بقلم د. محمد العبدة
يظن بعض من لم يدرس النفس البشرية أو يدرس تاريخ الفرق والأديان والمذاهب والنِحَل أن في الإمكان رفع الخلاف بين الناس لا نقول: بين البشر بعامة، فهذا من المستحيلات، وكل العقلاء يدركون ذلك، ولكن بين شعب واحد أو دين واحد أو نحلة واحدة .
فقد خلق الله الخلق متفاوتين في الأفهام والطبائع، متخالفين في الآراء والاعتقادات، مثلما خالف بينهم في الصور والهيئات “وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ” (الروم: من الآية22).
وقد ركّب فيهم الغرائز والشهوات، فمن غلبت عليه شقوته وأهواؤه فإنه يسير في هذا الطريق “وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى” (الليل:8-10) .
وسنجد العجائب من انحطاط بعض الناس وعبادتهم للمخلوقات والجمادات.
فإذا أردنا التخصيص، وصار الحديث عن المسلمين، فسنجد الأفهام المتفاوتة في فقه الإسلام، وسنجد التقصير في الإحاطة بالشريعة والعقيدة، وسنجد الأهواء التي تُبعد صاحبها عن سلوك الطريق المستقيم .
فذو الطبع المتشدد يحاول جَرَّ النصوص من القرآن والسنة إلى ما يريد، وذو الطبع المتساهل الضعيف يحاول جَرَّ النصوص إلى ما يهوى , وأعداء الإسلام لا يقصرون في بث الشبهات ودفع الأموال في سبيل ذلك.
ولكن مع هذا الواقع فهناك الطريق الأعظم واضحاً مستبيناً، ملاذاً آمناً ينضوي المسلم تحت لوائه، وقد انضوى خلال جميع القرون منذ بدء الدعوة الإسلامية وهو تيار عريض وليس بالقليل، وأعني تيار أهل السنة فهم الأكثرية الغالبة، وهم الذين بنوا الحضارة الإسلامية، وهم بناة الدول الإسلامية الكبيرة التي حكمت مئات السنين كالدولة الأموية (في المشرق والمغرب)، والدولة العباسية، والدولة العثمانية، عدا عن الدول القوية التي نشأت في صقع من أصقاع العالم الإسلامي ولها دور حضاري وعسكري في الدفاع عن الإسلام كالمرابطين والموحدين في المغرب والأندلس أو الدولتين (النورية والصلاحية) في الشام ومصر، أو الدولة الغزنوية في أفغانستان والهند…
فهذا هو التيار الأعظم الذي يعد مرجعيته الكتاب والسنة ثم الصحابة والتابعين وأئمة الفقه والحديث كالأئمة الأربعة، والأوزاعي، وابن حزم، والبخاري، ومسلم، وبقية أصحاب الكتب الستة وغيرهم في كل عصر إلى يومنا هذا.
ورغم وجود الخلاف داخل هذا التيار في بعض الأمور العقدية والفقهية، ولكن يبقى الحوار الهادئ وإبداء وجهات النظر داخل هذا التيار هو السبيل الصحيح للمحافظة عليه، وليس الجفاء والمخاصمة والاتهام .
وأما إذا أردنا التضييق والانحصار فسنجد أنفسنا قلة قليلة محشورة في زاوية من زوايا هذا التيار الكبير , وهذا ليس من هدي الإسلام ولا هدي التعاون على الخير والأمر بالمعروف .
وعندما قال الإمام ابن حزيمة: “من لم يقر بأن الله على عرشه قد استوى فوق سبع سماواته فهو كافر حلال الدم.. علق الإمام الذهبي: “قلت: من أقرَّ بذلك تصديقاً لكتابه ولأحاديث رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وآمن به مفوضاً معناه إلى الله ورسوله، ولم يخف في التأويل ولا عمّق، فهو المسلم المتبع، ومن أنكر ذلك فلم يدر بثبوت ذلك في الكتاب والسنة فهو مقصِّر، والله يعفو عنه، ومن أنكر ذلك بعد العلم، وقفاً غير سبيل السلف الصالح، وتمعقل على النص، فأمره إلى الله _نعوذ بالله من الضلال والهوى_”(1).
والقصد هو تكثير _إلا من رحم ربك_ فهذا الذي يجب أن نتنبه إليه، ونعي خطورة التفرق ضمن هذا التيار الكبير، ونعتني بالوسائل التي تؤلف ولا تباعد .
ولكن هذه الدعوة إلى التآلف لا تفي التلفيق بين ما هو صحيح وغير صحيح، بين السنة والبدعة فهذا أيضاً لا يقرب ولا يؤلف، فلا بد من جمع الناس على الحق _إن أمكن_ أو نعمل بـ”سددوا وقاربوا” .
وهناك أمور كثيرة لم يختلف عليها أهل القرون المفضلة، وهناك السنن التي أمرنا الرسول _صلى الله عليه وسلم_ باتباعها، ومنها سنة الخلفاء الراشدين، فهو الميزان الذي نرجع إليه، والتمييع والتلفيق لا ينتج شيئاً قوياً، بل نستمسك بالحق الواضح وندعو إليه الآخرين بالحسنى.
أما الخلاف بين الملل والنحل فهذا لا يتركه الناس، والله _سبحانه وتعالى_ هو الذي يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، بل هذا أحد أدلة البعث في القرآن الكريم “وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ” (النحل:38، 39).
_____________
(1) سير أعلام النبلاء 14/373.