مقالاتمقالات مختارة

هل وقع المتدينون في فخ العلمانية المعكوسة؟

بقلم أحمد جرار – مدونات الجزيرة
لم يعد مجرد أمر عابر أن تجد أحد معارفك.. الذي يكثر من وضع الآيات والأحاديث عن صفحته، ويحثك كل جمعة على قراءة سورة الكهف والإكثار من الصلاة على رسولنا عليه أفضل السلام وأتم التسليم.. بأنه لا يتردد في التلفظ بكلام سوقي بذيء بحق آخرين والطعن بأخلاقهم ومصداقيتهم دون أي تورع.. بل يتبع ذلك بنصيحة ذهبية كيف أن الناس اليوم أصبحت بوجهين ولا أمان لها.

أو أن تتعرض لخديعة خلال شراء سلعة ما، وعندما تعود لكي تواجه التاجر أو البائع الذي أقنعك بجودة بضاعته عبر ترديد مفرط للأيمان المغلظة والمسبحة لا تفارق يديه.. أن تجده قد أغلق المحل وذهب لأداء الصلاة في المسجد وقبل دقائق من وقت الآذان! أو أن تتعامل مع حرفيّ ما.. يشبعك حديثا عن جودة عمله وسمعته التي طبقت الآفاق.. وحين تبدأ بالحديث عن المبلغ الذي يريده يسارعك بطلب الصلاة على النبي الكريم، ثم يصدمك برقم يفوق بكثير أدنى تقديراتك.. تحاول تخفيضه.. يكرر منك طلب الصلاة على النبي، ثم يسرد عليك المزايا التي ستحظى بها بالتعامل مع حرفي “حاطط مخافة الله بين عيونه”.. توافق على مضض.. لتكتشف لاحقا.. حجم الفجوة الكبيرة بين توقعاتك.. وبين أدائه..

أو أن يحدثك أحد أقاربك عن فضل صلة الرحم.. ومدى الأجر المترتب على ذلك لا سيما في عصرنا الذي هيمنت عليه العلاقات الهشة مع تغول وسائل التواصل الاجتماعي.. ثم تكتشف أن قلبه يمتلئ بالأحقاد والمشاعر السوداء على قريب أخر له بسبب حادثة بسيطة أو موقف سخيف كان يمكن لقليل من حسن الظن والتماس العذر أن تجنبه هذا السلوك المأزوم..

فما الذي يجري لنا؟ لماذا يعجز كثيرون منا على إحداث توافق حقيقي بين أفكارهم ومعتقداتهم وبين أخلاقهم وسلوكياتهم؟ لماذا لا نتصالح مع أنفسنا؟ هل وقعنا حقا في ما يمكن وصفه بالعلمانية المعكوسة!! من خلال إخراج جوهر ديننا ومقاصده وأحكامه.. من حياتنا ومعاملاتنا اليومية.. وتحول عباداتنا إلى مجرد طقوس عابرة عاجزة عن التأثير على سلوكياتنا واخلاقنا ؟؟

بحسب أكثر التعريفات الدارجة والمبسطة لمفهوم العلمانية.. فهي الدعوة إلى فصل الدين عن الحياة.. ورغم أن التعمق بهذا المفهوم يكشف عن عدة أنواع من العلمانية وكيف أن هناك نسخة متصالحة مع مفهوم الدين ودوره في حياة البشر وأخرى متطرفة تدعو إلى أقصائه ومعاداته، لكن ما يعنيني هنا هو كيفية سقوط كثير من المتدينين بما يعيبون عليه خصومهم العلمانيين فتراهم يفصلون دينهم عن حياتهم -بدون وعي لذلك- فترى حالة من الانفصام بين ما يدعون حمله من فهم شرعي وديني وبين سلوكياتهم وأخلاقهم في حياتهم اليومية وترى أحيانا حالة من الانتقائية العجيبة في التعامل مع القيم والأخلاق التي تمثل جوهر الدين ومقاصده.

ويصل الأمر بك إلى الحيرة هل تضحك أم تبكي حين تجد أحدهم يعيب على المجتمعات الغربية والعلمانية ما يرى أنه التعامل مع القيم والأخلاق من زاوية المنفعة المادية فهم مثلا لا يلتزمون بالمواعيد من منبع أخلاقي، بل فقط لإيمانهم أنها ستعود عليهم بالأرباح.. ثم تراه يبرر عدم إتقانه لعمله والتزامه بمواعيده بأنه الراتب لا يكفي وبأن مديره “شغل محسوبيات وواسطات” وكيف أنها ” ما بتروح إلا على الطيبين اللي زيه”.

هل حقا بات التزامنا بديننا وأخلاقنا مرهونا بالفائدة المادية والمعنوية التي نجنيها منه دون اعتبار حقيقي للآخرة وأجرها.. نعيمها وعقابها.. جنتها ونارها؟ قد يقول قائل: بأننا لا نعيش في عالم مثالي وبأننا بشر وأن الكمال لله وحده، أتفق مع ذلك لكن لا أراني أطلب مستحيلا أن أنتظر من الشخص الذي يقول إنه متدين وسبق له أن قرأ حديث رسولنا الكريم ” مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُق” بأن لا يكون إنسانا بغيضا ونكدا ومتلونا.. وبأن يصدق بأقواله وبأن يلتزم بإتقان عمله وبأن يترفع عن الصغائر وبأن يلتمس الأعذار لمن حوله.. وبان يرتقي حقا بأخلاقه وأفعاله.

نحن لن نعرف حقيقة إيماننا دون امتحان حقيقي.. سلوكياتنا ومثالياتنا المصطنعة في أوقات الرخاء ليست هي ما يعبر عنا.. الشدائد هي التي تخرج معدننا الحقيقي، ومن المؤسف أن نكتشف في كثير من الأحيان ومع أول اختبار: أننا غارقون في القشور وبعيدون جدا عن الجوهر.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى