هل يعذر المجتهد إذا خالف رأيه صحيح السنة؟
بقلم إدريس أحمد
تعد السنة النبوية مصدر تشريع الأحكام الثاني في الإسلام بعد الكتاب العزيز، وحجيتها في تقرير الحلال من الأحكام، وتحريم المحرمات منها مستقلة، فلا حاجة إلى عرض ما جاء في السنة النبوية الصحيحة على القرآن قبل قبولها والعمل بها، وهذا البيان مما لاقى إجماع العلماء المجتهدين، ويمثل مذهب أهل السنة والجماعة دون خلاف، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه” أي: أوتيت القرآن وأوتيت مثله من السنة التي لم ينطق بها القرآن.
كما استقرت هذه الحقيقة بوضوح في نصوص الكتاب الناطقة بوجوب طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، من أبرزها يقول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)) [النساء].
والآية واضحة في تعيين مصادر التشريع الإسلامي، وأن السنة النبوية تأتي في المرتبة الثانية مباشرة بعد الكتاب، والجمع بينهما عند الاستدلال والاعتبار ضرورة، والتعامل معهما على وفاق سداد على منهج أهل السنة، لأنهما الشريعة الإسلامية على سواء.
يقول ابن عاشور وهو يبيِّن هذه اللطيفة من الآية السابقة فقال: أمر الله بطاعة الله ورسوله وذلك بمعنى طاعة الشريعة، فإن الله هو منزل الشريعة ورسوله مبلغها والحاكم بها في حضرته[1].
ويقول الشوكاني: ثبوت حجية السنة المطهرة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظ له في دين الإسلام[2].
وإذا كانت مكانة السنة النبوية في التشريع الإسلامي بهذه المنزلة المنيفة، فلِمَ نجد بعض الفقهاء المجتهدين – على وجه الخصوص – يحيد عن صحيح السنة النبوية في مسألة لرأي اختاره باجتهاده؟ ولِمَ يعتمد النظر والقياس في تقرير قضايا فقهية وجدت فيها نصوص صحيحة من السنة النبوية ؟
وللإجابة على هذه الظاهرة في تصرفات الفقهاء المجتهدين، فإننا يقينا ندرك أن الفقهاء لا يجرؤون على مخالفة النص الشرعي بآراء مجردة، وإنما قد يعدل بعضهم عن صحيح السنة لأسباب ومبررات علمية تقتضيها المسألة التي يبحث فيها بعينها، أو لأصول استقر العمل عليها، خصوصا إذا كانت المسألة من الفروع الفقهية، لذلك عُنِي بعض التراث الفقهي قديما وحديثا بموضوع الخلاف ومسائله وبيان أسباب ظهوره بين المجتهدين، حتى أصبحت الكتابة في فقه الخلاف أحد الفنون العلمية في الفقه الإسلامي.
وإن كانت مخالفة السنة الصحيحة لها ارتباط بفقه الخلاف لكن المقال هنا يركز على أعذار المجتهد في ترك العمل بصحيح السنة.
ومن النماذج العلمية التي اهتمت بدراسة أسباب مخالفة الفقيه صحيح السنة في التراث نظرية ابن تيمية في كتابه المشهور “رفع الملام عن أئمة الأعلام”، حيث قام ببيان أسباب وجود مخالفة صحيح السنة عند الفقهاء وقسمها إلى ثلاثة أنواع رئيسة :
النوع الأول: عدم ثبوت الحديث
وذلك إذا اعتقد المجتهد أن الحديث لا يثبت من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم. ويقع تحت هذا النوع من أعذار مخالفة الفقهاء لصحيح الحديث النبوي مجموعة من الأسباب وهي:
السبب الأول – عدم بلوغه الحديث، فيحكم المجتهد بمقتضى ظاهر آية أو حديث آخر أو قياس، واعتبر هذا هو الغالب على احتيارات الفقهاء المخالفة لبعض الأحاديث. ويعذر المجتهد لانه لا يمكن لأحد الإحاطة بجميع سنن الرسول صلى الله عليه وسلم.
السبب الثاني – عدم ثبوت الحديث عنده، كأن يقع في سند الحديث أو متنه ما يقتضي تضعيفه، وهذه الحالة انتشرت كثيرا في عصور التدوين والاجتهاد.
السبب الثالث – اعتقاد ضعف الحديث باجتهاده الخاص، وقد يخالفه غيره من المجتهدين المعتبرين.
السبب الرابع – اشتراط المجتهد ما قد يخالفه الآخرون في الحديث الآحاد، مثل اشتراط موافقة خبر الآحاد الكتاب والسنة، أواشتراط أن يكون المحدث فقيها إذا خالف قياس الأصول وغير ذلك..
السبب الخامس– نسيان المجتهد الحديث، فيقتضي ذلك رد الحديث والاعتماد على مسلك آخر للاجتهاد مثل القياس.
النوع الثاني: دلالة الحديث في نظر المجتهد
وهو أن يعتقد المجتهد أن دلالة الحديث لا تفيد المعنى أو الجكم الذي ارتبط به. وهذا النوع من الأعذار يتعلق بتفسير النصوص وتأويلها، ومعرفة دلالات الألفاظ العربية ومراتبها، وهو محط الاجتهاد والنظر عند المجتهدين. فإذا كان النوع السابق يتعلق بجهة ثبوت الحديث فإن هذا النوع يعالج جهة دلالة الحديث ومنه تفرعت أكثر الأسباب التي حملت الفقهاء على مخالفة ظاهر النصوص .
ويندرج تحت هذا النوع أسباب كثيرة وهي:
السبب الأول – عدم معرفة المجتهد دلالة الحديث، وحسب ابن تيمية فإن الاختلاف الوارد في ألفاظ الحديث يمثل واحد مما يأتي:
أ– كون اللفظ الذي جاء في الحديث غريبا عند المجتهد، ويخالف غيره في تفسيره. نحو: المزابنة والمحاقلة والغرر وغير ذلك.
ومن أمثلة ذلك: ما جاء في الحديث المرفوع: {لا طلاق ولا عتاق في إغلاق} فإنهم قد فسروا “الإغلاق” بالإكراه، ومن يخالفه لا يعرف هذا التفسير.
ب – كون معنى اللفظ في لغة المجتهد وعرفه، يخالف معناه في لغة النبي صلى الله عليه وسلم وعهده، فيحمل اللفظ على عرفه. مثل حمل الأحاديث التي ترخص في “النبيذ” على أنه نوع من المسكرات، بناء على ما في لغتهم، غير أن النبيذ هو ما ينبذ لتحلية الماء قبل أن يشتد.
جـ – أن ياتي اللفظ مشتركا، أو مجملا؛ أو مترددا بين حقيقة ومجاز؛ فيحمله على الأقرب عنده، وإن كان المراد هو الآخر.. وغير ذلك من الامور التي تدخل في هذا السبب.
السبب الثاني – اعتقاد المجتهد عدم صحة الدلالة المذكورة في الحديث، وهذا يختلف عن السبب الأول؛ فإن المجتهد في الأول لم يتعرف على جهة الدلالة، وفي الثاني عرف جهة الدلالة غير أنه يعتقد عدم صحة تلك الدلالة. وذلك بأن يكون له من الأصول ما يرد هذه الدلالة وهذا أيضا كثير.
مثل أن يعتقد أن العام المخصوص ليس بحجة. أو أن المفهوم ليس بحجة, أو أن العموم الوارد على سبب مقصور على سببه, أو أن الأمر المجرد لا يقتضي الوجوب؛ أو لا يقتضي الفور.
السبب الثالث – اعتقاد المجتهد أن دلالة الحديث قد عارضها ما دل على أنها ليست مرادة. مثل معارضة العام بخاص، أو المطلق بمقيد، أو الأمر المطلق بما ينفي الوجوب، أو الحقيقة بما يدل على المجاز.. قال ابن تيمية: “تعارض دلالات الأقوال وترجيح بعضها على بعض بحر خضم”.
السبب الرابع – اعتقاد المجتهد أن الحديث يعارضه دليل يصلح أن يكون معارضا بالاتفاق، مثل: الآية أو حديث آخر، او شبه إجماع، وذلك المعارض يدل على ضعف الحديث أو نسخه أو تأويله، ويتعلق هذا بمختلف الحديث ومشكله في علوم الحديث.، ومسائل التعارض والترجيح في أصول الفقه.
النوع الثالث: اعتقاد المجتهد أن الحكم منسوخ
وهذا يدخل في السبب السابق لأن مقتضى الحديث المعارض بدليل أرجح يحمل المجتهد على رد الحديث بحجة النسخ للحديث الذي ثبت متأخرا.
وأوصل ابن تيمية هذه الأسباب التي اعتبرها أسبابا ظاهرة إلى عشرة، ثم أضاف إليها سببا آخر خارجا عن جميع ما سبق واعتبره سببا خفيا، وهو معارضة المجتهدِ الحديثَ بما لا نعلمه وهو يعلمه، واستقرت دلالته عنده.
حكم ترك المجتهد الحديث الصحيح بهذا السبب الخفي
اختار ابن تيمية جواز معارضة المجتهد الحديث بحجة لا نعلمها ولم نطلع عليها أو لم يبدها لأن مدارك العلم واسعة، ولم نطلع على بواطن العلماء.
ثم يقول: “لكن نحن وإن جوزنا هذا فلا يجوز لنا أن نعدل عن قول ظهرت حجته بحديث صحيح وافقه طائفة من أهل العلم؛ إلى قول آخر قاله عالم يجوز أن يكون معه ما يدفع به هذه الحجة وإن كان أعلم؛ إذ تطرق الخطأ إلى آراء العلماء أكثر من تطرقه إلى الأدلة الشرعية، فإن الأدلة الشرعية حجة الله على جميع عباده، بخلاف رأي العالم”. [رفع الملام: 36]
[1] التحرير والتنوير (5/96).
[2] إرشاد الفحول (1/97)
(المصدر: إسلام أونلاين)