هيكل سليمان.. صراع الدين والتاريخ والسياسة
بقلم محمد عبد العاطي
خلال الأيام الماضية استطاعت دائرة الأوقاف الفلسطينية فتح “باب الرحمة” في المسجد الأقصى مما أثار حفيظة المتدينين اليهود فدعا “اتحاد منظمات الهيكل اليهودي” الذي يأخذ على عاتقه إعادة بناء الهيكل مكان المسجد الأقصى دعا أنصاره إلى تنظيم أنفسهم للقيام باقتحام جماعي للمسجد والسيطرة على “باب الرحمة” وتحويله إلى كنيس، الأمر الذي ينذر بمزيد من التوتر والصدام خلال الفترة المقبلة.
فما قصة هيكل سليمان الذي تتحد تلك المنظمات من أجل هدم المسجد الأقصى وإعادة بنائه على أنقاضه؟ وما الروايات التاريخية بشأنه؟
كتبتُ شيئا عن هذا الموضوع عام 2001 وراجعته اليوم فوجدت معلوماته الأساسية لا تزال صالحة للتداول والاستفادة.
الهيكل
الهيكل عند اليهود هو بيت الإله ومكان العبادة المقدس، وطوال الفترة بين عهد النبي موسى إلى عهد النبي سليمان عليهما السلام لم يكن لليهود مكان عبادة مقدس ثابت. وكانت لوحات الوصايا العشر توضع في تابوت أطلق عليه اسم “تابوت العهد” وخصصت له خيمة عرفت بـ “خيمة الاجتماع” ترحل مع اليهود أينما رحلوا. وقد مرت قصة الهيكل بعدة أطوار عبر التاريخ منذ بناه النبي سليمان عليه السلام والذي امتد حكمه بين عامي 965 و928 ق.م.
في عهد سليمان
بنى نبي الله سليمان بناء أطلق عليه اسم “الهيكل” لوضع التابوت الذي يحتوي على الوصايا العشر فيه، غير أن هذا البناء تعرض للتدمير على يد القائد البابلي نبوخذ نصَّر أثناء غزوه لأورشليم (القدس) عام 586 ق.م.
في عهد الفرس
وبعد أن استولى الفرس على سوريا وفلسطين سمح الملك قورش عام 538 ق.م لمن أراد من الأسرى اليهود الرجوع إلى أورشليم وأمر بإعادة بناء الهيكل.
في عهد الإغريق
ظلت فلسطين تحت الحكم الفارسي إلى أن فتحها الإسكندر المقدوني عام 332 ق.م، وتأرجحت السيطرة على أورشليم في عهد خلفائه بين البطالمة والسلوقيين، وقد تأثر السكان في العهد الهيلنستي بالحضارة الإغريقية، وقام الملك السلوقي أنطيخوس الرابع حوالي عام 165 ق.م بتدمير الهيكل وأرغم اليهود على اعتناق الديانة الوثنية اليونانية بعدما علم بتآمرهم على حكمه، وكانت نتيجة ذلك أن اندلعت ثورة المكابيين ونجح اليهود في نيل الاستقلال بأورشليم تحت حكم الحاسمونيين من سنة 135 ق.م إلى سنة 76 ق.م.
في العهد الروماني
بعد فترة من الفوضى استولى الرومان على سوريا وفلسطين ودخل القائد الروماني “بومبي” أورشليم سنة 63 ق.م وسمح لليهود بشيء من الحكم الذاتي، ونصبوا عام 37 ق.م “هيرودوس الآدومي” الذي اعتنق اليهودية ملكا على الجليل وبلاد يهوذا، وظل يحكمها باسم الرومان حتى السنة الرابعة الميلادية.
وفي عهد الإمبراطور نيرون بدأت ثورة اليهود على الرومان فقام القائد “تيتوس” عام 70م باحتلال أورشليم وحرق الهيكل وقتل عددا من اليهود.
وفي عام 135 ثار اليهود مرة أخرى في عهد الإمبراطور هادريانوس وطالبوا بإعادة بناء الهيكل إلا أنه أخمد تلك الثورة في العام نفسه بعد أن خرب مدينة أورشليم وأسس مكانها مستعمرة رومانية يحرم على اليهود دخولها أطلق عليها اسم “إيليا كابيتولينا”.
وبعدما أعتنق الإمبراطور قسطنطين المسيحية (330 – 683) أعاد اسم أورشليم وقامت والدته هيلانه ببناء الكنائس فيها، غير أن اسم إيلياء ظل متداولا بين الناس إلى أن فتحها المسلمون وتسلمها الخليفة عمر بن الخطاب سنة 15 هـ/ 636م وأعطى أهلها الأمان.
إحياء قصة الهيكل
ولم يثر اليهود موضوع البحث عن هيكل سليمان وإعادة بنائه إلا في القرن التاسع عشر في طيات البحث عن جذور تاريخية لهم بفلسطين تمهيدا لإصدار وعد بلفور الشهير والبدء في إقامة دولة قومية على الأراضي الفلسطينية، فظهرت كتابات يهودية في كبريات الصحف الغربية تدعو إلى إعادة بناء الهيكل في فلسطين. ثم كانت أولى الخطوات العملية في هذا الاتجاه يوم 20/3/1918 حينما وصلت بعثة يهودية بقيادة حاييم وايزمن إلى القدس وقدمت طلبا إلى الحاكم العسكري البريطاني آنذاك الجنرال “ستورز” تطالبه بإنشاء جامعة عبرية في القدس وتسلّم حائط البراق (المبكى) في الحرم القدسي، إضافة إلى مشروع لتملك أراض في المدينة المقدسة.
ثورة البراق (1929)
وبعدما عرفت الحركة الوطنية الفلسطينية بتلك المطالب اندلعت ثورة شعبية عارمة عام 1929، ففي ذلك العام خرجت مظاهرة عنيفة اشتبك فيها المسلمون مع مجموعة من الصهاينة أرادوا اقتحام المسجد الأقصى وإقامة احتفالات دينية عند حائط البراق، وقد أسفرت تلك المظاهرات عن إنشاء جمعية “حراسة المسجد الأقصى” التي انتشرت فروعها في معظم المدن الفلسطينية، واشترك المسيحيون مع قادة الحركة الوطنية للدفاع عن الأراضي الفلسطينية، فانتخبت في تلك الفترة اللجنة التنفيذية للمؤتمر الإسلامي المسيحي التي قامت بعدة زيارات خارجية للدول العربية وبعض العواصم الأوروبية تحذر من الخطر المحدق بالمسجد الأقصى ومحاولات اليهود بناء هيكل لهم على أنقاضه.
نص تقرير عصبة الأمم
ونتيجة لتلك الاضطرابات والتحركات السياسية التي صاحبتها شكلت عصبة الأمم لجنة دولية للتحقيق في ملكية الحائط، وأعدت تقريرها الذي نشر عام 1930، وجاء فيه ما نصه: “تصرح اللجنة استنادًا إلى التحقيق الذي أجرته بأن ملكية الحائط وحق التصرف فيه وما جاوره من الأماكن المبحوث عنها في هذا التقرير، عائد للمسلمين، ذلك أن الحائط نفسه ملك المسلمين لكونه جزءاً لا يتجزأ من الحرم الشريف.. والرصيف الكائن عند الحائط حيث يقيم اليهود صلواتهم، هو أيضًا ملك للمسلمين”.
حريق المسجد الأقصى
وقد أتى حريق المسجد الأقصى عام 1969 في إطار المحاولات اليهودية لهدمه وإقامة هيكل سليمان مكانه، ففي يوم 21/8/1969 قطعت سلطات الاحتلال الإسرائيلية المياه عن منطقة الحرم ومنعت المواطنين العرب من الاقتراب من ساحاته، في الوقت الذي حاول فيه أحد المتطرفين اليهود إحراق المسجد الأقصى.
وقد اندلعت النيران بالفعل وكادت تأتي على قبة المسجد لولا استماتة المسلمين والمسيحيين في عمليات الإطفاء التي تمت رغماً عن السلطات الإسرائيلية، ولكن بعدما أتى الحريق على منبر صلاح الدين واشتعلت النيران في سطح المسجد الجنوبي وسقف ثلاثة أروقة.
وادعت إسرائيل أن الحريق تم بفعل تماس كهربائي، وبعدما أثبت المهندسون العرب أنه تم بفعل فاعل، عادت إسرائيل وادعت أن شاباً أسترالياً هو المسؤول عن الحريق وأنها ستقدمه للمحاكمة، ولم يمض وقت طويل حتى أذاعت بأن هذا الشاب معتوه ثم أطلقت سراحه.
واستنكرت معظم دول العالم هذا الحريق، واجتمع مجلس الأمن وأصدر قراره رقم 271 لسنة 1969 بأغلبية أحد عشر صوتاً وامتناع أربع دول عن التصويت من بينها الولايات المتحدة الأميركية، والذي أدان إسرائيل ودعاها إلى إلغاء جميع التدابير التي من شأنها تغيير وضع القدس. وجاء في القرار أن “مجلس الأمن يعبر عن حزنه للضرر البالغ الذي ألحقه الحريق بالمسجد الأقصى يوم 21/8/1969 تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي، ويدرك الخسارة التي لحقت بالثقافة الإنسانية نتيجة لهذا الضرر”.
وذكر بيان مجلس الأمن الدولي بقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة الخاصة ببطلان إجراءات إسرائيل التي تؤثر في وضع مدينة القدس، وبتأكيد مبدأ عدم قبول الاستيلاء على الأراضي بالغزو العسكري، ونص على أن “أي تدمير أو تدنيس للأماكن المقدسة أو المباني أو المواقع الدينية في القدس، أو أي تشجيع أو تواطؤ للقيام بعمل كهذا يمكن أن يهدد بشدة الأمن والسلام الدوليين”.
سيناريوهات الهدم
تشكلت أكثر من 15 منظمة وجماعة دينية متطرفة داخل إسرائيل وخارجها في اتحاد بهدف هدم المسجد الأقصى وبناء هيكل سليمان على أنقاضه، وانقسمت هذه المنظمات في الوسائل المتبعة لتحقيق هذا الغرض إلى أربعة أقسام:
1- الأعمدة العشر
أولى النظريات تدعو إلى بناء عشرة أعمدة بعدد الوصايا العشر قرب الحائط الغربي من المسجد الأقصى، بحيث تكون الأعمدة على ارتفاع ساحة المسجد حالياً، ومن ثم يقام عليها “الهيكل الثالث”، ويربط هذا المبنى بما يعتقدون بأنه عمود مقدس يوجد حالياً كما يقولون في ساحة قبة الصخرة المشرفة.
2- الشكل العمودي
أما النظرية الثانية وهي شبيهة بسابقتها فتطالب بإقامة الهيكل الثالث قرب الحائط الغربي من المسجد الأقصى بشكل عمودي بحيث يصبح الهيكل أعلى من المسجد الأقصى، ويُربط تلقائياً مع ساحة المسجد من الداخل.
3- الترانسفير العمراني
وتتبنى النظرية الثالثة فكرة ما يسمى بـ “الترانسفير العمراني” ومفادها حفر مقطع التفافي حول مسجد قبة الصخرة بعمق كبير جداً ونقل المسجد كما هو خارج القدس وإقامة الهيكل.
4- الهدم الكامل
أما آخر النظريات الأربع فتدعو إلى هدم المسجد الأقصى برمته وإنشاء الهيكل على أنقاضه.
جماعة أمناء الهيكل
من أهم الجماعات الدينية الإسرائيلية المتطرفة التي تعمل على إعادة بناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى جماعة تطلق على نفسها اسم “أمناء جبل الهيكل”. وقد بدأت هذه الجماعة عملها منذ عام 1967 بالحفر تحت البيوت والمدارس والمساجد العربية المحيطة بالحرم بحجة البحث عن هيكل سليمان، ثم امتدت في عام 1968 تحت المسجد الأقصى نفسه، فحفرت نفقاً عميقاً وطويلاً تحت الحرم وأنشأت بداخله كنيساً يهودياً.
وتقوم هذه الجماعة بتصميم نماذج للهيكل والترويج لهذه النماذج بين اليهود والمسيحيين الأصوليين الذين يعتبرون قيام إسرائيل عام 1948 تأكيداً لنبوءات التوراة حول نهاية العالم وإحلال مملكة جديدة مع المجيء الثاني للمسيح بعد عودة اليهود إلى الأرض المقدسة، وينتظر هؤلاء المسيحيون – وفقا لتصوراتهم – اكتمال خطة الرب بعد تأسيس إسرائيل.
ويوجد في الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال عدة ملايين يؤمنون بهذه العقيدة من بينهم رؤساء ووزراء سابقين في الإدارة الأمريكية، ويعتبرون مصدرا مهما للدعم السياسي والمالي لنشاطات هذه الجماعة.
وقد أنشأت مدرستين تلموديتين بالقرب من حائط البراق لتدريب مائتي طالب على شعائر العبادة القربانية وهي الشعائر الخاصة بالهيكل، وإحدى هذه المدارس “معهد جبل الهيكل” (يشيفات هبايت) وظيفتها الأساسية التعجيل ببناء الهيكل.
الهيكل بينن رؤيتين
1- المنظور اليهودي الصهيوني
حاولت الحركة الصهيونية منذ القرن التاسع عشر استخراج قصة الهيكل من طيات التاريخ القديم والاتكاء عليها كجزء من أحقيتهم في إقامة وطن قومي لهم في فلسطين، معتبرين أن الكيان الساسي الذي أقامه نبيا الله داود وسليمان والذي استمر لمدة 70 عاما وهي المدة التي تولى فيها هذان النبيان الحكم من سنة 1000 ق.م حتى سنة 928 ق.م تخول لهم حقا تاريخيا في فلسطين، ويؤكدون بأن مكان الهيكل الذي دمر عام 70 هو نفسه المكان الذي بني فيه المسجد الأقصى.
2- المنظور العربي الإسلامي
في حين يرفض العرب والمسلمون ذلك، معتبرين أن فلسطين بقيت عربية إسلامية منذ الفتح الإسلامي لها في القرن السابع الميلادي حتى الآن، والفترة القصيرة التي كوَّن فيها اليهود مملكتهم لا تخول لهم سندا تاريخا للمطالبة بفلسطين.
ويقول المسلمون إن المسجد الأقصى قد بُني قبل ظهور سليمان بأكثر من ألف عام وبقي منذ ذلك التاريخ حتى اليوم، وأن الذي بناه هو نبي من أنبياء الله سواء كان آدم أو إبراهيم أو يعقوب والذي بنى الهيكل هو النبي سليمان وليس من المقبول عقلا أن يأتي نبي ليهدم مكانا بناه نبي قبله ليشيد على أنقاضه هيكلا.
ومن ذلك أيضا قولهم إن بناء الهيكل وهدمه قد تم عدة مرات، لكن لم ترد إشارة واحدة إلي هدم المسجد الأقصى.، مما يؤكد أن مكان الهيكل ليس محل المسجد الأقصى.
ويستدلون كذلك بما قامت سلطات الاحتلال الإسرائيلية من حفر في مناطق متعددة أسفل الحرم القدسي منذ 1967 حتي الآن، وعدم اكتشافها أي أثر يدل على أن هذه المكان كان فيه في يوم من الأيام هيكلا، على أن مكان الهيكل ليس هو مكان المسجد الأقصى.
فكرة اقتسام الحرم
ظهرت في الآونة الأخيرة فكرة اقتسام الحرم القدسي الشريف والتي خرجت من تصور مفاده أن الأديان الثلاثة لها حقوق متساوية في القدس، وقد عبر عن تلك الفكرة بوضوح رئيس المجلس البابوي للحوار مع الأديان الكاردينال البريطاني إدوارد كاسيدي حينما قال “إن القدس عاصمة إسرائيل، وهذا أمر مهم جدًّا لا ريب، لكنها مهمة أيضًا بالنسبة للمسلمين الذين يعيشون فيها، وطالب بأن يكون لليهود والفلسطينيين والمسيحيين مكان في المدينة”.
ولاقت هذه الفكرة تأييدا كبيرا من قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي حتى من غير المتدينين منهم، ومن هؤلاء على سبيل المثال رئيس بلدية القدس إيهود أولمرت (قبل أن يصبح فيما بعد رئيسا للوزراء) الذي رفض تعريف الحرم بأنه موقع إسلامي، ونقلت عنه صحيفة هآرتس قوله “إن الحرم ليس موقعًا إسلاميًّا.. إن جزءاً منه فقط مرتبط بالإسلام، الحرم هو قبل كل شيء موقع يهودي واسمه يدل على ذلك: جبل الهيكل – بيت المقدس – المقدس اليهودي”.
الخاتمة
ولأن موضوع إعادة بناء الهيكل، واختيار المكان المفترض إعادة بنائه فيه، والجدل فيما إن كان من الواجب بناءه مكان المسجد الأقصى أم بجواره، لأن ذلك كله لم يُحسم رغم كل هذه السنين فيبدو أن الموضوع بأكمله بحاجة إلى مقاربة من منظور جديد تأخذ بعين الاعتبار رغبة كل طرف في أن يكون له مكانا مقدسا للعبادة، يشعر معه بارتباط تاريخي وروحي، لكن لا يكون على حساب الطرف الآخر، لأن الله الذي سيعبده هذا الطرف وذاك في نهاية الأمر لا يرضى لعباده الظلم، ولا يريد أن تُسال الدماء من أجل أن يقف العابدون بين يديه يطلبون رحمته ويرجون غفرانه.
(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)