هل يحتاج العرب للمصالحة بين الإسلام والديمقراطية؟ كتاب يجيب
عرض الحسين بن عمر
الكتاب: “الإسلام ورهانات الديمقراطية: من أجل إعادة الفاعلية للحياة السياسية”
المؤلف: محمّد محفوظ
الناشر: المركز الثقافي العربي
الطبعة الأولى: 2002
عدد الصفحات: 208
علّه من السابق لأوانه تقدير حجم ندوب “إجراءات 25 تموز (يوليو) 2021” التي أقرّها الرئيس التونسي قيس سعيّد وآثارها الاجتماعية والسياسية، خاصة بعد قرار تعليق أعمال المجلس النيابي المنتخب عام 2019 إلى “إشعار آخر”. الإجراءات الأحادية المتخذة رأى فيها الجامعي عياض بن عاشور وطيف واسع من النخب القانونية والسياسية انقلابا مكتمل الشروط على دستور 27 كانون الثاني (يناير) 2014، وهو ما يشكّل انعطافة حادّة في مسار التجربة الديمقراطية اليافعة في تونس، التي انطلق قطارها في كانون الأول (ديسمبر) 2010.
تجربة ديمقراطية متفردة أفلحت إلى وقت قريب في تخطي عقبات الانتقال الديمقراطي العسير وشعابه طوال عشريّة الثورات والتحوّلات السياسية المتسارعة في كل من مصر وليبيا واليمن وسوريا والسودان، وذلك بفضل نجاح النخبة التونسية في إذابة جليد تجاذباتها الفكرية والسياسية العميقة دون السقوط في محاذير دستورية أو التضحية بمكسبي حرية التعبير والإعلام.
صورة الدبابة العسكرية الرابضة في بهو مجلس نواب الشعب منذ 25 من تموز (يوليو) الماضي والتي حالت دون ولوج رئيس مجلس نواب الشعب ونائبيه مقرات عملهم والعودة إلى تحكيم القضاء العسكري في الخصومة السياسية لرئيس الدّولة الذي بات مستفردا بإدارة السّلط الثلاث بمقتضى أمر رئاسي لا غير، فضلا عن “تكريس سياسة التضييق في النفاذ إلى المعلومة وحرمان التونسيين من حقهم في المعلومة المرتبطة بالإقامة الجبرية ومنع السفر وانتشار التحريض والسحل الإلكتروني” ـ وفق ما جاء في بيان مشترك بين الرابطة التونسية لحقوق الإنسان وجمعية القضاة ونقابة الصحفيين وجمعية النساء الديمقراطيات بتاريخ 26 آب (أغسطس) 2021، وفي بيان شديد اللهجة الذي أصدرته النقابة التونسية للصحفيين التونسيين بتاريخ 29 آب (أغسطس) الجاري، بالرغم من حجم النّضالات الحقوقية التي راكمتها النخبة إبّان مقارعتها دكتاتورية نظامي الراحلين بورقيبة وبن علي يعكس رخو البناء الديمقراطي الذي تأمّله التونسيون منذ فرار بن علي.
رخو التجربة ومؤسساتها الديمقراطية الناشئة في ظل مجتمع عربي محافظ يفرض استئناف الحفر في الشروط الموضوعية والذاتية اللازمة التي يتوجّب توفرها في مجتمعات الربيع العربي من أجل إعادة الفاعلية لحياتها السياسيّة والمدنية والتي تمّت مناقشتها خلال العشرية السابقة لانطلاقة الثورات وتحديدا منذ بداية الألفية الثانية، على وجه الخصوص محمد محفوظ في كتابه الذي بين أيدينا والذي يحمل عنوان “الإسلام ورهانات الديمقراطية: من أجل إعادة الفاعلية للحياة السياسية والمدنية”.
كما أنّ إخفاق الحكومات اللاحقة للرابع عشر من كانون الثاني (يناير) 2011 في تحقيق التنمية الاقتصادية المنشودة، على الأقل في تونس، لا يجب أن يضعف إيمان الشعوب المنتفضة ضد الدكتاتوريات غير المأسوف عليها بدور الديمقراطية في تحقيق التنمية. سوء تقدير المعادلة المذكورة قد يفسّر صمت طيف واسع من العوام التونسية ونخبها على الانتهاكات التي لحقت المؤسسة البرلمانية وتبجحهم بالقول إنّ “الديمقراطية لم تأت لهم بالخبز” !
