مقالاتمقالات مختارة

هل هناك يد خفية وراء دعوات مراجعة التراث؟

هل هناك يد خفية وراء دعوات مراجعة التراث؟

بقلم يوسف الشاطر

“لولا أن الإسلام حق في ذاته، مؤيد بتأييد الله تعالى، محفوظ بحفظه، لم تبق منه بقية تصارع قوى الشر في الأرض، والتي ما تركت سبيلا من سبل المكر به إلا سلكته، ولا سببا لإطفاء نوره إلا أخذت به، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين”.

– كتاب (أجنحة المكر الثلاثة) للدكتور عبد الرحمن حنبكة الميداني.

 

مقولة زينت الصفحات الأولى من كتاب (أجنحة المكر الثلاثة) للدكتور عبد الرحمن حنبكة الميداني، تلخص حال الإسلام مع أعدائه منذ ظهوره إلى يوم الناس هذا. مقولة قصد بها الدكتور حنبكة الميداني تلك القوى غير المسلمة من مبشرين ومستشرقين ومستعمرين ومن جرى مجراهم في محاربة الإسلام والنيل من رموزه وثوابته، ولم يظن أن قوى الشر تلك قد تكون ممن ينتسب للإسلام ويدين به.

لقد أصبح الإسلام في مواجهة تيارين كبيرين، الأول يعلن عداءه للإسلام، ويحيك له المؤامرات المباشرة وغير المباشرة، والثاني يعلن انتماءه للإسلام وولاءه له ودفاعه عنه، إلا أنه لا يتوانى عن الطعن فيه والتنقيص من قدر رموزه والتشكيك في ثوابته. ولا شك أن التيار الثاني أشد خطرا على الدين، وأبقى أثرا في نفوس المسلمين. وتعد قضية تنقيح التراث من القضايا التي صدع بها رؤوسنا هذا التيار الثاني، وصار يغرد بها ليل نهار، وبسببها اشتهر رجاله في وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي.

فمن مستغرب – استغرابا يحمل بين طياته دعوة للحذف – لطول عمر هذا التراث وتعميره كل هذه القرون. ومن مطالب بالرجوع إلى القرآن الكريم وما وافقه من الأحاديث النبوية فقط وإلغاء كل ما عداه. ومن داع إلى حذف بعض الأحاديث من كتب الحديث الصحاح، واصف بعضها بالكوارث، ومن صارخ بإلغاء فقه المذاهب الأربعة جملة وتفصيلا. ومن مشيطن لابن تيمية جاعله رأس الإرهاب والمنظر الأول للجماعات المتطرفة، ومن مستهزئ بفقه أبي حنيفة ومالك. وغير ذلك من دعوات وشطحات تؤطرها مقولة “تنقيح التراث”. وجميعهم متفقون ومجمعون على أن التراث هو سبب الكوارث الثقافية والفكرية التي تعاني منها الأمة، وسبب تمزيق الأوطان والشعوب والفقر والقتال والتكفير وغيرها من الآفات.

صراخ وطنين وضجيج وتطبيل، واجترار للكلام دون فهم أو دليل، وتضخيم للمسألة حتى إنه ليخيل إليك أن موضوع التراث هذا يشكل تهديدا خطيرا لاستقرار المسلمين، ومسا مباشرا بالأمن العالمي، وأن ما في هذا التراث من أحاديث وآراء واجتهادات وفقه يطبق في كل بلاد المسلمين، ويذاع في وسائل الإعلام ليل نهار، وتقام في شأنه الندوات والمحاضرات، ويلقن في المدارس والجامعات. مما يستدعي تدخلا عاجلا من الجهات المسؤولة لمعالجة الوضع إما بحرق هذا التراث، أو دفنه تحت التراب.

والناظر إلى حال الأمة الإسلامية سيجد أن الغالبية العظمى من أبنائها لا تبالي بهذا التراث، ولا تلتفت إليه، ولا أثر له في حياتها، بل إن من المسلمين من يعيش ويموت ولم يقرأ حرفا واحدا من هذا التراث، ولم يحمل كتابا منه. والأمر لا ينطبق على عامة الناس فقط، بل يشمل حتى المثقفين والدارسين والباحثين، وقد يصل إلى طلبة العلوم الشرعية والمتخصصين فيها. فكم من طالب أو باحث في العلوم الشرعية مات ولم يحمل صحيح البخاري بين يديه، ولم ير مدونة سحنون في الفقه المالكي، ولم يقرأ رسالة الشافعي في أصول الفقه، ولم يطالع مجموع الفتاوى لابن تيمية.

من جهة أخرى، فإن هذا التراث لا يحتاج إلى دعوة هؤلاء لتنقيحه وغربلته وتصفيته، وهم الذين لم يقرؤوا إلا النزر اليسير منه، طبعا قراءة بحث عن الشبه، واصطناع للتشويه. فهو نفسه ينقح بعضه بعضا، ويصحح ويقوم بعضه بعضا. والأمثلة على ذلك كثيرة، فهذا أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل، أبرز وجوه التراث الإسلامي، وأهم مصادره، كانوا أول المنقحين والمصححين لما أنتجوه، فقد ثبتت عنهم أقوال تنص على عدم الأخذ بآرائهم واجتهاداتهم وتركها إذا خالفت نصوص القرآن أو الأحاديث النبوية. فقد روي عن أبي حنيفة قوله: “إذا قلت قولا يخالف كتاب الله وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي” وقال الشافعي: “انظروا في قولي، فإذا رأيتموه يوافق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوا به، وإذا رأيتموه يخالفه فاضربوا به عرض الحائط” فأي دعوة إلى التنقيح أكثر من هذه، وأي جرأة على التراث أكبر من هذه.

ثم جاء بعد هؤلاء الأئمة تلاميذهم فنقحوا أقوالهم، وخالفوهم في كثير من المسائل، ومن طرائف ما يروى في ذلك أن ابن أبي زيد القيرواني (توفي 386ه) الملقب ب “مالك الصغير” انهدم حائط بيته، فربط في موضعه كلبا للحراسة، فقيل له إن مالكا يكره ذلك. فقال: “لو أدرك مالك زماننا لاتخذ أسدا ضاريا”.

وهذا ابن حزم الأندلسي ينقح التراث أيما تنقيح، ذلك أنه لم يترك صغيرة ولا كبيرة فيه إلا وانتقدها بناء على مذهبه الظاهري حتى شبه لسانه بسيف الحجاج. ولا زال العلماء في كل عصر من العصور ينقحون ويجتهدون بناء على ظروف زمانهم وواقعهم. ولن تتوقف حركة التنقيح ما دامت الظروف تتغير والأدمغة تشتغل. بعد هذا حق لنا أن نطرح سؤالا جوهريا ومحوريا في موضوع التراث، وهو: إذا كان جزء كبير من هذا التراث قد عفا عنه الزمن وتم إبطاله والرد عليه وربطه بزمانه ومكانه وظروفه، ومن تم عدم العمل به في زماننا هذا، فلماذا الإصرار على الاحتفاظ به في بطون الكتب، وتدريسه في الجامعات؟

والجواب عن هذا السؤال أوضح من الشمس في عز النهار، فالاحتفاظ بالتراث ليس فقط احتفاظا بالفقه وبالآراء والاجتهادات، بل هو احتفاظ باللغة وبالتاريخ وبالفكر. فالتراث هو وعاء للغة العربية، بل هو أهم وعاء لها بما حوى من تصانيف وكتب تضارع بعددها أوراق الأشجار. تجد فيه تعابير عجزت ألسنة اليوم عن أدائها، وأساليب شلت الأيادي عن تركيبها، ومفردات بلغت الأوج في دقتها، واقرأ مثلا مختصر الشيخ خليل في الفقه المالكي لترى عجائب تعابير اللغة العربية، وغرائب أساليبها، ودقة مفرداتها. فكيف نتخلى عن هذا كله في زمان تدهورت فيه اللغة العربية، وفقدت بريقها، وصار أهلها يلحنون في نطقها، ويخلطون معها ما ليس منها.

التراث وعاء للفكر، تبرز فيه عظمة العقول، وطرق فهمها للنصوص، واستنباطها للأحكام. ولك أن تتخيل بعد هذا حجم الخسارة العظيمة للحضارة الإسلامية لغة وفكرا وتاريخا في حال حذف التراث أو جزء منه

والتراث كذلك هو مصدر من مصادر التاريخ الإسلامي وغير الإسلامي، فالمؤرخون يستنبطون الأحداث التاريخية من كل الوسائل المتاحة. وكتب الفقه مثلا تحمل بين طياتها تاريخا مهما، حيث يمكن استنباط الظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعلمية لحقبة زمنية معينة، أو دولة معينة من خلال فتاوى علمائها وأقوالهم. ومثال ذلك قول ابن أبي زيد القيرواني السابق: “لو أدرك مالك زماننا لاتخذ أسدا ضاريا” يفهم منه أن تونس في القرن الرابع الهجري عرفت انتشار السرقة والسلب والنهب.

والتراث كذلك وعاء للفكر، تبرز فيه عظمة العقول، وطرق فهمها للنصوص، واستنباطها للأحكام. ولك أن تتخيل بعد هذا حجم الخسارة العظيمة للحضارة الإسلامية لغة وفكرا وتاريخا في حال حذف التراث أو جزء منه. وقد تمر ألف سنة من الآن فيصير ما أنتجه المسلمون في القرن الثامن والتاسع عشر والعشرين تراثا بالنسبة لأبناء ذلك الزمن، فينظرون إليه كما ننظر نحن اليوم لتراث أجدادنا، ويدعون إلى تنقيحه أو حذفه. فإذا طبق الأمر لم يعد للأمة لغة ولا حضارة ولا تاريخ، لأن أهم وعاء لها يتم كسره جيلا بعد جيل.

الغريب في الأمر، وبه أختم، أننا لم نسمع عن مطالب بتنقيح التراث أو إلغائه في باقي دول العالم، وخذ مثلا الكتاب المقدس، لم نسمع عالما مسيحيا أو باحثا دعا إلى تنقيحه، أو حذف بعض فقراته ونصوصه رغم ما تضمن من تناقضات وخرافات وأساطير، ورغم ما فيه من حث على القتل والغزو والإبادة، ورغم تأكيد علماء الأديان على تحريفه وتغييره. وفي فرنسا مثلا يدرس تلاميذ المرحلة الابتدائية شخصية نابليون بونابرت، وتقدم لهم كنموذج مصلح ومشرف لفرنسا، ولم نسمع أحدا من الفرنسيين يطالب بإلغاء تدريس هذه الشخصية التراثية نظرا لما تسببت فيه من قتل وغزو وظلم. ولا زالت ألمانيا تفتخر بتاريخها النازي، وتقيم النصب التذكارية تكريما لقادتها المستعمرين، وتلقن تلاميذها تاريخها الاستعماري، وما من مستنكر لذلك أو داع إلى إلغائه. ولا نقول ذلك تبريرا لما في تراثنا من زلات قد تكون غير مقصودة، أو لم ندرك هدف وغاية قائلها، أو لم نستوعب ظروف وسياق قولها. وإنما لنعلم أن يدا خفية وراء هذه الدعوة، وأنها دعوة غير بريئة، تمهد لشيء بعدها أعظم ضررا منها، وأشد فتكا بالإسلام والمسلمين.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى