هل ينجح قوميو وإسلاميو تونس في تجاوز خلافات الماضي؟
إعداد الحسين بن عمر
لعقود ثلاثة، لم تفلح مناقشات الندوة الفكرية التي نظّمها مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت سنة 1989، ولا مخرجات المؤتمر القومي الإسلامي الأوّل لسنة 1994، في إذابة خمائر الصراع بين القوميين والإسلاميين وترسباته، التي انبرت منذ بداية خمسينيات القرن الماضي، سنوات مصر عبد الناصر.
ونحن على أبواب عشرية ثامنة من تاريخ الصراع المدمّر، لم يعد مجديا البحث في ماهيّة “السّراب” التي اقتتل فيها التياران القومي والإسلامي سواء كذبت “البسوس” أو غالى كليب التغلبي، فقد تضيع الموضوعيّة في ضجّة الإديولوجيا، بيد أنّ تفكيك حقول الألغام الفكرية، التي لا تزال مزروعة في طريق بناء الكتلة التاريخيّة القرامشية التي تبنّاها ونظر لها المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري ومركز دراسات الوحدة العربية، قد يتطلّب البحث في المختلف وتشريحه على طاولة النقد البنّاء المترفّع عن التشبيك الحزبي أو الانتماء الفكري.
في تونس، التي عرفت تجربة متقدّمة من العمل المشترك، بين شخصيات سياسية وحقوقية من مشارب إيديولوجية وفكريّة مختلفة، من خلال ائتلاف هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات سنة 2005 والتي ضمّت قوميين وإسلاميين ويساريين، اتّحدت ضدّ دكتاتورية نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، يبدو التياران القومي والإسلامي مدعوان اليوم، وبإلحاح شديد، إلى تكثيف الجهود من أجل رتق الفتق الكبير وتضميد الجراح الغائرة التي خلفتها رياح التغيير الديمقراطي منذ الرابع عشر من كانون ثاني (يناير) 2011، خاصّة وأنّ البلد يعرف حالة طليعيّة في نجاح التجربة الديمقراطية الناشئة والتي تدعّمت بالانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة، عكس ما تعيشه بقية المنطقة العربية من حالة مخاض و”حمل ديمقراطي” متعثر.
تجدّد المطالبة ببناء كتلة تاريخية، يشكل التياران القومي والإسلامي وتدا خيمتها، فرضتها نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة المنجزة بتاريخ 6 تشرين أول (أكتوبر) 2019، والتي منحت فيها الحشود الناخبة أصواتها لحركة “النهضة” الإسلامية وحركة الشعب القومية، وإن بنسب متباينة، وهو ما دفع ببعض المراقبين لاعتبار ذلك فرصة مواتية لتمثل الوعي الثوري والتقاط اللحظة التاريخيّة والاندراج في سياقاتها، والبدء في تشكيل حكومة وطنية ترتقي خارطة طريقها إلى مستوى إرساء نظام واقتصاد وطنيين ببرامج ومتطلبات المرحلة، علّها تكون ترياقا لصراع فكري وسياسي مدمّر للأمة العربيّة ومجال التقاء موضوعي لمقاومة منحدر استلاب الوعي المعولم.
يجتهد التقرير التالي، الذي أعده خصيصا لـ “عربي21” الصحفي والإعلامي التونسي الحسين بن عمر، في تعداد المطبّات الفكرية والسياسية المعيقة لبناء كتلة تاريخية حاكمة تجمع الإسلاميين بالقوميين في تونس، وتفسير القسمة الضيزى التي تكاد تُموقع الإسلاميين على مسافة هي أقرب للقوى الليبراليّة ذات الخلفية البورقيبّة، المتمثلة في حزبي “تحيا تونس” و”قلب تونس”، منها للقوميين، وتضع الأخيرين، موضوعيا، في صفّ الحزب الدستوري الحر، وريث حزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل، والذي يسميه البعض باليمين المتطرف الجديد لدعوته المتواصلة لاستئصال الإسلاميين من أي تمثيل حكومي أو وجود سياسي.
فكرة الكتلة التاريخية والمستجدات السياسية
يؤكد منير السعيداني، أستاذ محاضر في علم الاجتماع بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس، في تصريح لـ “عربي21”، على أنّ فكرة بناء كتلة تاريخية بين التيارين القومي والإسلامي في تونس الجديدة تبقى بعيدة المنال في التاريخ وأنّ تجديدها وإعادة بنائها في السياق التونسي الحديث تتطلب جهدا كبيرا، مشيرا في الآن نفسه إلى أنّ الحديث عن إمكانيّة بناء هذه الكتلة، بالصورة التي نادى بها المفكر المغربي محمد عابد الجابري، يفتقد للدقة والعمق المطلوبين، مرجعا ذلك إلى كون خميرة الفكرة قد تمت في سياق قديم مقارنة بالمستجدات الراهنة.
ويضيف منير السعيداني: “إن الهدف الأساسي للمؤتمر القومي الاسلامي، بداية تسعينيات القرن الماضي، كان تقريب الرؤى بين القوميين والإسلام السياسي، بالأساس المكون الإخواني مع جناح شيعي، وأنّ تلك اللبنة ما كان لها أن تختمر لولا نشأتها في لبنان، حيث كانت توجد أرضيّة فكرية ملائمة وروابط شعبيّة لا تتوفر خارجه، فضلا عن وجود قيادات طليعية مؤمنة بالفكرة مثل معين بشور ومنير شفيق، معتبرا أنّ وجود راشد الغنوشي ضمن قيادة المؤتمر وعدم انعكاس ذلك على حركته إمّا على مستوى الأطروحات أو البرامج السياسية دليل قاطع على أنّ فكرة العمل المشترك مع القوميين لم يتوفر لها بعد السياق العام الملائم لتشكل كتلة تاريخية على النحو الذي قعّد له المؤتمر القومي الإسلامي”.
إعادة إنتاج الصراعات الإيديولوجية القديمة
من العوائق الكبيرة التي تقف حجرة عثرة في وجه محاولات التقريب المحتشمة بين القوميين والإسلاميين، هو ما يسميه منير السعيداني بتوارث الأديولوجيات القديمة وإعادة إنتاجها في سياق تاريخي جديد، ومظاهر ذلك، وفق رأيه، هو سلوك الأحزاب والقوى السياسيّة التي تهرع إلى الصراع الإخواني الناصري كلّما طرأ مستجد سياسي خاص بتونس، فيكون ذلك الصراع الأيديولوجي القديم مؤطّرا جديدا لصراع متوالد وإن بوجوه مختلفة، ويكون بذلك السلوك السياسي عند كلا الطرفين القومي أو الإسلامي مجرد باحث عن مسوغات استدامة الصراع القديم أكثر منه مواراة لأخاديد الصراع القديم.
يرجع رياض الشعيبي، كاتب وباحث في الفلسفة، في تصريح لـ “عربي21”، تواصل النزاع بين القوميين والإسلاميين إلى ثقل الموروث التاريخي وما أنتجه من ردود أفعال ميكانيكية يواجه بها الإسلاميون القوميين الذين قمعوهم في كل الأقطار العربية التي حكموا فيها؛ وبالمقابل ما تعتبره العائلة العروبية من خيانات الإسلاميين لهم.
وأضاف: “إن استحضار كل ثقل الخصومة التاريخية قد ألقى بظلاله على العلاقة بين الطرفين منذ الاحتكاك الأول قبل الثورة وبعدها، لذلك لم يستطع أي طرف التحرر من هذه العداوة التاريخية”.
وينوّه الشعيبي إلى أنّ تفجر العداوة الجديدة بين القوميين والإسلاميين هي نتاج أوضاع خارجة عن النطاق القطري التونسي، على غرار ما حصل في ليبيا أو سوريا أو اليمن أو حتى مصر والعراق، مضيفا بالقول: “إنّ دول المنطقة العربية قبل اندلاع الثورات الأخيرة تقبع تحت حكم أنظمة تعود جذورها الفكرية والتاريخية للعائلة العروبية في حين كان الإسلاميون قوة الثورة الصاعدة يمثلون الضحية الابرز المنتفضة ضد هذه الأنظمة”.
في ذات السياق، يؤكد السعيداني على أن مضمون فضاءات التواصل الإجتماعي ومقدار العنف الرمزي الذي تحتويه دليل بيّن على استثمار الطرفين، وخاصة الإسلاميين، في الخصومات القديمة وإعادة توسيعها، مذكّرا بأنّ الصراع القديم قد تم على صعد مختلفة وفي ساحات مختلفة منها الساحة الطلابية والساحة النقابية والساحة الصحفية والساحة السياسة العامة، وهو ما يجعل في عمليات استعادة الصراع القديم تثبيت لمواقع جديدة، فيصبح الصراع إذّاك مضاعفا أي لا يغدو مقتصرا على الأطروحات والمواريث الفكرية القديمة بل أيضا حول مواقع النفوذ ومواقع السيطرة على الحركات السياسية وعلى الحركات الاجتماعية والنقابية.
غلبة الهم البراغماتي على مبدأ الفكرة
يخلص منير السعيداني إلى أنّ تأطير الصراع بمخلفات الصراع الإخواني الناصري يعسّر، ظرفيا على الأقل، إمكانيّة التقارب بين القوميين والإسلاميين طالما أنّ الهم العملي البراغماتي لتحقيق المصالح الآنية هو الطاغي حاليا على السلوك السياسي لكلا الطرفين، فحركة النهضة الإسلامية تتحدّث عن ائتلاف حكومي وتبحث عن شركاء حكم أكثر منه مضي في تنزيل فكرة الكتلة التاريخيّة المنشودة، وفي الآن نفسه تمارس حركة الشعب مزيدا من الضغط بهدف تحصيل أكثر ما يمكن من المكاسب السياسية مستغلّة وضعيّة “النهضة” المتراوحة بين القوة والاقتدار وبين الضعف والحاجة إلى الآخرين.
القوميون في تونس ومناصرة الفاشية العسكرية العربية
يعتبر الفيلسوف أبو يعرب المرزوقي، في تصريح لـ “عربي21”، أن تكوين كتلة تاريخية، وبالعودة إلى منبت الفكرة القرامشيّة، هو تكوين ثقافة تغيير موجهة إلى أحزاب أو شرائح اجتماعية تستفيد من تغيير الوضع الراهن لا ديمومته، وعليه فإنّ الكتلة التاريخية المنشودة في تونس يفترض فيها أن تجمع الأحزاب المؤمنة بالتغيير الديمقراطي الذي تعيشه المنطقة العربية منذ الرابع عشر من كانون ثاني (يناير) 2011.
وقال: “إن توليد الكتلة التاريخية بين الإسلاميين والقوميين يصطدم عمليا بوقوف الأخيرين إلى جانب القوى القديمة في المنطقة، ذلك أن مساند الأنظمة الديكتاتورية القديمة في كل من مصر وسوريا وليبيا لا يمكن أن يكون مناصرا للثورة والنظام الجديد في تونس، وأنّى لناصر بشار على شعبه السوري المسالم أن يكون نصيرا للحرية في تونس؟ وأنّى لمن يرون في نظام السيسي تواصلا لسياسة عبد الناصر أن يكونوا عضد التغيير الديمقراطي المنشود، وإن ادّعوا الثورية وتلحفوا بجلبابها؟”.
في نفس المنحى، يرى رياض الشعيبي أن التحول الدرامي الحاصل في ما كان يسمى بقلاع القومية العربيّة أي ليبيا، أكثر الأنظمة مناداة بالوحدة العربية، وسوريا واليمن أربك موقف القوميين التونسيين من المسار الثوري، وهو ما جعلهم يزيغون عن الهوى الشعبي والموقف الوطني المؤيد لثورات الربيع العربي ومشهد انتقالها الرائع من ديكتاتوريات إلى ديمقراطيات وليدة، وقال: “إنّ تمدّد الثورات إلى نحو تلكم القلاع دفع القوميين التونسيين إلى إعادة بناء رؤيتهم لما يحصل من تحولات، فوجدوا أنفسهم حتما في مواجهة الإسلاميين الذين هللوا لانتصارات الحرية على الانظمة العسكرية والبوليسية التي هيمنت لعقود طويلة على اغلب جمهوريات المنطقة العربية”.
ويضيف الشعيبي: “إن هذا التناقض في المواقف تحول إلى صراع سياسي حاد وصل حد تحميل النهضة مسؤولية تسفير آلاف الشباب التونسي لسوريا لمحاربة نظام الأسد. في حين ترى حركة النهضة أن اصطفاف حركة الشعب، والتيار الشعبي خاصة، في مواقع معارضة لها يرمي بعروقه بعيدا في أحشاء تعقيدات الموقف الإقليمي ضد الإسلام السياسي وممثليه في تونس”.
