مقالاتمقالات المنتدى

هَلْ كانَ الإِمَامُ البُخاريُّ يعرِفُ العَرَبيَّةَ؟!

هَلْ كانَ الإِمَامُ البُخاريُّ يعرِفُ العَرَبيَّةَ؟!

 

بقلم الشيخ مروان الكردي

 

يجعلُ بعضُ المعترِضينَ هذَا السُّؤَالَ تَشكِيكًا في صَحيحِ البُخاريِّ، ويقولونَ كمَا قالَ كاتِبُهُم: “نطرَحُ السُّؤالَ ويزدادُ إلحاحُنا في طَرْحِ السُّؤالِ، سيَّما علِمْنَا انَّ الشَّيخَ البُخاريَّ ذُو أصلٍ فَارسيٍّ، فاللُّغةُ العربيَّةُ ليسَتْ لُغَتَهُ الأصليَّةَ، وكلُّ المؤرِّخينَ وَالحُفَّاظِ وَالمحدِّثينَ وَالمترجمينَ وكُتَّابِ السِّيَرِ، لم يتَحَدَّثُوا لَنَا ضِمْنَ أسْطُورَةِ البُخاريِّ عن متَى وكيفَ تعلَّمَ العربيَّةَ، بَلْ: جملَةُ ما تَحَدَّثُوا عنهُ، هو شُرُوعُهُ فِي حفظِ الحَديثِ وهو صبيٌّ صغيرٌ لم يتجَاوَزِ العَشْرَ سنينَ.”([1]).

أقولُ: إنْ دلَّ هذا الِاعترَاضُ على شيءٍ فإنَّهُ يدلُّ على قلَّةِ خِبْرَةِ صاحِبِهِ، فلو رأى هذِهِ النِّقاطَ الَّتي نذكُرُهَا لا أشكُّ أنَّهَا يستَحيي بعدُ منْ كلامِهِ-نوَّرَ اللهُ طَريقَهُ-، وَالنِّقَاطُ هِيَ:

الأُولَى: أنَّ عَدَمَ ذِكْرِ دِراسَةِ اللُّغةِ، لا يدلُّ على أنَّهُ لَم يدرُسِ اللُّغَةَ، لأنَّ عدمَ الذِّكْرِ لا يدلُّ على عَدَمِ الوجُودِ.

الثَّانِيَةُ: هُناكَ عُلَمَاءُ كثيرُونَ لهم علمٌ وَاسِعٌ بالعَرَبيَّةِ، ولا نَدْرِي أينَ دَرَسُوا وَعَلَى مَنْ وَمَاذا دَرَسُوا، فعدمُ عِلْمِنَا بِحَالِهِم لا يَستَلْزِمُ رَدَّ مَحصُولِهِم.

الثَّالِثَةُ: أنَّ هناكَ عُلَماءُ كَثيرونَ مِنْ أُصولٍ غيرِ عربيَّةٍ، وكانُوا مِنْ عَبَاقِرَةِ اللُّغَةِ وَلهم يدٌ في الكَلامِ على دَقَائِقِ مَسَائِلِهَا، كَابنِ تيمِيَةَ وَالرَّازِي وَغيرِهِمَا، وَلا أتَكَلَّمُ عَنْ أئمَّةِ اللُّغةِ الَّذينَ أكثرُهُم مِنْ أصُولٍ غيرِ عربيَّةٍ، كَسيبَويهِ وَالزَّمخشرِيِّ وَالفَيروزآبادِي وَغيرِهِم.

الرَّابِعَةُ: أنَّ كَثيرًا مِنْ هذِهِ الشُّعوبِ غيرِ العَرَبيَّةِ كَانُوا يتكلَّمُونَ بالعربيَّةِ مَعَ لُغَتِهُم الأُمِّ، لأنَّ اللُّغةَ العربيَّةَ كَانتْ وَلا تَزَالُ لُغَةً إِسلاميَّةً وَلَيْسَتْ مِلكًا للعَرَبِ وَحدَهُم، بَلْ: هِيَ لُغةُ المسلِمينَ جَمِيْعًا، وَخيرُ دليلٍ عَلى ذلِكَ أنَّ أُدَبَاءَ الأُندَلُسِ وَشُعراءَهُم وَكُتَّابَهُم، كانُوا يكتبُونَ جِيادَ المَنظُومِ والمنثُورِ بالعربيَّةِ الفَصيحَةِ النَّصيعَةِ، وَهُم فِي رَيعَانِ شَبَابِهِم.

الخَامِسَةُ: قَالَ الإِمَامُ البُخاريُّ عنْ نَفسِهِ: فَلَمَّا طَعَنْتُ فِي سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، كُنْتُ قَدْ حفظتُ كُتُبَ ابْنِ المُبَارَكِ وَوَكِيْعٍ، وَعرفتُ كَلاَمَ هَؤُلاَءِ([2])، ثُمَّ خرجْتُ مَعَ أُمِّي وَأَخِي أَحْمَدَ إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا حَجَجْتُ رَجَعَ أَخِي بِهَا! وَتخلَّفْتُ فِي طلبِ الحَدِيْثِ([3]).

يُنْكِرُ العَقْلُ أنْ يَكُونَ الشَّخصُ حَافِظًا لِتِلْكَ الكُتُبِ وَيَهْتَمُّ بِهَا، وَمَعَ هذا لا يعرِفُ العَرَبيَّةَ وَلَم يهتَمَّ بِهَا.

السَّادِسَةُ: هَبْ أنَّ الإِمامَ لَمْ يهتَمَّ بالعَرَبِيَّةِ، ألَمْ يتعلَّمْ لَمَّا ذَهَبَ إِلَى مَكَّةَ فِي رَيعَانِ الشَّبَابِ؟ لَوْ فرَضْنَا أنَّهُ لم يكُنْ يعرِفُ العربيَّةَ قبلَ التّجوالِ وَالطَّوافِ بالبُلْدَانِ العَرَبِيَّةِ، ولكِنْ إنكَارُ عِلْمِهِ بِهَا بعدَ مُكُوثِهِ في المَنَاطِقِ العَربيَّةِ لمُدَّةٍ كثِيرَةٍ مِنَ الزَّمَنِ ليسَ سِوَى مُكابَرَةٍ وَعِنادٍ من المعَارِضينَ، فَهُوَ بَقِيَ فِي بلادٍ عَربيَّةٍ كَثيرَةٍ وَهذهِ بَعضُهَا: بَغْدَادُ، وَالبَصْرَةُ، وَالكُوفَةُ، وَمَكَّةُ، والْمَدِينَةُ، وَمِصْرُ، وَالشَّامُّ، وَعَسْقَلانُ، وَحِمْصُ، وَقِسَاريَّةُ([4]).

السَّابِعَةُ: هَبْ أنَّ البُخاريَّ لَمْ يَذْهَبْ إلَى مَكَانٍ عَرَبيٍّ قَطُّ-وهذا أمحَلُ المُحالِ-فَمَاذا عَنْ ملازَمَةِ الحلقَاتِ العِلميَّةِ في المَناطِقِ غيرِ العَربيَّةِ كَنَيسابُورَ وَالرِّي وَبَلْخَ وَمَرْوَ وَغيرِهَا مِنَ الأَقْطَارِ، مَعَ العِلْمِ أنَّ الدُّرُسَ كانَتْ تُقامُ بالعَرَبيَّةِ، فَإِذا كَانَ الشَّخْصُ واظَبَ عَلَيْهَا لسَنَواتٍ طِوَالٍ، أفَلا يتَعَلَّمُ العربيَّةَ بشكلٍ جَيِّدٍ بَعْدُ؟!

الثَّامِنَةُ: كَانَ للإِمَامِ زُمَلاءُ وَرِفَاقٌ فِي الطَّلَبِ كَثيرٌ منهُم منَ العَرَبِ، وَكَذَا لَهُ تَلاميذُ كَثيرونَ مِنَ العَرَبِ، وَقَدْ عَاشَ مَعَهُم مُدَّةً مَدِيدَةً، أفَلَمْ يتعلَّمْ منهُم العَرَبِيَّةَ؟!

التَّاسِعَةُ: قَدْ كَانَ أبُوهُ مِنَ المُحدِّثينَ، كَمَا قالَ عَنْهُ البُخَارِيُّ نفسُهُ: رَأَى حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ، صَافَحَ ابْنَ المبَارَكِ بِكِلْتَا يَدَيْهِ، وَسَمِعَ مَالِكًا([5]). وَمِنْ قَرَائِنِ صِدْقِ الإِمَامِ لَا يُبالِغُ فِي أبِيْهِ، وَهذَا كُلُّ مَا سَطَرَ بِهِ يَرَاعُهُ مِنْ تَرَجَمَتِهِ، وَقَالَ ابنُ حِبَّانَ: “يَرْوِي عَنْ مَالِكٍ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، رَوَى عَنْهُ الْعِرَاقِيُّونَ.”([6]).

هذَا يَدُلُّ عَلَى أنَّ بَيْتَهُم بَيْتُ عِلْمٍ، وَمَا دامَ العِراقِيُّونَ رَوَوا عَنْ أبيهِ نَحكُمُ بأنَّهُ كَانَ يعرِفُ العَرَبيَّةَ وَلَا سيَّمَا أنَّهُ أيضًا أَخَذَ عَنِ الأئِمَّةِ كَابنِ المُبارَكِ وَمَالِكٍ، فَعَلَى هذَا لَا يُعْقَلُ أنَّهُ عَرَفَ العَرَبيَّةَ وَابنُهُ يَرْغَبُ فِي العِلْمِ وَلَمْ يُعلِّمْهُ العَرَبيَّةَ.

العَاشِرَةُ: جَاءَنَا عَنِ الإِمَامِ البُخَارِيِّ-رَضِيَ اللهُ عنهُ- أنَّهُ اشْتَرَطَ عَلَى طَالِبِ الحَديثِ أنْ يَبْدَأَ أوَّلًا بالكِتَابَةِ وَاللُّغَةِ وَالصَّرْفِ وَالنَّحْوِ، فَكَيْفَ يُوصِي الإِمَامُ بتعُّمِهَا وَيَرَاهَا ضَرورِيَّةً للطَّالِبِ وَهُوَ لا يَعْرِفُهَا؟

وَنَذكُرُ الرِّوَايَةَ بِتَمَامِهَا لأنَّهَا تَدُلُّ عَلَى مُكْنَةِ الإِمَامِ وَاستِحْضَارِهِ العَجيبِ وَفَرْطِ ذَكَائِهِ، وَمَعَ هذَا فِيْهَا نَصَائِحُ مُهِمَّةٌ لا غِنَى عَنْهَا، وَهِيَ: مَا رَوَاهُ القَاضِي عِيَاضٌ بِسَنَدِهِ إلَى أبِي المُظَفَّرِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَامِدِ بْنِ الْفُضَيْلِ الْبُخَارِيِّ أنَّهُ قَالَ: لَمَّا عَزَلَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْوَلِيدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ زَيْدٍ الْهَمَذَانِيَّ عَنْ قَضَاءِ الرَّيِّ، وَرَدَ بُخَارَى، فَحَمَلَنِي مُعَلِّمِي أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْخُتُلِّيُّ إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: أَسْأَلُكَ أَنْ تُحَدِّثَ هَذَا الصَّبِيِّ بِمَا سَمِعْتَ مِنْ مَشَايِخِنَا، فَقَالَ: مَا لِي سَمَاعٌ، قَالَ: فَكَيْفَ وَأَنْتَ فَقِيهٌ؟ قَالَ: لِأَنِّي لَمَّا بَلَغْتُ مَبْلَغَ الرِّجَالِ تَاقَتْ نَفْسِي إِلَى طَلَبِ الْحَدِيثِ فَقَصَدْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ، وَأَعْلَمْتُهُ مُرَادِي، فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ لَا تَدْخُلْ فِي أَمْرٍ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ حُدُودِهِ وَالْوُقُوفِ عَلَى مَقَادِيرِهِ، وَاعْلَمْ: أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَصِيرُ مُحَدِّثًا كَامِلًا فِي حَدِيثِهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَكْتُبَ أَرْبَعًا مَعَ أَرْبَعٍ، كَأَرْبَعٍ مِثْلِ أَرْبَعٍ فِي أَرْبَعٍ، عِنْدَ أَرْبَعٍ بِأَرْبَعٍ، عَلَى أَرْبَعٍ عَنْ أَرْبَعٍ لِأَرْبَعٍ، وَكُلُّ هَذِهِ الرُّبَاعِيَّاتِ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِأَرْبَعٍ، مَعَ أَرْبَعٍ؛ فَإِذَا تَمَّتْ لَهُ كُلُّهَا هَانَ عَلَيْهِ أَرْبَعٌ وَابْتُلِيَ بِأَرْبَعٍ، فَإِذَا صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ أَكْرَمَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا بِأَرْبَعٍ وَأَثَابَهُ فِي الْآخِرَةِ بِأَرْبَعٍ.

قُلْتُ لَهُ: فَسِّرْ لِي رَحِمَكَ اللَّهُ مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَحْوَالِ هَذِهِ الرُّبَاعِيَّاتِ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَّا الْأَرْبَعَةُ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَى كَتْبِهَا هِيَ: أَخْبَارُ الرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَائِعِهِ، وَالصَّحَابَةِ وَمَقَادِيرِهِمْ، وَالتَّابِعِينَ وَأَحْوَالِهِمْ، وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ وَتَوَارِيخِهِمْ، مَعَ أَسْمَاءِ رِجَالِهَا وَكُنَاهُمْ وَأَمْكِنَتِهِمْ وَأَزْمِنَتِهِمْ، كَالتَّحْمِيدِ مَعَ الْخُطَبِ، وَالدُّعَاءِ مَعَ التَّرَسُّلِ، وَالْبَسْمَلَةِ مَعَ السُّورَةِ، وَالتَّكْبِيرِ مَعَ الصَّلَوَاتِ، مِثْلِ الْمُسْنَدَاتِ، وَالْمُرْسَلَاتِ، وَالْمَوْقُوفَاتِ، وَالْمَقْطُوعَاتِ فِي صِغَرِهِ، وَفِي إِدْرَاكِهِ، وَفِي شَبَابِهِ، وَفِي كُهُولَتِهِ، عِنْدَ شُغْلِهِ، وَعِنْدَ فَرَاغِهِ، وَعِنْدَ فَقْرِهِ، وَعِنْدَ غِنَاهُ، بِالْجِبَالِ، وَالْبِحَارِ، وَالْبُلْدَانِ، وَالْبَرَارِي، عَلَى الْأَحْجَارِ وَالْأَصْدَافِ، وَالْجُلُودِ وَالْأَكْتَافِ، إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي يُمْكِنُهُ نَقْلُهَا إِلَى الْأَوْرَاقِ، عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُ، وَعَمَّنْ هُوَ مِثْلُهُ، وَعَمَّنْ هُوَ دُونَهُ، وَعَنْ كِتَابِ أَبِيهِ، يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ بِخَطِّ أَبِيهِ دُونَ غَيْرِهِ، لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى طَالِبًا لِمَرْضَاتِهِ، وَالْعَمَلِ بِمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا، وَنَشْرِهَا بَيْنَ طَالِبِيهَا، وَالتَّأْلِيفِ فِي إِحْيَاءِ ذِكْرِهِ بَعْدَهُ.

ثُمَّ لَا تَتِمُّ لَهُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ إِلَّا بِأَرْبَعٍ هِيَ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ: مَعْرِفَةُ الْكِتَابَةِ، وَاللُّغَةِ، وَالصَّرْفِ، وَالنَّحْوِ، مَعَ أَرْبَعٍ هُنَّ مِنْ عَطَاءِ اللَّهِ تَعَالَى: الصِّحَّةُ، وَالْقُدْرَةُ، وَالْحِرْصُ، وَالْحِفْظُ؛ فَإِذَا صَحَّتْ لَهُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ هَانَ عَلَيْهِ أَرْبَعٌ: الْأَهْلُ، وَالْوَلَدُ، وَالْمَالُ، وَالْوَطَنُ، وَابْتُلِيَ بِأَرْبَعٍ: شَمَاتَةُ الْأَعْدَاءِ، وَمَلَامَةُ الْأَصْدِقَاءِ، وَطَعْنُ الْجُهَلَاءِ، وَحَسَدُ الْعُلَمَاءِ؛ فَإِذَا صَبَرَ عَلَى هَذِهِ الْمِحَنِ أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا بِأَرْبَعٍ: بِعِزِّ الْقَنَاعَةِ، وَبِهَيْبَةِ الْيَقِينِ، وَبِلَذَّةِ الْعِلْمِ، وَبِحَيَاةِ الْأَبَدِ، وَأَثَابَهُ فِي الْآخِرَةِ بِأَرْبَعٍ: بِالشَّفَاعَةِ لِمَنْ أَرَادَ مِنْ إِخْوَانِهِ، وَبِظِلِّ الْعَرْشِ حَيْثُ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ، وَيَسْقِي مَنْ أَرَادَ مِنْ حَوْضِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَبِجِوَارِ النَّبِيِّينَ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ فِي الْجَنَّةِ؛ فَقَدْ أَعْلَمْتُكَ يَا بُنَيَّ بِمُجْمَلَاتِ جَمِيعِ مَا كُنْتُ سَمِعْتُ مِنْ مَشَايِخِي مُتَفَرِّقًا فِي هَذَا الْبَابِ، فَأَقْبِلِ الْآنَ عَلَى مَا قَصَدْتَنِي لَهُ، أَوْ: دَعْ([7]).

الحَادِيةَ عَشْرَةَ: أنَّ الإِمَامَ البُخاريَّ كَانَ فِي صِرَاعٍ فِكْرِيٍّ شَدِيدٍ مَعَ الفِرَقِ المنحَرِفَةِ كَالجَهْميَّةِ وَرَدَّ عليهِم بِكِتَابٍ ذَاعَ صِيتُهُ وَتَأَلَّمَ منهُ أَهلُ التَّجَهُّمِ كَثيرًا، فَلوْ كانَ الإِمامُ لم يكُنْ يُتْقِنُ العَرَبيَّةَ لَا شَكَّ أنَّهُم عَيَّرُوهُ بِعَدَمِ معرِفَتِهِ بِهَا وَجَعلُوا هذَا ذرِيعَةً للطَّعْنِ فِيْهِ، وَكَانُوا لَهُ بِصَدَدٍ وَيُفتِّشُونَ عنْ وجودِ أدْنَى عَيبٍ حَتَّى يُسْقِطُوهُ، وَهَا نَحنُ نَرَى أنَّ رؤُوسَ الجَهميَّةِ اُتُّهِمُوا بِذلِكَ، كَمَا قالَ الإِمَامُ الفَذُّ العَبْقَرِيُّ عَبدُ العَزيزِ الكِنَانِيُّ فِي بيَانِ جَهْلِ بِشْرٍ المرِيسِيِّ بالعَرَبيَّةِ فِي مُنَاقَشَتِهِ الشَّهِيرَةِ بِحَضْرَةِ الخَلِيْفَةِ المَأمُونِ: “إِنَّمَا دَخَلَ الجَهْلُ عَلَى بِشْرٍ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ -يَا أَمِيْرَ المؤْمِنِينَ- لِأَنَّهُم لَيْسُوا مِنَ العَرَبِ وَلَا عِلْمَ لَهُمْ بِلُغَةِ العَرَبِ وَمَعَانِي كَلامِهَا، فَتَنَاوَلُوا القُرآنَ عَلَى لُغَةِ العَجَمِ الَّتِي لَا تَفْقَهُ مَا تَقُولُ.”([8]).

فَلِمَاذَا لَم يَرِدْ كَلامُ خُصُومِ البُخاريِّ فِي ذلِكَ؟! لأنَّهُ فِرْيَة بِلا مِرْيَة!

 ([1])  صحيحُ البُخاريِّ نِهايةُ أسطُورَةٍ، ص: (164).

 ([2])  يَقْصِدُ أَصْحَابَ الرَّأي كَمَا نَبَّهَ إِلَى ذلِكَ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ فِي مُقَدِّمَةِ الفَتْحِ (1/478)، ط: دار المعرفة.

 ([3])  تاريخ دِمَشقَ لابنِ عَسَاكِرَ (52/57)،سِيَرُ أَعلامِ النُّبلاءِ (12/393)، فَتحُ البَارِي (1/478).

 ([4])  تاريخ دِمَشقَ لابنِ عَسَاكِرَ (52/53) وَ(52/58)، سِيَرُ أَعلامِ النُّبلاءِ (12/394- 395)، تاريخ الإِسلامِ (19/241)، فَتحُ البَارِي (1/478).

 ([5])  التَّاريخُ الكَبِيرُ للبُخَاريِّ (1/342) ترجَمَةُ رقم: (1084).

 ([6])  الثِّقَاتُ لِابنِ حِبَّانَ (8/98) ترجَمَةُ رقم: (12417).

 ([7])  الإلماعُ إلى مَعْرفةِ أصُولِ الرِّوايةِ وتَقييدِ السَّمَاعِ للقَاضِي عِياضٍ ص: (29-33)، وتَدرِيبُ الرَّاوِي للسُّيوطِيِّ (2/602- 604)، تَهذِيبُ الكَمَالِ للمِزِّيِّ (24/461-462).

 ([8])  الحَيْدَةُ وَالِاعتِذَارُ، للإمامِ عبدِ العَزيزِ الكِنانِيِّ، ص: (71).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى