات المصابرات… ويا قدوة الثابتات القانتات … أعلنها صريحة مدوية بلا أدنى مواربة: فلتبقَ الرّماحُ مشرعةً، والعيونُ مفتوحةً، والبصائرُ متيقّظةً حتى ينتصرَ الحقُ ويزهقَ الباطلُ، ولْتبقَ القافلة تغذُّ المسير، والخيلُ مُسرجة، ففي كلّ يومٍ يترجّلُ منَّا فارسٌ يعتلي الصّهوات، وفوارسُ من إخوانه وتلاميذه يكملون السير رغم الملمات، وقد غدا منارةً لا تنطفئ رغم الظلمات.
إنني وأنا أكتب هذه الكلمات في رثاء أخي وصديقي وحبيبي أبي يحيى الذي شاء الله تعالى أن تكون خاتمته بين ذراعيّ وفي بيتي…تذرف دموعي، ويختلج صدري، وترتجف أطرافي، وأنا أستعرض مسيرة ستٍّ وعشرينَ عامًا عشناها معًا بكلّ ما في هذه الكلمةِ من معنىً حقيقيِّ لا مجاز فيه، عملنا وسافرنا وأكلنا وشربنا وبتنا معاً في مكانٍ واحدٍ؛ همُّنا وهدفنا وغايتنا أن يرضى عنَّا الله تعالى، والبوصلةُ هيَ فلسطين.
يا أبا يحيى: يا حبيب الروح، يا من كسرت القيد وكنت تردد دائماً “أحبُّ الحريّة التي سقفها السماء” لقد كسرتَ القيدَ، وفككت الحبل من حول عنق الكلمة الحرة الكريمة، فكان فكرك وقلمك وتوجيهاتك تعبّرُ عن ذلك في شمم وإباء وشموخ.
يا أبا يحيى: يا صديقي العزيز، كأنّي بروحك المنطلقة الحرّة تحلّق الآنَ في سماء القدس وفلسطين وقد أصطفّت مع الفرسان الذين أحكموا القياد، وللمحتلّين مع الفرسان أحوالٌ لا تجهلها، فقلوبهم مرعوبة، ونفوسهم مفزوعة، وأفئدتهم هواء، وكيف لا يكونون كذلكَ وهم يرون الأبرار قد اعتلَوا الصّهوات واعتمروا اليقينَ! قبل الخُوَذ، وعزموا أمرهم فكانوا قَدَرَ الله الذي لا يُردّ.
إنّ رفعَ اللّواء ليسَ منّةً من حامله، لكنَّه شرفٌ يسعى إليه الأخيارُ الصّادقونَ، وفضلٌ يختصُّ به الله تعالى عبادهَ المُصطَفين، وقد أخذ أبو يحيى اللواء بقوَّةٍ ورفعه عاليًا بعزّةٍ وشموخ، هذا اللواء الذي يتوارثه المجاهدون، فكلّما ترجّل عن صهوة الحياة فارسٌ سارعَ من جند الحقّ من يرفعه، فهو لم يسقط ولن يسقط يومًا، واليومَ -وقد ترجّل المجاهدُ والصفوف ملتحمةٌ والمعركةُ قد كشفت عن ساقها، ودعوةُ الحقِّ تنادى جندها: قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين- يأتي صوت أبي يحيى من خلف ستار الغيبِ: هذه الرّايةُ رايةُ الإسلامِ … رايةُ الحرية …. ورايةُ الحقّ ورايةُ سيّد المرسلينَ، فمن يتقدّمُ لحملِها بحقّها؟ وحقّها أن لا تَكلّ العزيمة، ولا تخبو الهمّة، ولا يقبلُ حاملها المساومة عليها، فهلّمَّ -يا أخي- إلى الركب مجاهداً بمالك وبنفسك، بقلمك وبلسانك، وذلك أضعف الإيمان، ارفع يديكَ إلى السماء داعيًا لإخوانك ربَّ الأرض والسماء، اغرس في بنيك حبَّ فلسطين وتربتها، وحبَ القدس، وفتية القدس، وتراب القدس، ومساجد القدس.
يا رب السّماء والأرض… نشهدك ونشهد ملائكتك المقربين بأنَّ أخانا أبا يحيى ممن قدموا لدين الله أعمارهم رخيصةً في فُتُوَّتهم وشبابهم وكهولتهم، ومن الذينَ مضَوا في الدنيا وهم يحملون همومَ أمّةٍ بأسرها، وأملَ وألمَ شعب مكلوم، فأجره وأجرهم قد وقع عليك وحدك بإذنكَ يا من خلقت الأرض والسماء، فلقد وعدتهم فأسرع وأسرعوا إلى عهدك، ومن أوفى بالعهد منك.
فلّله درّكم أيّها الأوفياء فأنتم وحدكم مَن كتبتم تاريخَ مجدنا، وسطّرتم معالم عزَّتنا، ورسمتم لنا طريق الحريّة الحمراء بالمهج والأرواح، وإنَّ الفراقَ مرّ والوداعَ قاسٍ غير أنّه يعزّينا أنّنا نترسّم خطاكم وننقش في أذهان الأجيال القادمة سيرتَكم؛ سيرةَ البطولة والتضحية والفداء.
إلى رحمة الله يا أبا يحيى مع الأنبياء والصّديقين والشّهداء في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر.
(المصدر: هيئة علماء فلسطين في الخارج)