مقالاتمقالات مختارة

هل يمكن تجنُّب مخاطر إدخال العلوم الاجتماعية في الدراسات الإسلامية؟

هل يمكن تجنُّب مخاطر إدخال العلوم الاجتماعية في الدراسات الإسلامية؟

بقلم د. عبد الرحمن الحاج

تسود نظرة ريبة وقلق من العلوم الاجتماعية في أوساط دارسي العلوم الإسلامية في العالم العربي والإسلامي، منشؤها الأساسي الخوفُ من تأثير النزعة الوضعية في العلوم الاجتماعية على الباحثين؛ مما قد يؤدي إلى فقدانهم الإيمان ذاته، ومجرد وجود هذا الاحتمال يجعل المؤسسات المتخصصة في بحوث العلوم الدينية في موقف هجوم على العلوم الاجتماعية، بالتقليل من أهميتها وعوائدها المعرفية للباحثين في الدراسات الإسلامية تارة، وبالتخويف من تأثيراتها الفكرية “المضللة” تارة أخرى.

والواقع أن استشعارَ هذا الخطر والتعاطيَ معه أمرٌ يمكن أن يكون مفهومًا ولا يخلو من وجاهة، غير أن التفكيرَ في هذا الموضوع يحتاج إلى نظر أبعد من موضع تهديد الإيمان الشخصي ذاته، فثمة جانب منهجي يتعلق بالعلوم الاجتماعية تستحق الاهتمام أيضًا؛ إذ كيف يمكن الاستفادة من حقل علمي قام أساسًا على أصل اعتقادي ينفي وجود الماورائيات خلف العالم المحسوس، في حقل آخر يقوم على اعتقاد مناقض تمامًا له؟

بعبارة أخرى: هل الدين نسق معرفي مختلف عن العلوم الاجتماعية لا يخضع لمنطق العقل الإنساني؛ بحيث لا يمكن تعاطي أي منهما مع الآخر إلا في حال تقييم أحدهما للآخر؟

-1-

هذه أسئلة صحيحة، وجوابها مرتبط أساسًا في تصور دور العلماء والباحثين المتخصصين في الدراسات الإسلامية، فثمة تداخلٌ بين مهمة العلم ومهمة التربية والدعوة (الوعظ وتذكير المسلمين) في الوقت الراهن يُضيِّق هامش الحرية للعلماء والباحثين ويحدُّ من قدرتهم على تطوير البحث العلمي؛ إذ يدفع هذا التداخل دومًا إلى النظر في تأثير أي نتيجة قبل الوصول إليها، وتأثيرها على عموم الناس، وهو أمر يقود في نهاية المطاف إلى ظاهرة التحكم بالنتائج العلمية للبحوث، وهي ظاهرة متفشية وملحوظة في الدراسات الإسلامية.

إن المهمة الأساسية للعالم أو الباحث في الواقع هي التفتيشُ عن الحقائق والكشف عنها، وهي مهمة لا تتحقق إلا بالامتحان المستمر للمعرفة البشرية، مما يجعل النقدَ العلمي في صلب عمل العالم ومقدمة لجميع جهوده، ولكن هذا العمل يستلزم طرحَ الأسئلة على المشكلة والتشكك في الأجوبة البدهية حولها، لأجل هذا تتسم اللغة العلمية بطبيعتها الجافة والدقيقة وكثافتها الاصطلاحية، وتبتعد دومًا عن التعبيرات البلاغية واللغة الشعرية والأدبية الجمالية؛ لأن ذلك يُفقدها القدرة على الضبط، وهو ما يجعل الخطاب العلمي بالضرورة نخبويًّا، ومقتصرًا على فئة محدودة من الناس (الجماعة العلمية).

وفي حين يكون دور العالم في إنتاج المعرفة فإن دورَ المربي والداعية هو في التنشئة والتذكير، وبشكل ما في تطبيق المعرفة وتجسيدها في الوقائع والأشخاص، وموضوعه العموم وليس نخبةً علمية محددة، وبالتالي فإن جهة الخطاب نازلة باتجاه الأدنى علمًا، ولهذا السبب حتى يكون الخطاب في الدعوة مؤثرًا وموصلًا إلى الغاية فإن التعبير يتخذ دومًا الطابعَ البلاغي الأدبي، الذي يعتمد في كثير منه على بعث الشعور الفطري الإيماني، ويبتعد بطبيعة الحال عن اللغة العلمية الاصطلاحية الجافة الدقيقة والمرهقة، ليعتمد بدلًا من ذلك أبسط التعابير وأدلها وأكثرها تأثيرًا في النفس.

