هيمنة الاستشراق والأممية المثلية
قراءة في كتاب «اشتهاء العرب» لجوزيف مسعد
قراءة: أيمن عيسى أحمد
– تأليف: جوزيف مسعد.
– ترجمة: إيهاب عبد الحميد.
– الناشر: دار الشروق، القاهرة.
– سنة النشر: 2013 الطبعة الأولى.
– عدد الصفحات: (581).
جوزيف مسعد أستاذ السياسة والفكر العربي الحديث بجامعة كولومبيا، له عدة مؤلفات بالإنجليزية منها: (تأثيرات كولونيالية: تشكل الهوية الوطنية في الأردن) و(ديمومة المسألة الفلسطينية) و(اشتهاء العرب) والأخير صدر عن جامعة شيكاغو في 2007 وتُرجم إلى العربية في 2013. ينصب اهتمام مسعد الأساسي على موضوعات الاستشراق وما بعد الكولونيالية، ويُعتبر من نقاد الليبرالية مثل أستاذه إدوارد سعيد، ووائل حلاق.
تُناقش الدراسة الأطروحات الأكاديمية الغربية حول الجنسانية العربية، وترصد تغلغلها في الخطاب العربي المعاصر وهيمنتها المعرفية عليه، وذلك من خلال قراءة السجال الفكري العربي الذي صوَّر الجنس عند العرب قديمًا وحديثًا منذ عصر النهضة إلى الوقت الحالي، هذا بعد تفكيك المصطلحات التي بُنيت عليها “الجنسانية” مثل: (الجنسانية Sexuality، والحضارة والتقدم، والنهضة والانحطاط، والتقاليد والحداثة….) وهي مصطلحات تكشف عن تحيز الصياغة الاستعمارية فيها، ويروج فيها الغرب لنفسه على أنه المنقذ حامل لواء التنوير في العالم العربي المنحط. وينبه مسعد على وقوع المفكرين والمثقفين العرب في حبائل تلك التصورات الموروثة عن الاستشراق والاستعمار دون مساءلة وإسقاطها على القرن 18 وعلى واقعهم احتذاء بمفاهيم النهضة الأوروبية، وهو ما يتضح في تبني الداروينية الاجتماعية، والنظام الأخلاقي الفيكتوري.
خلص مسعد إلى أن ثنائية مثلي/غيري الجنسانية ثنائية إمبريالية رأسمالية اختلقها الغرب، وسعى إلى تعميمها على الشعوب التي لا تخضع لجنسانيته زاعمًا عالميتها رغبة منه في الهيمنة والسيطرة، وهذا التصنيف لا يعدو في الحقيقة أن يكون تصنيفا ثقافيا غربيا. توصل مسعد إلى هذا بالتركيز على الخطاب الإبستمولوجي والأنظمة المعرفية التي تنطلق منها “الأممية المثلية” لا على الخطاب السياسي لها. تتكون الدراسة من ستة فصول على النحو الآتي:
*** *** ***
الفصل الأول: (قلق في الحضارة)
حلَّل الفصل قرنا كاملا من السجالات العربية الحديثة لطائفة من المثقفين حول الجنس في ماضي العرب؛ ليستكشف الطريقة التي وُظفت بها تلك الكتابات في عملية الإحياء والنهضة. وهي عملية تستند إلى المفاهيم الأوروبية المذكورة آنفا، وإلى منظومة الأخلاق الجنسية الفيكتورية، مع ملاحظة الكيفية التي طُرحت بها تلك الأفكار كشبكة تأويلية لتفسير التراث وإنتاجه الذي يُتخذُ مستودعا للوثائق الحضارية ويُتخذ منظومة أخلاقية في الوقت نفسه. ولقد حظي فيه أبو نواس باهتمام بالغ من أجل مقاربة الجنسانية في العصر العباسي الذي ينتمي إليه.
ركزت السجالات حول أبي نواس على الدور التربوي الذي سيلعبه الماضي في الحاضر النهضوي، وشملت ما يجب أن يُحاكى وما يجب أن يُستبعد مما لا يتوافق مع الأعراف الحديثة (الأوروبية). كشف مسعد عن هذه السجالات في كتابات: جرجي زيدان، وطه حسين، وزكي مبارك، وأحمد أمين؛ فَبيَّنَ تأثير الداروينية الاجتماعية في سجالات جرجي زيدان، وحضور التأثيرات الاستشراقية في معالجة طه حسين، وتأثُّر زكي مبارك ببعض الأفكار ذات الطابع الاستشراقي التي تحولت إلى حجج سوف يسعى بها اللاحقون إلى تطهير تاريخ العرب وحضارتهم من تهتك أبي نواس. وتأثُّر أحمد أمين بأفكار داروين وسبنسر واتفاقه في غاياته التطهيرية مع زكي مبارك. وثمة دراسات أقلقها أبو نواس فرفضت تغزله وشذوذه، وأخرى استعانت بمنجزات علم النفس الأوروبي في تفسيره؛ مثل دراسات عمر فروخ، وعبد الرحمن صدقي، ومحمد النويهي، والعقاد وقد تعاطف الأخيران مع شخصيته؛ فرد الأول شذوذه إلى كونه أثرا من آثار التدهور الحضاري، ورده الآخر إلى نرجسيته. ورفض الماركسي حسين مروة تلك التفسيرات النفسية؛ لطبيعتها البرجوازية وتجاهلها الظروف الاجتماعية، ورأى أن أبا نواس -من وجهة التحليل الطبقي- انهزامي.
اعتبر أدونيس أبا نواس علمانيا وقارنه بالشعراء الفرنسيين الحداثيين. وما شغله هو مركزية الخمر في مجتمع يحرم الشراب وأهميته الرمزية لأبي نواس. وعدَّه أكمل أنموذج للحداثة في الموروث الشعري، وقوة تطور حضارية غير منحطة، ودعا إلى ضرورة محاكاته الثورية فخالف بذلك الجميع. إن قراءته إياه في تمرده نبعت من تماهيه مع فردانية شعراء الرومانتيكية الغربيين. هكذا انتقل السجال حول أبي نواس من اعتباره شخصا تمثل محاكاته ضربا من الخطر إلى نموذج تجدر محاكاته. إن تلك الآراء المتقدمة كانت نتاج تفاعل مستمر بين هؤلاء المثقفين وبين واقعهم الاجتماعي والسياسي والتصورات الغربية.
*** *** ***
الفصل الثاني: (البحث عن الشهوات المفقودة)
سعى الفصل إلى استكشاف الطريقة التي جرت من خلالها كتابة تاريخ حضارة العرب والشهوات الجنسية العربية والدروس التي استخلصت منه. وذلك بتناول مجموعة أعمال لكتاب ليبراليين، و”أصوليين”، ومفكرين اشتراكيين…مثل صلاح الدين المنجد، وعبد اللطيف شرارة، وصادق جلال العظم، وسيد قطب، وسلامة موسى، وعبد الوهاب بوحديبة، ونوال السعداوي، وفاطمة المرنيسي.
حاول المنجد في كتابه: (الحياة الجنسية عند العرب) تفسير ظاهرة حب الغلمان تفسيرا اجتماعيا وحضاريا. واحتفظ بموقف متشدد من أبي نواس رغم احتفائه بالجنس وصوره المتنوعة. ونسب الانحدار في العصر الحديث إلى جنون العصر العباسي بالجنس وانحطاطه، وهو ما يتناقض مع الغرض التربوي للكتاب الذي أشاد بالجنس المنفتح في الماضي في مقابل الكبت الجنسي في الحاضر. وافترض المنجد أن الإفراط والشذوذ سبب أفول الحضارة العربية.
ثمة مؤرخون أدبيون قوميون قدموا قراءات مغلوطة تسير على خطى القوميين الأوروبيين الحداثيين تقوم على الانتقاء من أجل الوصول إلى إنتاج حضارة عربية قديمة ذات خصائص قومية حداثية، وهؤلاء وصموا كل ما هو غير لائق في الحضارة العربية بأنه أجنبي مستورد ليؤكدوا نقاءها. وكان هذا رد فعل على الاستشراق الذي احتقر الحضارة العربية وهون من شأنها. من هؤلاء عبد اللطيف شرارة في (فلسفة الحب) لم يكن شرارة يعتقد أن أفكاره مستعارة من الفكر القومي الأوروبي الفيكتوري والرومانسي؛ بل اعتبرها من صلب الفكر العربي. وفي هذا الإطار استنكر شوقي ضيف شعر الغلمان، وحاول أن يدفع عن أبي نواس تهمة الشذوذ بالذهاب إلى أن ما جاء في شعره كان تورية يُخفي بها فجوره بالنساء، أو بالذهاب إلى نفي عروبته؛ فكان ضيف مثل أوروبيِّ عصري النهضة والتنوير الذين ينسبون كل ما يثير قلقهم إلى غير الأوروبيين في سياق عملية اختراع أوروبا كتصنيف حضاري متماسك.
وفي الإطار الإسلاموي يُعد سيد قطب أول كاتب تصدى للجنس المعاصر في الغرب. وكانت ملاحظاته عن الحرية الجنسية والتسامح مع المثليين في أمريكا مستلهمة من أفلام هوليود؛ لأنها لم تكن كذلك وقتها. انشغل قطب بشيوع الشذوذ الجنسي ورده إلى الاختلاط بين الجنسين وهو يعكس بذلك حجة المستشرقين التي ترى شيوعه في العالم الإسلام بسبب الفصل بين الجنسين.
أما في الإطار العلماني؛ فقد تأثر سلامة موسى في كتاباته الجنسية بفرويد، وداروين، ونيتشه وغيرهم. استفظع الشذوذ الجنسي، وتناوله من زاوية طبقية في المجتمع المصري، ورأى أن سببه هو الفصل بين الجنسين، وذهب إلى أن الرقص أفضل علاج له. ورغب في تسوية الممارسات الجنسية المصرية حتى تعكس الحاضر الأوروبي. وكان موسى ممن شنعوا على أبي نواس وأدانوا الحضارة العباسية، ونسبوا لها الشذوذ المعاصر.
صار كتاب (الجنسانية في الإسلام) لعبد الوهاب بوحديبة مصدرا رئيسا في الغرب للجنسانية العربية. رأى بوحديبة أن العرب أفسدوا تعاليم الإسلام النقية بفلسفتهم وممارستهم الجنسية (وهو يتفق في هذا مع آراء رينان) وكان بوحديبة مشغولا بانحطاط الحاضر وانزياحه بعيدا عن النموذج الإسلامي الأكثر انفتاحا. حاول تقديم نظرة سوسيولوجية للممارسة المجتمعية العربية في العصر العباسي من الناحية الاقتصادية والاجتماعية؛ لكن بحثه السوسيولوجي في العصر الحاضر لم يكن سوى بحث أنثروبولوجي، وتجربته في الكتاب كانت تجربة شخصية لا علمية أمبريقية، وتحليله كان تحليلا استشراقيا مبالغا فيه استند فيه إلى أمثال إدوارد لين.
في إطار الكتابات النسوية قارنت نوال السعداوي وضع المرأة قبل الإسلام وفي العصر المبكر للإسلام بوضعها الحالي مؤكدة تفوقها في الماضي، وكانت مقاربتها ذات طابع انتقائي تستهدف إنتاج أسس ثورية جديدة للعلاقات الجنسية في المستقبل تقوم على مظاهر تقدمية في الماضي تُستكشف عبر آلية ماركسية نسوية وتُربط بالخصائص النسوية الاشتراكية الداعية للمساواة. وفي مناقشتها للشذوذ الجنسي اعتبرته مرضا يحتاج إلى علاج وفهم اجتماعي، ولم تكتب نوال كلمة عن الشذوذ في تاريخ المسلمين أو العرب أو حاضرهم.
أما المرنيسي فقد وظفت بطريقة استشراقية النصوص العربية من القرن السابع وحتى السادس عشر لتأويل المجتمع العربي الحديث وتفسيره. وفي كتابها (ما وراء الحجاب) وصفت العالم الإسلامي بصفات مرضية، وشرحت حاضر العلاقات بين الذكر والأنثى مترجحة بين القرآن وأبي حامد الغزالي والأمثال الشعبية المغربية من جهة وبين البحوث الاستشراقية وتوصيفاتها الأنثروبولوجية لحياة النساء من جهة أخرى. لقد أنسنت المرنيسي الإسلام في مناقشتها للفكر النسوي العربي الحداثي، ونزعت عنه الصبغة التاريخية، وتساءلت عن سبب خوف الإسلام من الفتنة وقوة الجاذبية الجنسية الأنثوية. لقد كانت الكتابات المتقدمة على اختلاف توجهاتها الفكرية محاولة لإعادة تركيب الماضي وتقويمه نقديا وفق المناهج الحداثية بهدف جعله الأساس لحضارة عربية حديثة.
*** *** ***
الفصل الثالث: (إعادة توجيه الشهوة: الأممية المثلية والعالم العربي)
ناقش الفصل التطورات التي حدثت خارج العالم العربي، والكيفية التي سعت بها أمريكا وأوروبا إلى التأثير في المفاهيم العربية حول الشهوة والممارسة الجنسية وإقحامها في المجال السياسي. ولقد أطلق مسعد على النشاط العالمي المتعلق بحقوق المثليين والمثليات “الأممية المثلية”.
أنتجت الأممية المثلية نوعين من الأدبيات التي تتناول العالم الإسلامي: أدبيات أكاديمية أنتجها أوروبيون لتفسير المثلية الجنسية عند العرب. وأدبيات هي تقارير صحفية عن أوجه حياة المثليين والمثليات في العالم العربي؛ فالأولى تسعى إلى إزالة الغموض عن الإسلام لدى القارئ الغربي، والأخرى تسعى إلى تقديم معلومات للمثليين البيض من أجل تحرير نظرائهم من العرب. ويكشف مسعد زيف خطابات الأممية المثلية، وتدليسها ومزاعمها التحريرية التي تروجها؛ ومنها افتراضها وجودا فعليا لشريحة سكانية من المثليين الجنسيين، وغرضها من إشاعة تلك التصورات وادعاء عالميتها أبعد ما يكون عن التحرير المزعوم.
بيَّن مسعد بعض وجوه الخلط والأخطاء التي يقع فيها الغرب في تصوير شهوات العرب والمسلمين نتيجة الدعاية المسيحية القديمة والاعتماد على المخبرين المحليين. وسبب الخلط والتعميم هو الوقوع في “اللاتاريخانية” أي الزعم بلا زمانية ثقافة العرب والمسلمين. ومن صور الوقوع في اللاتاريخانية آراء أسعد أبو خليل الذي يتعامل مع التصنيفات الجنسية بوصفها هويات، ويفرض تصنيفات عصر على عصر آخر مختلف.
رأى مسعد أن الغرب فشل في فرض نظام الغيرية الجنسية على الرجال العرب رغم مساعيه في الطبقات العليا والوسطى التي تتبنى قيمه؛ إذ إن أعضاء تلك الطبقات من المثليين ظلوا أقلية يمارسونها دون أن يعرِّفوا أنفسهم أو يعبروا عن تبنيهم الهويات الجنسية المثلية. ويبين مسعد صور “التحريض على الخطاب” الذي تمارسه الأممية المثلية ومخبروها المحليون، وكيف استطاعت بذلك في الثمانينيات أن تعمم نفسها على نطاق عالمي مستفيدة من انتشار الإيدز، وصعود الإسلاموية التي اعتبرت الأممية المثلية جزءا من العدوان على الثقافة العربية والإسلامية. ذكر مسعد حادثة دالة مثَّل بها للتحريض على الخطاب، وذلك حين هاجم جهاد الخازن رئيس تحرير الحياة القنوات التي تبث حفلات زواج المثليين، وطالب الحكومات بضرورة التحكم فيها واستعمل لفظ “الشذوذ الجنسي” فثار الفلسطيني الأمريكي رمزي زخريا مؤسس إحدى منظمات الشواذ؛ إذ رأى في اللفظ إهانة من خلال رد نشره في الحياة؛ فرد الخازن بأنه لم يقصد الإهانة، وأنه إنما استعمل الترجمة العربية للكلمة، وأن معظم القراء لا يعرفون كلمة “المثلية” مؤكدا رفضه المثلية. وكان مقصود زخريا هو استثارة ردود الأفعال والتحريض على الخطاب حتى يصير الأمر أمرا واقعا. ومن نماذج التحريض مؤتمرات السكان والمرأة في التسعينيات وما لعبته من دور في محاولة فرض أجنداتها بالقوة، وطرقها الملتوية في استعمال مصطلحات تلتبس على الوفود العربية، وهو ما تسبب في استثارة ردود أفعال عربية تهاجم لوبي الشواذ في أمريكا.
استعرض مسعد -محللا- حادثة هجوم شرطة القاهرة على باخرة المثليين فيما عرف بقضية “كوين بوت” في أول الألفية الثالثة، ثم الحكم على أفرادها بازدراء الأديان لأنه لا توجد عقوبة في القوانين العربية للشذوذ، وبيَّن كيف أثارت الحادثةُ الأمميةَ المثلية التي سعت في التحريض على مصر؛ ليكشف دورها ودور منظمات حقوق الإنسان ومعاييرها المزدوجة التي لا تلتفت إلى قضايا تعذيب الإسلاميين. وأبان مسعد أن هذا التحريض عاد بالسلب والضرر على من يزعمون الدفاع عنهم وتحريرهم؛ إذ إن تحريضهم وعنادهم قاد إلى عناد مضاد، وإلى التشهير بالشذوذ واعتباره مؤامرة إمبريالية، والدعوة إلى سن قوانين تجرمه رغم أن الشرطة لا تُعاقب على الممارسة وإنما على إبراز الهوية. وانتهى مسعد إلى أن الاممية المثلية هي التي أوجدت المثليين في أماكن لا وجود لهم فيها، وهي في الوقت نفسه تكبت الشهوات والممارسات الجنسية التي ترفض الاندماج في منظومتها الإبستمولوجية.
*** *** ***
الفصل الرابع: (آثام وجرائم وأمراض: تصنيفات شهوات الحاضر)
عالج الفصل رد فعل العالم العربي الفكري من خلال الكتابات المتعلقة بالجنس في السبعينيات والثمانينيات، وذلك لفحص الطرق التي طُرح بها التفكير الحضاري من قبل العلمانيين وخصومهم، ومن قبل الإسلاميين وخصومهم ضمن سجالات حول: الأمراض الجنسية والحضارة، والجريمة والحضارة، والإثم والحضارة…وكيف أدى هذا إلى انتشار هائل للكتب المتعلقة بالجنس واقتحامها للمرة الأولى مجال السياسة.
رأى مسعد أن الإسلاميين والأممية المثلية غفلوا عن حقيقة أن قدرا كبيرا من الخطاب الإسلاموي عن الجنس والجنسانية ليس إلا محاكاة للأصوليات المسيحية الغربية والاستشراق. فهما يريان أن الشذوذ وثيق الصلة بالحضارة؛ ترى الأممية المثلية في تحويل تلك الممارسات إلى هويات والدفاع عن حقوق المثليين الذين يعرفون أنفسهم بها علامة على الرقي الحضاري، وفي قمعها علامة على التخلف. ويرى الإسلاميون أن انتشار الشذوذ والتسامح معه علامة تدهور حضاري وأن قمعه علامة رقي.
استعرض مسعد جهد غالب هلسا في (مادة وحركة) وتحليله الطبقي للمجتمع الإسلامي في العصور الوسطى الذي اعتبر أن المجون فيه كان تعبيرا فنيا وفلسفيا عن اتجاهات الطبقة الجديدة الصاعدة، ورد ظاهرة اضطهاد المجان في العصر العباسي إلى معالنتهم. وفي المقابل عرض مسعد للرد الإسلاموي المتمثل في رؤية محمد جلال كشك في (خواطر مسلم في المسألة الجنسية) الذي بدا فيه كشك مفسرا ليبراليا للإسلام وإن اختلطت نظرته بشيء من الراديكالية. وكان كشك مشغولا بربط الشذوذ بانحلال الحضارة وأفولها. ولقد اعتمد على المصادر الغربية في جداله ورده للتصويرات الاستشراقية.
كان للطب الغربي والأصولية المسيحية تأثيرهما الكبير في الإسلاميين الجدد الذين رأوا في الإسلام علاجا شافيا من الأمراض الجنسية؛ فقد حول نبيل الطويل في كتابه: (الأمراض الجنسية) المرض الفردي إلى مرض جماعي يصيب الأمة، وهي استعارة شاعت بين المسيحيين الغربيين والعلمانيين المحافظين. وفي منتصف الثمانينيات شن الأطباء الإسلاميون حملة ضارية في تفسير الأمراض الجنسية وما يؤدي إليها بالتزامن مع ظهور الإيدز، وأطروا حجج الأصولية المسيحية ضمن الرؤية الإسلاموية للعالم حيث رأوا أن الأمراض الجنسية عقاب سماوي ناجم عن التهتك. ومن تلك الكتابات: (الأمراض الجنسية أسبابها وعلاجها) لمحمد البار الذي صار مرجعا أساسيا للإسلامين والمحافظين؛ إذ كانت مقاربته دينية تستند إلى التقارير الغربية. ومنها (قصة الإيدز) للدكتور نجيب الكيلاني الذي أدان الحركة المثلية وترويجها لأفكارها في العالم الإسلامي. وأكد مسعد أن الانشغال الهاجسي بالأمراض الجنسية عند المفكرين الإسلاميين لم يكن عصابا، وإنما كان انعكاسا لتأثرهم بالفكر الغربي في شتى الموضوعات، وكان رد فعل على رأي المستشرقين السلبي في الحضارة الإسلامية.
توسع النشر في التسعينيات مع ترجمة “تاريخ الجنسانية” لفوكو سواء على المستوى الإسلاموي أم على المستوى العلماني، واهتمت بعض دور النشر العربية في الخارج بنشر الكتب الأيروتيكية القروسطية مثل: (الروض العاطر) و(تحفة العروس). وألف إبراهيم عيسى (الجنس وعلماء الإسلام) الذي لخص فيه بعض الكتابات الأيروتيكية العربية ردا على تضييق الإسلاموية، وكانت مقاربته جدلية محضة. وممن تأثروا تأثرا شديدا بفوكو إبراهيم محمود في كتابه: (المتعة المحظورة) الذي اتفق خطابه مع خطاب الأممية المثلية.
ذهب اللبواني في (الحب والجنس عند السلفية والإمبريالية) إلى أن الثقافة الإمبريالية الجديدة قائمة على كشف الجسد وإثارة شهوات لا ترتوي، وأن الأصولية الحديثة تسعى لستر الجسد وغلق أبواب الشهوات المفتوحة. واعتبر اللبواني أن رد الأصولية على الحداثة الإمبريالية محكوم بالفشل؛ لأنه يمثل ثقافة دفاعية سلبية قصيرة النظر، وأن الثقافة الغربية الحداثية والثقافة القروسطية التي ينشدها الأصوليون غير مناسبتين للعالم العربي الحداثي. وهاجم الغذامي في (المرأة واللغة) ناشري كتب الأيروتيكا القروسطية؛ لأنها تحتقر النساء في الوقت الذي تسعى فيه المرأة لتأسيس ميثاق أنثوي.
في الثمانينيات دخل علم الجريمة في تلك السجالات، ومن الكتب التي تناولت الجنس من هذه الزاوية كتاب: (الشذوذ الجنسي وجرائم القتل) لعميد الشرطة عبد الواحد إمام، وفيه توضيح لطريقة تعامل الشرطة المصرية مع الأمر. اتسم الكتاب بالنبرة الأخلاقية التي ستُنتج فيما بعد استراتيجيات مراقبة تؤدي إلى التحرش بالمثليين. قدم إمام دراسة ميدانية تحدد أماكن المنحرفين والشواذ، ومعلومات دقيقة بشأن الجنس الدبري؛ لكنها لم تكن منهجية؛ إذ انطوت على بعض التناقضات والأخطاء.
*** *** ***
الفصل الخامس: (آداب شاذة)
في هذا الفصل استعان مسعد بالسرد الأدبي العربي الحديث الذي تناول الجنسانية على سبيل الحقيقة أو المجاز مثل: زقاق المدق والسكرية لنجيب محفوظ، وديك الجن لرئيف خوري، والعسكري الأسود ليوسف إدريس، وتلك الرائحة لصنع الله إبراهيم، وحمام الملاطيلي لإسماعيل ولي الدين، والخبز الحافي لمحمد شكري، ووقائع حارة الزعفراني لجمال الغيطاني، وبيروت 75 لغادة السمان، وأبو الرجال ليوسف إدريس، وذلك بحثا عن الرمز الكامن أو المصرح به للشهوات الجنسية وسعيا إلى معرفة كيف تحولت الممارسات غير السوية وشكلت المجاز الاجتماعي الرئيس في تصوير حالة المجتمع في التسعينيات.
استعرض مسعد زقاق المدق التي كُتبت في زمن الاستعمار والسكرية التي كتبت في العهد الناصري ليوضح من خلالهما ما طرأ على مفهوم الشهوة بين المرحلتين. ولقد طرح محفوظ في الزقاق قضية التعاون بين الاستعمار وبين مصريين في سياق جنسي يستهدف الإشارة إلى التغيرات التاريخية والتحولات المعرفية في الأعراف الجنسية التي جلبها الاستعمار؛ لكنه في السكرية طرح المثلية الجنسية كمرض لا كشذوذ اجتماعي كما في زقاق المدق؛ لأن النموذج الطبي للمثلية وقتها كان آخذا في الرسوخ.
أما عمل (ديك الجن) لرئيف خوري فقد ذهب فيه خوري إلى إمكان استئصال الممارسات الجنسية غير القويمة من حياة ديك الجن الحمصي. وتعامل مع حبه وشهوته باعتبارهما سعيا وجوديا نحو الحياة. اتخذ خوري الأخلاقيات الفيكتورية مرجعا له في مسألة الشهوة وإعادة كتابة التاريخ بعد غربلته من الشهوات والممارسات المرفوضة. وفي (الرجل الأسود) طرح إدريس الاغتصاب كجزء من التعذيب السادي الشامل للمساجين؛ ليبرز تأثيرهما في المعذَّب والمعذِّب. وانشغل صنع الله في (تلك الرائحة) بتصوير الشهوات الجنسية الذكورية، وتصوير تجربة السجن والتعذيب الذي وقع من قبل دولة ما بعد الاستعمار ودورها في خلق مواطن رافض للإنتاج والتناسل وهو ما جعله عرضة للانحلال. وتقوم رواية (حمام الملاطيلي) على مفهومي الانحلال والانحطاط اللذين كانا سببا في هزيمة 67 ونتيجة لها أيضا. أما رواية (الخبز الحافي) لمحمد شكري فقد كتبت بأسلوب المخبر المحلي الاثنوجرافي، وقد حكى فيها شكري عن تجارب جنسية متنوعة منها تجربة الاستمناء.
ثمة كتابة أنثروبولوجية عن صعيد مصر صورت المتع الجنسية واعتبرتها دربا للموت والهلاك، وكان تصويرها مثل تصوير المستشرقين للشرق بدا فيه الصعيد غير حضاري؛ منها كتابات يحيى الطاهر مثل: (الطوق والأسورة) التي بالغت في تصوير القمع الجنسي للنساء وجرائم الشرف، وهي الثيمة نفسها التي تناولها من قبل طه حسين في (دعاء الكروان) وهي ثيمة تتسم بإضافة صبغة غرائبية على فلاحي الصعيد. ومن قصص جرائم الشرف (الحب الحرام) لنورما خوري التي زعمت أن أحداثها حقيقية، وبعد بيع آلاف النسخ في الغرب اتضح أن الكاتبة أمريكية من أصل عربي لم تعش بالأردن ألبتة، وهذا لا يعني أن تلك الجرائم لا تحدث؛ لكنها أقل كثيرا من جرائم الهوى القاتلة في الغرب.
لقد استُخدمت شخصية الشاذ السلبي منذ الثمانينات رمزا للهزيمة السياسية والقومية وتأنيث الطبقة الحاكمة إضافة إلى إيحائها الأدبي بهزيمة الرجولة ذاتها مثل: (وقائع حارة الزعفراني) للغيطاني حيث كانت العنة في هذه الرواية صورة رمزية تعبر عن اغتصاب سلطة المواطنين. وفي خلفية هذا الوباء المستشري تسرد الرواية التواريخ العاطفية والجنسية لمعظم السكان، واقتصاديات الجنس والزواج الدولية السائدة في تلك المدة. وأما قصة (أبو الرجال) ليوسف إدريس فرمزيتها الجنسية تشير إلى أن عبد الناصر شبه رجل، يشتهي أن يمتطيه الفحول.
*** *** ***
الفصل السادس: (حقيقة الشهوات الأدبية)
لم يكن الانحلال في الكتابات الأدبية في منتصف الثمانينيات قد أصبح جزءا من الإطار المعرفي الغربي والتصنيف الغربي للشهوات؛ لكن سرعان ما أصبحت ثيمات الحضارة والبدائية، والحقوق الفردية الليبرالية، والانحلال بوصفه مفهوما عنصريا وجنسيا واضحة في عدد من الأعمال الأدبية، كما ستصبح الشهوة الجنسية والممارسة الشاذة المبدأ المنظم لتلك القضايا، وسوف يتواكب هذا مع صعود الأممية المثلية والحركة الإسلامية، والعولمة. ناقش الفصل أربعة أعمال أدبية جسدت ذلك التحول؛ هي: (مسك الغزال) لحنان الشيخ، ومسرحية (طقوس الإشارات والتحولات) لسعد الله ونوس، ورواية (شرف) لصنع الله إبراهيم، و(عمارة يعقوبيان) لعلاء الأسواني. هذه الاعمال كانت أكثر تأثرا بالآراء الليبرالية الغربية حول الشئون الجنسية؛ إذ لم تسع إلى تصوير الشهوات والممارسات الجنسية المعاصرة للعرب في ضوء الأعراف الغربية فحسب؛ بل وجهت الشهوات والممارسات صوب تلك الأعراف.
رواية (مسك الغزال) لحنان الشيخ رواية عن الحضارة والبدائية؛ فيها إسقاط لتصنيفات غربية على السكان الأصليين يتطابق مع الإسقاط الممنهج للمفاهيم الأنثروبولوجية الاستعمارية على البدائيين الذين يمثلون موضوعا للدراسة. وهي تتمسح بالأعراف البورجوازية الغربية وتقيس أمور الشهوة الجنسية على مقياسها. وتتجلى فيها التوصيفات الداروينية الاجتماعية والفرويدية للجنسانية السوية والشاذة للحكم على الجنسانية الصحراوية. وما تطرحه الرواية تأصيل لتصورات نمطية حول ثنائية التراث في مواجهة الحداثة من وجهة نظر كولونيالية يصبح فيها ما هو غير أوروبي مفتقرا إلى التحضر، ويصير موطنا للانحراف والشذوذ عن الأعراف المتحضرة الراسخة في أوروبا.
و(مسرحية طقوس الإشارات والتحولات) يتضح فيها تناقض ونوس؛ إذ إنها تشدد على مسعى الفردانية في مجتمع يكبتها. ولا يستقيم أن تكون الشهوة أساسا لهذا المسعى؛ لأن الشهوة اجتماعية في أصلها. إن ونوس يعتنق فكرتين متناقضتين الأولى فرويدية ترى أن الحضارة تتأسس على الكبت، والثانية ليبرالية ترى أن المجتمع ميدان يمكن للحرية الفردية أن تتحقق فيه؛ أي يرى المجتمع آلة للقمع وفي الوقت نفسه يرى أن التعبير الفردي لا يتحقق إلا داخل مجتمع، وهذا ما يمثل نقطة ضعف المسرحية على المستوى المفاهيمي.
استخدم صنع الله إبراهيم في (شرف) ثيمة الإخصاء التي تواترت في أعماله باعتبارها مجازا للتعبير عن الهزيمة. والرواية تعاملت بوضوح مع قضايا الشذوذ الجنسي ومضامينها الحضارية. وهي ترمز إلى اغتصاب مصر من قبل رأس المال العالمي والعملاء المحليين. يُلاحظ في بعض النوادر التي أوردها صنع الله تصنيفا جنسيا ثنائيا للحضارة والبربرية يُعد جزءا من الإطار المعرفي الغربي، وهو ما يبدو أن الرواية تُقرّ به وتعيد إنتاجه دون نقد خاصة فيما يتعلق بالأفارقة.
تستهدف (عمارة يعقوبيان) للأسواني إظهار الانحطاط الذي غرق فيه المجتمع المصري بسبب دولة ما بعد الاستعمار. وتتميز باختراعها الشاذ جنسيا كهوية اجتماعية تامة الأركان؛ أي صار المثلي نوعا مستقلا بذاته من الكائنات وهو ما يتفق مع أجندة الأممية المثلية. وكشف مسعد عن تلفيق الأسواني نظرية في تفسير الشذوذ الجنسي عند “حاتم” تدمج بين نظريتي الطبيعة والتنشئة. وإذا كانت شخصية الشاذ المثلي في (حمام الملاطيلي) علامة من علامات كثيرة على الانحلال والانحطاط؛ فإن العلامة الأكبر الآن وفي عمارة يعقوبيان تتمثل في ظهور مجتمع من الشواذ السلبيين يلتقون في منشآت استعمارية. إن تلك الروايات سجلت فشل الذات العربية الحديثة في الانبثاق نتيجة العنف الاستعماري والقومي ما بعد الاستعماري وظهور الذات الشاذة المنحطة بدلا منها.
*** *** ***
تعقيب:
مزية هذه الدراسة أنها صدرت عن أكاديمي علماني لا ينطلق من خلفية دينية، ويستعمل أدوات معرفية غربية في نقد الاستشراق والليبرالية. ولعل هذا ما أثار عليه كثيرا من الليبراليين العرب وبعض قادة المنظمات المثلية ودفعهم إلى مهاجمته ونقده. ومن مزاياها ثراء مادة الدراسة التي شملت بجانب الكتب الفكرية، والعلمية، والدينية، والأدبية مادة سينمائية -محلية وعالمية- لجأ إليها مسعد ليقارنها بأصولها المكتوبة.
يُلاحظ على الدراسة ارتكازها الكبير على شخصية أبي نواس وعنايتها بما دار حولها من سجال بدت حججه مكرورة في أغلب المواطن، وهو ما يُوحي بالمبالغة في تقدير تلك الشخصية وفي اتخاذها مجلى للتأثيرات الغربية والاستشراقية.
لقد اختار مسعد نماذج أدبية جيدة لفحص التأثيرات الجنسانية فيها غير أنه بدا متكاسلا في اعتماده على تلك النماذج التي عالجها من قبله “فريدريك لاجرانج” بحذافيرها في كتابه: (المثلية الجنسية الذكورية في الأدب العربي الحديث) ولو أنه جد في البحث عن نماذج حديثة من الأعمال التي تناولت المثلية الجنسية بصورة مركزية في العقود الأخيرة لكان بإمكانه أن يقفنا بدقة على التحولات الطارئة على الجنسانية في تسعينيات القرن الماضي ومطلع الألفية الثالثة، وتطوراتها في ظل ما آلت إليه دعوات الأممية المثلية. والنتاج في هذا الصدد غزير يمكن الإشارة فيه إلى أعمال الروائي المصري رؤوف مسعد التي تُعد نموذجا في الأيروتيكا العربية، خاصة روايته (إيثاكا) التي دافعت عن المثليين وارتبطت ارتباطا وثيقا بحادثة “كوين بوت” المعروفة. و(اكتشاف الشهوة) لفضيلة فاروق، و(سوق الرجال) لأحمد حميدة وغير ذلك.
تتضح الانتقائية عند مسعد في اختياره بعض الدراسات المجهولة محدودة القيمة التي لا يمكن تصور تأثيرها في المحيط العربي فضلا عن صلاحية إدراجها في سياق السجالات الجنسانية؛ فهو على سبيل المثال ينسب إلى بعض الكتب تأثيرا في السجالات التالية له دون أن يقدم معلومات إحصائية توضح الكيفية التي لمس بها هذا التأثير؛ فليس ثمة معلومات عن عدد طبعات الكتب، ولا عدد نسخها، ولا أي إشارة إلى تجليات قضاياها في الكتب التالية (انظر ص 291) وذلك لأن مسعد لم يقدم أنطولوجيا لتلك السجالات ولم يوضح أساس اختيار الكتب.
ومما يعيب مسعد توسعه في نسبة بعض التصورات الإسلاموية إلى الأصولية المسيحية الغربية، أو إلى التعاليم اليهودية والمسيحية دون مسوغ؛ من ذلك اعتباره الفكرة القائلة بأن إبادة قوم لوط كانت عقابا سماويا فكرة غربية استغلها الإنجليز والإسبان في سياق استعماري، وكأن مثل تلك الأفكار لا يصح أن تكون إسلامية أو أن تكون مما تشترك فيه الأديان السماوية وإن استغلتها الإمبريالية استغلالا دنيويا نفعيا (انظر ص 305).
(المصدر: مركز نماء)