ما درجة قوة حُجيَّة انقلاب رمز فكري على قناعاته القديمة، وتراجعه عن مفاهيم أفنى حياته في التبشير بها والدعوة إليها، ثم قيامه وهو بكامل وعيه بنقض الأسس العقلية لبنائه المعرفي السابق؟
في أي مراتب الحجج المنطقية نضع مثل هذا التحول الفكري؟
فهل نحن أمام حجة برهانية أم جدلية أم خطابية أم شعورية أم مغالطية (سفسطائية) على حسب تقسيم المناطقة؟
أبدأ بهذه التساؤلات بمناسبة صدور وترجمة كتاب (هناك إله) الذي طال ترقبه، وصدر مترجما بشكل متكامل هذا العام، لاعتبارات عدة أولها موقع هذه الشخصية، التي نحن بصدد الكلام عنها (أنتوني فلو) مؤلف الكتاب، وثانيها ما ترتب على قناعاته الجديدة المُعلنة من ضجة إعلامية يهمني منها ردود أفعال مُعسْكري (المؤمنين) و(الملحدين)، وعلو صوت العاطفة على العقل عند ناشطين من كلا الفريقين والتي تجلت في ثنائية (التهويل) من المؤمنين و(التهوين) من المُلحدين للحدث ذاته، لتكشف تأثير نزعة التحيز المسبقة لدى الإنسان بمن فيهم النُخب من كل الاتجاهات على تفاوت بين الأفراد.
وهي قضية متجددة تبرز من الكمون للعلن كلما أعلن رمز فعَّال عن مراجعته لقناعاته وتراجعه عنها أو تمرده على موروثه الفكري الإيماني أو المادي أو الحضاري.
ففي عالمنا العربي يبرز اسم الشيخ عبدالله القصيمي مثلاً لاحتفال الملاحدة بردته العنيفة عن التوحيد التي شحن بها كتبه الناقدة الساخرة بالرب والدين؟، ليحتفي المؤمنون في المقابل بعودة الدكتور مصطفى محمود يرحمه الله إلى الإيمان بعد شكوكه الدينية المُستفزة، وبما قدمه لنصرة الدين في برنامجه الشهير العلم والإيمان في قرابة 400 حلقة ومؤلفاته ذائعة الشيوع.
وكما زغرد أهل الإيمان بعودة الفيزيائي بول ديفز الحائز جائزة تمبلتون إلى الإيمان بالله والمصمم الذكي للكون بعد إلحاده، رقص الملاحدة طرباً بإعلان الفيزيائي ستيفن هوكينج باستغناء الكون عن الخالق في كتابه التصميم العظيم!!
ولا أدري كيف سيتلقى كلا المعسكرين المتناقضين النتيجة النهائية لقناعة وتصريح ستيف جوبز في الإله التي جاءت في ختام كتاب وولتر إيزاكسون عن حياة جوبز ونصها:
(احتمالية الإيمان بالله بالنسبة لي خمسين خمسين…) !!
بعد هذه التساؤلات أعلق بإيجاز مبيناً خلل التفكير والتعبير في التعاطي مع هذا التجاذب من خلال جدلية (النص والشخص) على شكل نقاط:
• في الوقت الذي ينعى فيه الملاحدة على المؤمنين أنهم اتخذوا من رجوع أنتوني فلو (الشخص) عن الإلحاد حجة لهم، مهولين من شأنه، فإنهم مارسوا المنطق ذاته بطريقة عكسية وعلى رأسهم ريتشارد داوكينز، فبدلاً من أن يناقش (النص) وأدلة أنتوني فلو قفز إلى التهوين من (شخصه) معللاً رجوعه عن إلحاده بكبر سنه وجلبه لأضواء الإعلام!!
لذا جاء رد فلو في كتابه على هذه الاتهامات صاعقاً لداوكينز ومريديه.
فماذا يسمي الملاحدة موقف داوكينز من أنتوني فلو دون اطلاعه على أدلته؟
• اعترض البعض على أنتوني فلو بأنه مختص بالفلسفة فكيف يُقحم نفسه فيناقش أدلة البيولوجيين والفلكيين والفيزيائيين في كتابه؟!
وهذا اعتراض فيه مغالطة تتكرر بصور متعددة يوردها المحتجون على الذين يردون إلحاد علماء الطبيعة كستيفن هوكينج ولورانس كراوس.
والجواب أن الاعتراض ليس على تفاصيل علومهم البحتة، وإنما على الاستنتاجات الفلسفية المغلوطة المستندة إلى تلك العلوم.
ثم إن المثقفين من كل الاتجاهات يستشهدون بالنظريات العلمية الكبرى ذات الأثر في نظرية المعرفة وموضوعاتها كقوانين نيوتن للحركة ونسبية آينشتاين العامة والخاصة، ومبدأ اللاحتمية لهيزنبرغ وفيزياء الكم لماكس بلانك وميكانيكا الموجات لشرودنجر ونظرية الانفجار الكبير وغيرها من حيث الفكرة الكلية للنظرية لا من باب الدرس التفصيلي التعليمي.
• الباحث الهازل والمتحيز يطوي أدلة خصمه (النص) أو يحيطها بحجاب من الغموض أو التجاهل التام مركزاً على (الشخص) بينما الجادون والموضوعيون في قراءة أفكار خصومهم يقرون بوجاهتها وقوتها وبعد مناقشتها يحددون موقفهم منها.
وهذا ما فعله أنتوني فلو وهو ما ميزه في بحثه عن الكثيرين، وهنا تبرز أهمية صلة (شخصه) بـ (نصه) فنحن لسنا أمام مفكر تراجع فحسب، وإنما مع إرادة صادق في البحث عن الحقيقة وجهد متواصل في مراجعة وغربلة المفاهيم ومحاكمتها امتدت عقوداً من الزمن لذا كان الدكتور عمرو شريف موفقاً عندما عنون دراسته لكتاب فلو بـ (رحلة عقل) محللاً التجربة المكتنزة بالمعارف والقواعد والنتائج والشجاعة الأدبية في نقد الذات علناً.
• استثمار ردود الخصوم إحدى سمات هذا المفكر حيث إنه يقرأ ردود ناقدي فكره قراءة من يبحث عن البرهان، ويفتش عن جوانب الضعف في أدلته ومن ثم يصحح خطأه، وهذا ما طور رؤيته وأنضجها بخلاف رفاق دربه من الملاحدة الذين وصفهم فلو بالدوغمائيين من المؤدلجين وقاصري التفكير.
• ولم يكتفِ فلو بالرجوع إلى المراجع العلمية في بحوثة وإنما تواصل مع أهل الاختصاص لفحص أطروحاته كما جاء في شهادته المتلفزة ثم أكد ذلك في كتابه ومنهم جيرولد شرويدر وجون هالدن.
• ومن مهمات المؤثرات في مراجعاته الفكرية ما صرح به في القسم الثاني من كتابه من أن الاكتشافات العلمية جعلته كملحد يشعر بالحرج من إلحاده.
وبالمقارنة مع غيره فإن صدمتهم برجوعه للحق كصدمتهم بحقائق العلم المناقضة لقناعاتهم التي ألجأتهم لتبني الخرافة هرباً من الحقيقة، ولعل ريتشارد داوكينز نموذج جاهز لكل من استمع إلى إجابته الأسطورية عن سؤال أصل نشأة الحياة ومصدرها !!
• (حيثما قادك الدليل فاتبعه) هذا المبدأ الذي اتخذه أنتوني فلو شعاراً في حياته وبحثه عن الحقيقة هو الذي ارتقى بمفاهيمه وجعلته يحاكم قناعاته ابتداءً من أسئلة البدايات الوجودية ومشكلة الشرور والآلام في الكون ونظرته الجديدة للعلم وموقف العقل من مصدر وتشغيل وتنسيق (المكون المعرفي)؟ في الوجود (القوانين الضابطة والمتناغمة والمتكاملة والمترابطة) وذات الهدف النهائي؟
• ليس صحيحاً ولا لائقاً بالباحثين المختلفين حول حقيقة معينة أن ينجروا في حواراتهم إلى ثنائية (التهويل) و(التهوين) كما تعاطى الكثير مع خبر تحول أنتوني فلو الفكري فـ (النص) مقدم على (الشخص) لكن من ناحية أخرى لا يمكن فصل النص عن مصدره لما له من ارتباط ذي أبعاد تلقي بظلالها على (النص) وقد ألمحنا لشيء من ذلك.
ومع هذا فأنتوني فلو كما ورد في الكتاب – المطبوع في القرن الماضي قبل إيمان فلو- (ملحدون محدثون ومعاصرون) للدكتور رمسيس (إذا كان برتراند راسل وصديقه الفريد أير من أبرز من هاجموا الدين قبل الحرب العالمية الثانية، فإن أنتوني فلو يعد واحداً من أهم منتقدي الدين في الفترة التي أعقبت هذه الحرب).
ونختم بالإشارة للسؤال الذي بدأنا به المقال عن مدى قوة وحجية تراجع الرمز عن فكره في تأكيد صواب رأينا وبطلان رأي الخصوم.
الجواب تقرره أنت بعد قراءة (النص) الذي بين يديك ألا وهو كتاب (هناك إله).
(المصدر: جريدة الرأي)