فكرة الكتاب
يوضح محمد محفوظ، مؤلف كتاب “الإسلام ورهانات الديمقراطية: من أجل إعادة الفاعلية للحياة السياسية والمدنية” حقيقة الرهان على الديمقراطية، ليس بوصفها حلا سحريا وسريعا، ولكنها الخطوة الأولى في الطريق الصحيح. بمعنى أن الانحياز إلى الخيار الديمقراطي لا يعني أننا بالضربة القاضية سننهي كل مآزقنا وأزماتنا وإنما هي المجال العام الذي يعيد الحيوية والفعالية للحياة السياسية والمدنية، وهي التي تسمح لنا من مواقع متعددة لمعالجة مشكلاتنا، كما أنها توفر لنا ممكنات جديدة في هذا السبيل.
كما يناقش الكتاب مجموعة من القضايا الشائكة كالنقد والإبداع والوحدة والتنمية وحرية التعبير والاختلاف والأقليات والأمن، وعلاقة كل هذه القضايا في إطار سياق مجتمعي واحد، يزيد من فرص تقدمنا، وينهي العديد من الالتباسات التاريخية التي كلفتنا الكثير على مختلف الصعد والمستويات.
لا مقايضة بين التنمية والديمقراطيّة
يؤكد محمد محفوظ ضرورة الخروج ممّا أسماه بالخديعة التاريخية التي وقعنا فيها. فلا مقايضة بين التنمية والديمقراطية، أو بين الاستقرار والحرية، فلا تنمية بدون ديمقراطية، ذلك أن الاستبداد السياسي يعطل الكثير من قدرات أمتنا وطاقاتها، ويخرجها من المعركة الحضارية مع العدو الصهيوني. فالديمقراطية هي بوابة انتصارنا الحضاري على الغدة السرطانية المغروسة في جسدنا العربي الإسلامي..
إن الديمقراطية أصبحت اليوم مشروعا ممكنا وقابلا للتحقق في مجالنا العربي الإسلامي.. وهناك العديد من العوامل والظروف المواتية لإنجاز هذا التطلع التاريخي. ومهمتنا في العمل على توظيف هذه العوامل والظروف، بما يخدم تمتين القاعدة الاجتماعية والسياسية، وتفعيل دور النخبة باتجاه توسيع المشاركة العامة، وتقوية مؤسسات المجتمع المدني والحد من تغول السلطة واستبدادها..
قيم الإسلام ليست حبيسة الماضي، لكي تدفع الراهن نحو التشبث بالكرامة والحرية والعزة، حتى لو تطلب الأمر التضحية بالنفس في سبيل نيل الحرية وصون الكرامة الإنسانية. وذلك لأن إنجاز الحرية في الواقع المجتمعي من أهداف الدين وغاياته العليا التي ينبغي المحافظة عليها.
إننا لا يمكن أن نتقدّم ونتطور كعرب ومسلمين إلا بجناحي الإسلام والديمقراطية. صحيح أن العلاقة بين الإسلام والديمقراطية تكتنفها الكثير من التساؤلات والالتباسات والاستفهامات، وطبيعة هذه العلاقة بحاجة إلى توضيح وبيان معالمها وأسسها ومعاييرها، ولكن مع ذلك يجزم محمد محفوظ القول بأننا كمجتمعات لا يمكن أن نحقق قفزات كبرى في مضمار التقدم والتطور، بدون الإسلام والديمقراطية.
