هل يمكن مقاربة علم تاريخ الأديان قرآنيا؟ كتاب يجيب
عرض أحمد القاسمي
الكتاب: تاريخ الأديان: مقاربة قرآنية.
الناشر: مجمع الأطرش للكتاب المختص 2019.
الكاتب: محمد فوزي المهاجر
عدد الصفحات 232 صفحة.
لمبحث تاريخ الأديان، الذي يدرس منشأ المعتقدات المختلفة منزلة مرموقة في تراثنا. فقد أفاد أسلافنا من التسامح الديني والفكري الذين كانت تجود بهما فترات متلاحقة من التاريخ الإسلامي عادة ما ترتبط بازدهار حضاري. فعكس تطلع الحضارة العربية والإسلامية إلى معرفة معتقدات الآخر لمحاورته من موقع العالم الواثق من نفسه، كانت تلك الدراسات تصف الأديان أو تنحو منحى تحليليا مقارنيا في عرضها أو تنزع إلى مجادلتها.
ويذكر أهل الاختصاص مصنف القاضي عبد الجبار “تثبيت دلائل النبوة” أو مصنف الفيلسوف الرياضي المُؤَرِّخ البيروني “الآثار الباقية عن القرون الخالية” أنموذجين مهمين. فقد مثّل الأول دراسة للنصرانية تبحث في أصولها وفي فرقها. وتطرق الثاني إلى اليهودية والهندوسية، وأديان الهند.
و”تاريخ الأديان: مقاربة قرآنية” لمحمد فوزي المهاجر يحاول أن يصل حاضر الدراسات بماضيها وأن ينخرط في هذا المبحث المزدهر على أيامنا، ولكن من زاوية مختلفة ومرجعية مغايرة نحاول أن نقف عندها في قراءتنا هذه.
1 ـ مفاهيم وتعريفات
لوعيه بكون الكتابة ميثاقا يعقد بين الكاتب والقارئ، يعمل محمد فوزي المهاجر على ضبط شبكة من المفاهيم والتعريفات التي يُقرأ في ضوئها أثره. فيعرض مفهوم الدين مشيرا إلى عسر تعريفه لتشابك المنطلقات مبرزا نزعتين في دراسة التدين. فتعتقد أولهما أن الدين ظاهرة ثقافية من صنع الإنسان الذي تدرج من عبادة آلهة متعددة محسوسة إلى توحيدها ثم منحها بعدا مجردا. وترى ثانيتهما أن مسار التدين يتخذ مسلكا معاكسا لما تحدده الأطروحة الأولى. فقد بدأ الإنسان موحدا ثم انتهى معددا.
ورغم أنّ الباحث لا يعلن انتصاره إلى أي من النزعتين فإن مقاربته للمسألة تكشف انتصاره للطرح الثاني. وهذا طبيعي فمقاربته قرآنية والقرآن يصادر على هذا التصوّر. ويجعل المدخل اللغوي سبيله لتلمس تعريف جامع منطلقا من مقاربة فيلولوجية تتقصى تاريخ اللغة وتطور مفرداتها. فدلالات الكلمة (Religion) تعود إلى حقلين يفيد أوّلهما الرباط والميثاق. ويتساءل “مع من يعقد المرء المواثيق”؟ ويفيد ثانيهما الخشية والخوف. فيتساءل “ممن يخاف المرء”؟ ففي الحالين تشترط المفردة طرفا آخر يكون موضوع الرباط أو الخشية.
أما في العربية فترتبط مفردة الدين بدلالات كثيرة تبدو متباعدة. منها العادة والدأب والورع والطاعة والحساب والجزاء. ومن استعمالاتها عبارة “يوم الدين” بمعنى يوم الحساب أو “الديّان” وهو من أسماء الله الحسنى. وفي الحديث ورد: “الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله”. ورغم تعدد هذه الروافد، تنتهي إلى الحوض نفسه: احترام القيم الأخلاقية والرقابة الذاتية على السلوك.
ينطلق الباحث من عرض القرآن لتجارب الأمم السّابقة المقصرة في الاستجابة لدعوة الله من أمثال قوم نوح وعاد وثمود ولوط وشعيب، ومما ورد فيه من أخبار عن اليهودية والصابئة والنصرانية والمجوسية والوثنية. فيجدها مادة صالحة للتأريخ للأديان.
ولا تجافي الدلالة الاصطلاحية للتدين هذه الحقول. فتعرّفه بكونه تركيبا من المعتقدات والممارسات الطقوسية والمطالب الأخلاقية ضمن نسق يرتبط بالخالق. أو بكونه “وضع (ا) إلهي (ا) سائق (ا) لذوي العقول السليمة باختيارهم إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل”. وينقل التعريف الثاني عن التهتانوي من أثره “كشاف المصطلحات”.
ثم يعرض دلالته القرآنية التي ترى أنّ الدين هو الإسلام حصرا انطلاقا من منطوق الآية 19 من آل عمران: “إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا” أو انطلاقا من قول نوح لقومه في الآية 72 من سورة يونس “وأمرت أن أكون من المسلمين”. أما في الآية 136 من سورة البقرة فجاء “قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ”.
وعلى المنوال نفسه يعرف فكرة التوحيد بكونها “الاهتداء إلى فكرة الله باعتباره القوة الوحيدة المطلقة الخافية أولا المتبدية في كل مظاهر الكون والطبيعة والعلة الأولى والمآل الأخير ومبتدأ السببية ونهايتها”. ويعرف تاريخ الأديان بكونه ذلك المبحث الذي يدرس الأديان من جهة تطورها ومن جهة أسسها ومصادرتها ويعرض تفرعها إلى مذاهب مختلفة وأوجه الاتفاق والاختلاف فيما بينها ويحاول فهم أسبابها. فيبرز أهمية المنهج الذي يتبعه دارس هذا العلم ويعدّه ضمانة للحياد والموضوعية.. على أن المشغل الذي ينطلق منه الدارس ، بحثا عن تناول جديد مختلف ومجد هو التأريخ للدين من منطلق قرآني.
2 ـ التأريخ للأديان من منطلق قرآني:
ينطلق الباحث من عرض القرآن لتجارب الأمم السّابقة المقصرة في الاستجابة لدعوة الله من أمثال قوم نوح وعاد وثمود ولوط وشعيب، ومما ورد فيه من أخبار عن اليهودية والصابئة والنصرانية والمجوسية والوثنية. فيجدها مادة صالحة للتأريخ للأديان. ومما يجده من مظاهر التأريخ في النصّ القرآني تفصيل عقائد بني إسرائيل. فينتهي به التحليل إلى أنّ العقيدة اليهودية تشتمل على طبقة توحيدية تدور حول الإيمان بالله الواحد الذي لا جسد له ولا شبيه له. ولكن تحت هذه الطبقة تكمن طبقات أخرى أقرب إلى تعدد الآلهة أو الوثنية. فمفهوم النبوة عند اليهود يحضر في كل المجالات العقدية والاجتماعية والسياسية. ومن الأنبياء أصحاب المكانة التي تكاد تضارع الربوبية عندهم يشوع والقضاة وراعوث وأيوب وأشعيا. ويخلص إلى أنّ الديانة اليهودية في المحصلة تركيب جيولوجي متعدد الطبقات.
ضمن عمله على التأريخ للديانات السماوية يعرض صورة موسى في التراث اليهودي. فيذكر أنه يمثل الشخصية المحورية في الديانة اليهودية. فهو ينعت بكليم الله لكونه قد خاطبه وجها لوجه أو “فما لفم” وفق عبارة سفر الخروج. وهو إلى ذلك الوسيط بين الله و”شعبه المختار” ومخلص بني إسرائيل من فرعون مصر وفق الرواية التوراتية. ويعرّج على أصوله ونشأته وظروف نزل الوحي عليه. فقد ولد في عائلة مضطهدة بسبب ما اعتبر وضاعة في العرق ولكن العناية الإلهية سخرت له ابنة فرعون لإنقاذه من الموت ثم انتقل بعدها إلى البلاط الفرعوني فتلقى تربية أهلته للقيادة لاحقا حينما جاءه الوحي وهو يرعى غنمه في الصحراء.
ثم يذكّر بنبوة المسيح محددا صورته في الموروث المسيحي من تقدمه باعتباره مكملا لليهودية انطلاقا من قوله إنه “ما جاء لينقض الناموس أو الأنبياء وإنما ليكمل” إلى محاولة الاستقلال عن اليهودية بتأسيس عقائد وشرائع خاصة. وتكشف عقيدة التجسيد نظرة المسيحية إلى يسوع المسيح نظرة مزدوجة، فتراه بشرا يعيش في التاريخ وإنسانا نزل من رحم امرأة. وفي الآن نفسه تجد فيه الصورة الأبدية للإله. لكونه “ابن الله الكامل الذي ينحدر من الله ولا ينحدر من أب بشري”.
ومن ثوابت هذا الأثر عمله على تقويم هذه المعارف من خلفية قرآنية أو تصويبها أو تدقيقها إن كانت المعلومات متقاربة، معتمدا منهجا مقارنا. فيؤكد مثلا ولادة عيسى الإعجازية، من منظور قرآني، فأمه عذراء طهور. ولكنه لا ينحدر من أب جسدي. وينتهي إلى الموت فينفي تألهه أو صلبه أو رفعه إلى السماء.
3 ـ طموح الباحث ومحدودية الأفق:
بدا الباحث واعيا بأهمية مبحث تاريخ الأديان الذي يُدرّس في أرقى الجامعات ويصرف إليه أكثر الباحثين حصافة وتدقيقا من جهة، متمثلا لدعوة القرآن لفهم التاريخ فهما واقعيا عبر كشف القوانين التي تسير الحضارات للإفادة منها من جهة ثانية. فيدفعه وعيه هذا ورغبته في الإضافة للمبحث إلى الجمع بين المجالين. فيعنّ له أن يجعل القرآن مصدرا للتأريخ للدين. فيكشف عن شخصية الباحث الطموح وعن قناعته بأن هذا النص، في بعد من أبعاده، مرجع للتأريخ.. ولا شك أن البعد الإطلاقي الرباني الذي يميّز القرآن ما شجعه على البحث عن الحقيقة المطلقة في مضانها.
هكذا يعود بنا الباحث إلى الجدل القديم الذي ظهر مع نشأة علم التفسير. فقد ذهب بعض من المفسرين إلى أنّ القرآن لم يهمل شيئا من العلم وأنه صالح لكل مكان وزمان وشأن، بدليل قوله تعالى في الآية 89 من سورة النحل “وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ”، قبل أن سيود رأي لاحقا يقول بأنّه كتاب هداية أساسا وليس كتابا في العلوم الدنيوية، من طب وفلك وهندسة وتاريخ واستند إلى الآية 16 من سورة المائدة التي نصّها (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) أو الآية الأولى من سورة إبراهيم “الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ). من ذلك أثر “اللباب في علوم الكتاب” لأبي حفص عمر بن علي الدمشقي الحنبلي (دار الكتب العلمية بيروت ) ص 140: فقد جاء فيه “وقال نفاة القياس: دلت هذه الآية على أنّ القرآن تبيان لكل شيء، والعلوم إما دينية أو غير دينية فالتي ليست دينية لا تعلّق لها بهذه الآية، لأنا نعلم بالضرورة أنه تعالى إنما مدح القرآن بكونه مشتملا على علوم الدينـ وإما غير ذلك، فلا التفات إليه.”
وتبنى فخر الدين الرازي هذا الرأي في أثره “مفاتيح الغيب” أو “التفسير الكتاب” فقال في تفسيرها: “العلوم التي ليست دينية لا تعلق لها بهذه الآية. لأن من المعلوم بالضرورة أن الله تعالى إنما مدح القرآن بكونه مشتملا على علوم الدين ، فأما ما لا يكون من علوم الدين فلا التفات إليه “، وغير ذلك كثير.
يعرف تاريخ الأديان بكونه ذلك المبحث الذي يدرس الأديان من جهة تطورها ومن جهة أسسها ومصادرتها ويعرض تفرعها إلى مذاهب مختلفة وأوجه الاتفاق والاختلاف فيما بينها ويحاول فهم أسبابها.
ورغم عمل محمد فوزي المهاجر على فتح علم تاريخ الأديان على النص القرآني كثيرا ما بدا واعيا بقصور مسعاه. فكان يظهر حرجه ويسعى إلى التدارك بالتأكيد أن القرآن يتجاوز عرض التعاقب الكرنولوجي بين الوقائع وأنه يتسم بالعموم والشمول في الزمان والمكان والإنسان فلا يستهدف التفصيل والتفريع (ص 47)يقول: “إنّ القرآن وهو يتعامل مع تاريخ هذه الأديان قد يكسر حاجز الزمان والمكان فلا يحدّده لمخاطبيه وقد يكسر حتى حاجز الأشخاص التاريخيين الذين تشكل بواسطتهم الحدث التاريخي.
بل يمضي إلى ما وراء الزمان والمكان وما وراء الأشخاص أي إلى الوقائع التاريخية في خلاصتها الأساسية من أجل أن تستخلص العبر والنتائج التي يتعلم منها الإنسان (ص 209). ولعلّ حرجه هذا يعود إلى تفطنه إلى محدودية مقاربته فمحصل عمله على التأريخ للديانات السماوية من مقاربة قرآنية لم ينته به إلى ربط المعتقدات بأحداث الماضي ولم يبرز صلتها بالسياسي والاجتماعي والأنثروبولوجي أو فهمها في علاقة بصعود الحضارات وسقوطها أو اندثارها وما رافقها من تغيّرات. ولم يتجاوز ما يذكر عامة في القص القرآني من الوعظ لقوله تعالى “وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين”.
ورغم هذا القصور نجد في عرض الأثر فرصة هامة لمناقشته منزعا في التعاطي مع القرآن بدأ يظهر في بعض المباحث رغم حسم القدامى الذي عرضنا، ومداره على اعتباره، بوجه ما، مصنفا علميا ناطقا بالنظريات والقواعد. فيكشف حماسة للدين ولنصرته ولكنه لا يخلو من تعسف في تأويله يخرجه عن الوظيفة الروحية العقائدية التي أريدت له.
(المصدر: عربي21)