في ذات السياق، يؤكّد المرزوقي على أنّ القوميين في تونس “قذّافيون جدد مرتزقة عند الفاشية العسكرية العربية المتذيلة لإيران مثلما أنّ الثورة المضادة العربية في الخليج متذيلة للكيان الصهيوني، وبالتالي يشترك القوميون في تونس مع قوى الثورة المضادّة في التذيّل لأدوات روسيا وأمريكا في المنطقة العربيّة”، ولم يفت المرزوقي “التأكيد في نفس المقام على أن حركة النهضة، وبحكم حرصها على الحكم بالشروط التي تنفي قيم الثورة، لم تعد ثوريّة”.
الإسلاميون في تونس وأورثوذكسية الأيديولوجيا الإخوانيّة
يرى توفيق المديني، كاتب وباحث سياسي، في تصريح خاص لـ “عربي21” أن فلسفة الإخوان المسلمين في الحكم مبنية على أساس إقصاء الآخر، أيا كان توجّهه معتقدا أنه يمثّل ظاهرة ربانية مقدّسة لا تقبل النقد أو إبداء الرأي من بشر، وهي فلسفة تضمن بامتياز التصادم السريع بين هذا التيار والقوى الليبرالية، والقومية، واليسارية، لا سيما في ظل الصراع القائم على هوية الدولة، مما يجعل الصراع قائما بين دولة دينية تحكمها الشريعة الإسلامية كما يريد ذلك الإسلاميون على اختلاف تياراتهم، ودولة مدنية ديمقراطية تعددية كما يريد ذلك العلمانيون، وهو الصراع الذي يطبع واقع المجتمعات العربية في الوقت الحاضر”.
ويضيف المديني: “إن وصول حركة النهضة الإسلامية إلى السلطة في تونس، وكذلك الأمر لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، أعادها إلى أورثوذكسيتها الأيديولوجية الإخوانية التي كشفت ممارسة الحكم عندها حقيقتين أساسيتين:
الأولى هي فصل جماعة الإخوان المسلمين التقليديّ بين الديمقراطيّة بصفتها مجموعة قيم تُلهم طريقة الحياة والسلوك الاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ، فرديًّا وجماعيًّا، وتُحدِّدُ مكان الدين في المجتمع ودوره في الحقل العامّ، وتقود إلى بناء دولة مدنية ديمقراطية، وبين الديمقراطيّة باعتبارها آليّة انتخاب، تُعَّبِدُ الطريق لوصول الإسلاميين إلى السلطة، ثم الإنقلاب عليها.
والحقيقة الثانية هي ميل جماعة الإخوان إلى مصادرة تمثيل الإسلام السياسيّ، وبالتالي نزعتها التلقائيّة إلى الانفراد بالحكم، وأخونة الدولة رويدًا رويدًا، متسلّحة بقدرتها على تمرير قراراتها “ديموقراطيًّا”، وهذا ما أثبتته التجربة التونسية والتجربة المصرية، وإن بدرجات متفاوتة”.
ويخلص توفيق المديني إلى أنّ “الإخوان المسلمين في تونس باعتبارهم فرعاً من حركة الإخوان المسلمين المصرية، لا يمكنهم التخلّي أبداً عن الشريعة أو ثوابتها كمصدر من مصادر التشريع”، ويذكر في هذا الصدد ما تضمنته مُسَّوِدَة الدستور التونسي الجديد من مسائل متكررة مثل “احترام المقدسات” الشيء الذي دفع بخبراء القانون الدستوري في تونس، وبأطياف المعارضة الليبرالية واليسارية ومكونات المجتمع المدني، إلى التساؤل والنزول إلى الشارع للضغط على حركة النهضة من أجل تغيير فصول مسودة الدستور لسنة 2013، وإقرار دستور ديمقراطي علماني يؤكد على مدنية الدولة، في 27 كانون ثاني (يناير) 2014″.
لئن أبان منير السعيداني، أستاذ محاضر في علم الاجتماع بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس، عن ندرة الأصوات القادرة على الاستشراف التاريخي خارج رهانات اللحظة وإكراهاتها في اتجاه الدفع نحو بناء الكتلة التاريخية بين القوميين والإسلاميين، فإن رواسب الصّراع الإخواني الناصري وتوالد مواطن صراع جديدة في كلّ من سوريا ومصر تمثل عقبات جديدة قد تحول دون ردم الأخاديد الفكرية والسياسية التي وسمت الصراع التاريخي بين كلا تياري الهوية في تونس.
(المصدر: عربي21)