الديمقراطية استراتيجية لحشد الطاقات ووقف الانهيارات الداخلية
من المؤكد أن الديمقراطية اليوم بما تشكل من آفاق للتغيير والإصلاح السياسي، واستيعاب للشرائح والطاقات الجديدة في المجتمع وتنظيم للاختلافات والصراعات الداخلية، وضبط لنزعات الزعامة والاستفراد وطريق التداول واحترام حقوق الإنسان والقبول بالتعددية الفكرية والسياسية. فهي خيار المجتمعات العربية الإسلامية لوقف الانهيارات الداخلية متعددة الوجوه والمستويات، كما إنها استراتيجية لحشد طاقاتنا وتنظيم تنوعنا وتعبئة إمكاناتنا، للقبض على الاستحقاقات الكبرى لمجالنا العربي الإسلامي المعاصر..وذلك لأن تغييب الديمقراطية، وإقصاء المكونات السياسية والثقافية من المشاركة في الشأن العام، هو جذر العديد من المآزق والأزمات. ولا حلّ لهذه المآزق والأزمات والتوترات إلا بتبني الديمقراطية كخيار قادر على إخراجنا من المآزق المستعصية والتوترات المفتوحة.
مأزق المجال العربي الإسلامي
يرى الكاتب أن للمآزق التاريخية التي يعاني منها المجال الإسلامي تعبيرات ومؤشرات عديدة ومتنوعة ـ بعضها يرتبط بطبيعة الاختيارات الإيديولوجية والسياسية، والبعض الآخر بأوضاع المسلمين الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والثقافية. إلا أنه بالإمكان تكثيف هذه التعبيرات والمؤشرات في مقولة واحدة هي غياب وتغييب الديمقراطية من حياة المسلمين على مختلف الصعد والمستويات.
أما الخروج من هذه المآزق التاريخية، فهو بحاجة إلى تحرر الإنسان المسلم من أوهامه وهواجسه المعيقة لفعاليته وحركيته وديناميته، والانطلاق في رحاب العمل والبناء. فلا يمكن أن تتجذر الديمقراطية والحرية في واقعنا ومحيطنا بدون التغيير الذاتيـ لأن “القوة والفعالية والازدهار والحضور، كل ذلك يتحقق بتحرر الواحد عن مسبقاته وأوهامه الذاتية بتغيير صورته عن نفسه وإعادة ابتكاره لدوره، للمساهمة في تكوين المشهد العالمي، عبر خلق واقع جديد أو القيام بإنجاز حضاري، أو اقتحام مناطق جديدة للتفكير والعمل. بمعنى آخر وكما يقول علي حرب في ورقته “الأختام الأصولية والشعائر التقدمية”: “إنّ الدّور الفاعل لا يمارس إذا بقي الواحد، فردا كان أو مجموعة، أسير معنى معين أو سجين صورة ماضية، بل يمارس الاشتغال على الذات والعمل على تغييرها، للانخراط في صناعة العالم، ونسج علاقات فاعلة وراهنة مع الواقع، وذلك بخلق إمكانيات جديدة للوجود والحياة، تتغير معها جغرافية المعنى وعلاقات القوة. فوحده الإنسان المتحرر من هواجسه ومخاوفه ونزعاته الشريرة، هو القادر على صناعة الحرية وحمايتها من كل الأخطار والمآزق. وبدون أن نتغير ونتطور كأفراد باتجاه قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ستبقى هذه القيم شعارات بدون وقائع وحقائق، ومشروعات بدون إرادة الإنجاز والتنفيذ. وذلك لأن محاولات التغيير بدون الالتفات إلى الذات وتوفير متطلبات التغيير فيها، سيحولها على المستوى الفعلي إلى محاولات لتكريس الثبات والتخشب وحالات الجمود.
الاحترام العميق للآخرين هو النواة الأولى للديمقراطية
الديمقراطية قبل أن تكون أشكالا سياسية ونصوصا دستورية، هي خروج كل فرد فينا عن أنانيته وأفقه الضيق ومغادرة تلك الأفكار الأحادية والإقصائية والاستغنائية، التي لا تزيدنا إلا بعدا عن الديمقراطية ومتطلباتها الفكرية والمجتمعية. لذلك فإن النواة الأولى للديمقراطية هي الاحترام العميق للآخرين مشاعرا وأفكارا ووجودا، ومساواة الآخرين بالذات..إذ جاء في الحديث الشريف “ما كرهته لنفسك فاكرهه لغيرك، وما أحببته لنفسك فأحببه لأخيك، تكن عادلا في حكمك، مقسطا في عدلك، محبا في أهل السماء، مودودا في صدور أهل الأرض”. كما أن “من حقيقة الإيمان أن تؤثر الحق وإن ضرك على الباطل وإن نفعك”.
تؤكد هذه التعاليم الإسلامية على أن بداية الصلاح هو الإنسان نفسه، فلو التزم كل إنسان بالتعاليم الربانية لتأسس الواقع الاجتماعي على ضوء وهدى هذه القيم. فلا ديمقراطية إلا باحترام عميق للآخرين وخضوع تام للحق والحقيقة.. لذلك جاء في الحديث الشريف “ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا”. و”العاقل من كان ذلولا عند إجابة الحق، والعاقل لا يتحدث بما ينكره العقل، ويكون العلم دليله في أعماله، والحلم رفيقه في أحواله، والمعرفة تعينه في مذاهبه”.
الكرامة الإنسانية هي بوابة الحرية
لا حرية لمن لا كرامة له فالكرامة الإنسانية هي بوابة الحرية، أي أن الكرامة الإنسانية هي هي التي تدفع الإنسان إلى دفع ثمن الحرية وهي التي تجعله يدافع عنها ويحميها من كل المخاطر والشرور. لذلك نجد أن التعاليم الإسلامية تؤكد على قيمة الكرامة والعزة، وتحث الناس على استعادتهما والانعتاق من ربقة الذل والمهانة. وذلك لأن الإنسان الذليل، لا يستطيع أن يحافظ حتى على حقوقه الشخصية فضلا عن حقوق الأمة. قال تعالى “إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون”. وقال تعالى “يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم”.
إن الأمة التي تمتهن كرامتها ترتهن إرادتها. بمعنى أن الأمة التي تهان كرامة أبنائها ويداس على قيمها ومبادئها ولا تحرك ساكنا ولا ترفض الظلم والضيم، فإن هذا الامتهان هو البوابة الكبرى لدخول الأمة جمعاء في براثن التبعية والذيلية وارتهان إرادتها واستقلالها وقرارها لصالح العدو الحضاري للأمة. لذلك فإن الدفاع عن الكرامة هو دفاع عن استقلال الأمة ومستقبلها.
ضرورة تجاوز القراءات القشرية والسطحية للدين
يشير محمد محفوظ إلى أنه للمصالحة مع الديمقراطية ينبغي التأكيد على ضرورة بعث المضمون الحضاري للإسلام، وتجاوز القراءات السطحية للدين التي لا ترى فيه إلا جملة من الطقوس الفردية والشعائر الظاهرية والشكلية واستدعاء تلك القيم والمبادئ العليا، التي استطاعت أن تبني مجتمعا جديدا بقيم جديدة ووفق مبادئ ومثل تتجاوز كل النزعات الأنانية والإقصائية. فالمصالحة مع الديمقراطية لا تتطلب التأويل المتعسف للدين وقيمه، وإنما هي بحاجة إلى حضور القيم الإسلامية العليا في الواقع الاجتماعي. وسيادة هذه القيم هو الذي يوفر ظروفا ذاتية وموضوعية باتجاه الانسجام مع متطلبات المشاركة والحلرية والتداول السلمي للسلطة وصيانة المكتسبات الإنسانية.
إن الإسلام يحارب الجهل ويدعو إلى التحرر منه ومن آثاره الخاصة والعامة، ويغرس في نفس الإنسان قيم الكرامة ورفض الظلم والضيم، وصناعة الوعي الذي يدفع الجميع إلى المطالبة بكرامتهم المسلوبة، والعمل بكل الطاقات والإمكانات لإعادة الحقوق المستلبة. وقيم الإسلام ليست حبيسة الماضي، لكي تدفع الراهن نحو التشبث بالكرامة والحرية والعزة، حتى لو تطلب الأمر التضحية بالنفس في سبيل نيل الحرية وصون الكرامة الإنسانية. وذلك لأن إنجاز الحرية في الواقع المجتمعي من أهداف الدين وغاياته العليا التي ينبغي المحافظة عليها.
المصدر: عربي21