يستدعي هذا التمييز القولَ بحاجة المؤسسات البحثية والعلمية المتخصصة في الدراسات الإسلامية لإعادة تعريف مخرجاتها، تعريف من هو المتخرج منها، وما دوره، وما هو التكوين الذي تعده لذلك؟ أي إعادة تعريف المعايير المرجعية التي أسست عليها. وهذا فعليًّا خطوة رئيسة للدفع نحو التعاطي مع العلوم بهامش أكبر من الجدية والعلمية والحرية البحثية.

وإذا ما تجاوزنا تلك المشكلة التقنية على أهميتها فنحن أمام السؤال المنهجي “هل يمكن إفراغ العلوم الاجتماعية من حمولتها الوضعية لتجنب هذا التناقض؟”

للإجابة عن هذا السؤال يجب التمييز في النظر إلى العلوم الاجتماعية بين النظريات العلمية وبين الأدوات والوسائل البحثية، وبين التفسيرات التي يقدمها الباحثون والعلماء في دراستهم للظواهر الاجتماعية، ففي حين تكون النظريات أكثرَ التصاقًا بالنظرة الوضعية للعالم فإن التفسيرات تكون أقلَّ ارتباطًا بها، في حين تكون الأدوات والوسائل على النقيض من ذلك شبه مجردة من النظرة الوضعية، حتى وإن نشأت بالاعتماد على النظريات الوضعية.

بإمكان الباحثين من كل الاختصاصات فضلًا على المتخصصين في الدراسات الإسلامية أن يقدموا نقدًا علميًّا ويقترحوا بدائلَ عن تلك النظريات والتفسيرات، لكن ليكون هذا ممكنًا يحتاج الأمر إلى تمكُّن في العلوم الاجتماعية ومعرفة عميقة بجميع النقد الموجه لها، وعدم استسهال إطلاق الأحكام بدون المعرفة الضرورية اللازمة.

والتنويه إلى هذه الظاهرة أمرٌ لا مفرَّ منه؛ إذ يصعب تجاهلُ النزعة التبسيطية المفرطة والاستسهال في التعامل مع هذا العلم بسطحية بين المختصين في الدراسات الإٍسلامية، ويقود ذلك للقول: إن مواجهة تحدي العلوم الاجتماعية في الدراسات الدينية يتطلب أولًا: معرفةً حقيقية وعميقة ومتينة بهذه العلوم، وهو أمرٌ لن يكون ممكنًا ما لم يكن جزءًا من المنهج التعليمي، يدرسه المختصون بهذه العلوم. ويتطلب ثانيًا: تعليمًا متنوعًا وعميقًا بالدراسات الإسلامية في نفس الوقت، فجزءٌ كبيرٌ من المشكلة ناشئ من خلل في التكوين العلمي للخريجين في الدراسات الإسلامية والعلوم الشرعية.

 -2-

مواجهة الأسئلة العقلية الكبرى قادت للقول: إن منطق الدين مغايرٌ لمنطق العلوم، وينتمي إلى نسق مختلف لا علاقة للعقل فيه، ووضعه في مواجهة العقل نفسه غير عقلاني، هذه هي النظرة السائدة في العلوم الاجتماعية وهي التي سمحت للأديان وخصوصًا المسيحية تجنُّبَ مواجهة مع صعوبة العقلانية الأوربية، وجعلت بالإمكان العيش في تناقض بين الدين والدنيا، والدين والعلم، بين القناعات العقلية والعلمية وبين بقاء الإيمان في نفوس أتباع الديانات، غير أن هذه النظرة لا تمنع من دراسة الدين كظاهرة اجتماعية وتفسيرها، وإخضاعه للفحص والبحث والاستكشاف بأدوات علمية، بمعنى أن يكون بحد ذاته موضوعًا للبحث.

إنه لأمر مقلق فعلًا أن يتحول الدينُ ذاته إلى موضوعٍ للفحص، لكن ألا يبدو ذلك القلق مستبطنًا خوفًا من المعرفة؟ ألا يفترض أن تكون جميع الأسئلة المحتملة عن الدين محلَّ بحث ونقد؟ لماذا يكون هذا محصورًا فيما يعرف بعلم الكلام الذي يناقش مقولات وقضايا قديمة في حين تطرح العلوم الاجتماعية أسئلةً جديدة؟  ولماذا يُعتقد أن دارس الدين- كموضوع للبحث والفحص والاستكشاف- يقتضي أن يكون المرء ملحدًا؟

الواقع أن دراسة الظواهر الدينية (مثل: التقديس، الشعائر، السلطة الدينية، الأضحية، الرموز… إلخ)أمرٌ منفصل عن تفسيرها، وإذا كان التفسيرُ هو رأيًا ووجهةَ نظرٍ فإن الملاحظات الملموسة في دراسة الدين كظاهرة اجتماعية ليست رأيًا ولا وجهة نظر، إنها وقائع، ومن المهم أن يملك المختصون في الدراسات الإسلامية تفسيرَهم العلمي لها، هذا ليس حقًّا لهم، وإنما واجب عليهم أيضًا بالنظر إلى أنه يحمي إيمان المؤمنين.

-3-

نعود للسؤال عما إذا كان من المنطق العلمي في شيء أن يتم الاستفادة من حقل علمي قام أساسًا على أصل اعتقاديٍّ ينفي وجودَ الماورائيات خلف العالم المحسوس، في حقل آخر يقوم على اعتقاد مناقض تمامًا له، هو حقل الدين؟

للإجابة عن هذا السؤال يجب فهم الفرق بين المعرفة العلمية وبين النظرية التفسيرية وبين الأدوات والوسائل التي طورتها تلك العلوم، بما في ذلك المفاهيم، وكما أشرنا سابقًا فإن الجانب المتعلق بالنظرة الوضعية مرتبطٌ بالنظريات والتفسيرات عمومًا، وهي يمكن أن تكون محلَّ نقد ومراجعة ورفض أيضًا، لكن القسم الآخر في هذه العلوم هو قسمٌ منهجيٌّ لا يرتبط بالضرورة بنظرية محددة في الغالب، وهو الجانب المحايد تقريبًا في هذه العلوم وهو الأكبر والأهم، ويلائم إلى حد كبيرٍ أن يكون جزءًا من العدة المنهجية للباحثين والمتخصصين في الدراسات الإسلامية؛ لكسر حلقة التكرار من الجهة التي تدور فيها الأبحاث والدراسات الإسلامية.

ولفتح أفق جديد للبحث، فمن المعلوم أن العلوم الإسلامية عمومًا مهتمة بشكل رئيسٍ بالفرد (المكلف)، واهتمامها بالمجتمع من منظور الاهتمام بالفرد، وبقدر ما هو مهمٌّ أن تبقى هذه النظرة مستمرةً مهمٌّ أيضًا أن يتحول الاهتمام نحو المجتمع والتعامل معه ومع مشاكله في الدراسات الإسلامية من منظورٍ علمي، وعدم ترك ذلك لتقديرات الوعاظ والدعاة الشخصية، وإنما بناء منظومة علمية تُساعد على حماية تدينهم على المدى البعيد، وبالتالي- وعلى العكس مما يتوقع- فإن استخدام العلوم الاجتماعية يمكن أن يحمي إيمان المتدينين ويعزِّز إيمان الباحثين، بقدر ما يحمل من مخاطر عليه، وهي مخاطر تعود بالدرجة الأولى إلى سوء التكوين العلمي في العلوم.

في الثمانينات المنصرمة طُرحت “إسلامية المعرفة” أو “أسلمة العلوم الاجتماعية” كبديل في مواجهة تحدي العلوم الاجتماعية، لكن هذا الطرح الناشئ من أزمة الهوية يناقض أساسَ المعرفة التي من المفترض أنها محايدة، فهو يحدِّد سلفًا طبيعة مخرجات البحث العلمي، وقد هُوجم هذا الطرح المتحفظ أساسًا؛ لأنه كان يتضمن دعوة للدراسات الإسلامية للمضي نحو التعامل مع العلوم الاجتماعية واستخدامها في الدراسات الإسلامية.  وما ينبغي أن يكون هو الدعوة إلى إدخال العلوم الاجتماعية في الدراسات الإسلامية بدون التحكم بالنتائج.

بالجملة؛ من غير المحتمل أن لا يكون هنالك مخاطر من إدخال العلوم الاجتماعية، لكن على الأرجح أن معظم المخاطر يمكن تجنبها؛ لأنها تعود في معظمها إلى التكوين العلمي للباحثين ومدى إتقانهم للعلوم الإسلامية والاجتماعية، ومن المؤكد- والحال هذه أيضًا- أن انفصالهم عن العالم وعزلتهم عن تطور المعرفة فيه وعدم قدرتهم على مواكبة تطورات العالم خطرٌ محدق وواضح.

أخيرًا، إن دارسي العلوم الاجتماعية والإنسانية هم أكثر من 50% من خريجي الجامعات في بلداننا، وهؤلاء مقطوعو الصلة بالدراسات الإسلامية في الأعم الأغلب، فهل يمكن لهم تجنب الأسئلة التي تطرحها تلك العلوم ولا يجدون الإجابة لها؟

وإذا كان العلماء والباحثون المختصون بالدراسات الإسلامية يجدون في الغالب أنفسهم مسئولين على الحفاظ على إيمان المؤمنين وعدم خدشه؛ ألا يجدر بهم أن يقدموا إجاباتهم من خلال وسائل ومناهج البحث في العلوم الاجتماعية بدل ترك هؤلاء لإجابات لا تتفق مع يقينهم الديني؟!

(المصدر: مركز نهوض للدراسات والنشر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى