هل ندم الإمام البنا على منهجيته في آخر عمره حقاً؟!
بقلم راجي سلطاني
تأتي ذكرى استشهاد الإمام حسن البنا في الثاني عشر من فبراير من كل عام لتدفعنا إلى تذكّر هذا الإمام الجليل وتذكّر تراثه ونتاجه العظيم.
هل يصح إطلاق وصف الإمام عليه؟
وأول ما نود أن نشير إليه في هذه الذكرى تساؤل البعض: هل يصح أن نطلق على الشيخ حسن البنا مصطلح إمام؟
ودافع الذين يتساءلون مثل هذا التساؤل كون الشيخ البنا قد مات صغير السن، إذ كان مولده رحمه الله في الرابع عشر من أكتوبر عام 1906م، وكانت وفاته في الثاني عشر من فبراير عام 1949م. أي أنه مات شابا في الثلاثة والأربعين من عمره.
وردنا على هذا التساؤل هو: وهل شرط للإمامة أن تكون للشيوخ المعمرين؟!
إنما الإمامة معنى، وأيما رجل تحصّل هذا المعنى فهو إمام أيا كان عمره، ولو كان شاباً في العشرين.
ويقول هؤلاء أيضاً: إن الشيخ البنا لم يكن من أهل العلم الكبار حتى يكون إماماً.
ونقول: لا بد أن نشير أولا لمعنى الإمامة، وكيف تكون؟
في المعجم العربي، يُعرّف الإمام بأنه: من يأتم به الناس من رئيس وغيره.
وبالتالي، فإن كل من يأتم به الناس هو في الحقيقة إمام، سواء كان إماما في الحق أو في الباطل، وسواء كان إماماً في عظيم الأمر أو في حقيره وسفسافه.
ومن ذلك، فكل عالم كبير لم يأتم الناس بعلمه هو في الحقيقة عالم وليس إماماً، مهما بلغ في علمه وفي مكانته العلمية.
وكل عالم ائتم الناس بعلمه فهو إمام، مهما بلغت بساطة علمه أمام غيره من أهل العلم الآخرين.
ولذلك، فالشيخ حسن البنا هو إمام، بل وإمام كبير من أئمة الإسلام الذين يُعدّون في تاريخ الإسلام كله منذ محمد صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، ذلك لأنه ائتم به ملايين الناس في بلاد المسلمين جميعها، واتبعته جماعة انتشرت فروعها في كل البلدان، وانتشرت فكرتها ومنهجيتها كذلك.
الشيخ حسن البنا هو إمام، بل وإمام كبير من أئمة الإسلام؛ لأنه ائتم به ملايين الناس في بلاد المسلمين جميعها، واتبعته جماعة انتشرت فروعها في كل البلدان، وانتشرت فكرتها ومنهجيتها كذلك
والإمام البنا في ذلك هو من أكثر من يصح أن يُطلق عليهم مصطلح إمام في العصر الحديث، أي في المائتين سنة الأخيرة.
وإذا أردنا أن نحصر أئمة هذا العصر الذين يصح لهم أن نطلق عليهم أئمة، فسنجدهم لا يتعدون العشرة على أكثر تقدير، وسيكون على رأسهم الشيخ حسن البنا، بجماعته التي تعتبر أكبر الحركات الإسلامية وأكثرها انتشارا وأكبرها عدداً وأعظمها تأثيراً، كما يرى الكثير من الباحثين والمراقبين المعاصرين.
كما أن الإمام البنا ممن يصدق عليهم مصطلح إمام من ناحية العلم؛ علم الشريعة كتاباً وسنة.
ويذكر هو بنفسه في هذا الصدد في مذكراته موقفه مع والده عالم الحديث الكبير، عندما طلب منه الوالد أن يشتغل بالتأليف والكتابة، فقال له الشيخ البنا رحمه الله: أنا أؤلف رجالا بدلا من تأليف الكتب.
يقول الكثيرون: إن الناظر في تاريخ الإمام البنا، وفي دعوته، وفي نتاجه التأليفي القليل، سيعلم علما يقينياً أنه كان عالماً موسوعياً، غير أنه انشغل عن التأليف بما انتهجه من الدعوة والتنظيم والحركة.
إن الناظر في تاريخ الإمام البنا، وفي دعوته، وفي نتاجه التأليفي القليل، سيعلم علما يقينياً أنه كان عالماً موسوعياً، غير أنه انشغل عن التأليف بما انتهجه من الدعوة والتنظيم والحركة
هل ندم الإمام البنا حقاً؟
وثاني ما نود أن نشير إليه في هذه الذكرى، هو ما ذكره البعض من أن الإمام البنا قد ندم على منهجيته في آخر عمره!
يروي بعض الناس رواية تقول: إن الإمام البنا في آخر حياته ندم ندماً شديداً على منهجيته وقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لعدت بالإخوان إلى قراءة المأثورات.
ويقولون: إنه بذلك قد ندم على ما سار فيه وجماعته من العمل السياسي وكذلك العمل المسلح.
ونقول: لو صحت هذه الرواية عن الإمام البنا في آخر عمره، فهي لا تعني مطلقاً أنه ندم على منهجيته التي ارتضاها لنفسه ولجماعته من البداية، بل إنها ربما تعني الندم على ما آلت إليه الأمور، وما سارت إليه الجماعة من عدم انضباطية العمل المسلح، الذي كان مقصوداً به الاحتلال الأجنبي البريطاني.
فقد خرج العمل المسلح بتنظيمه السري الخاص عن قبضة الإمام البنا، وأصبحت له سقطاته، وعملياته الخاصة من القتل والتفجير التي لا يستشار فيها الإمام البنا ولا يعلم بها.
وتغوّل هذا النظام السري الخاص بقيادته على الجماعة، حتى أصبح جماعة داخل الجماعة، وتنظيماً داخل التنظيم، ينازع في ذلك الجماعة الأم وتنظيمها، بل ويزايد عليها.
ووصل الأمر إلى حد المواجهة السافرة مع النظام الحاكم، الذي قرر حل الجماعة في عام 1948م على يد رئيس الوزراء حينها؛ النقراشي باشا.
والذي اغتيل بعد ذلك على يد التنظيم الخاص دون رأي الإمام البنا ودون علمه كما يشهد بذلك الكثيرون من المعاصرين للحدث من أبناء الجماعة وقيادتها.
وبدأ بعدها اعتقال كل أفراد الجماعة والزج بهم في السجون، حتى لم يبق في خارج السجون إلا القليلين جدا، وكان منهم الإمام البنا، في ترتيب لاغتياله بعد ذلك.
وهنا قال الإمام البنا قولته تلك: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لعدت بالإخوان إلى قراءة المأثورات.
وهو يعني: لو عاد بي الزمن لتركت هذا العمل السري المسلح الخاص، الذي أوردنا المهالك، ولم نحسن ترتيبه وتقييده وتوجيهه، فقضى على الجماعة برمتها.
ندم الإمام البنا هنا ليس ندما على المنهجية، وإنما ندم على عدم الضبط لأجهزة الجماعة وتمام تقييدها.
ندم الإمام البنا هنا ليس ندما على المنهجية، وإنما ندم على عدم الضبط لأجهزة الجماعة وتمام تقييدها
منهجية البنا
ما منهجية الإمام البنا التي خطها لنفسه ولجماعته من البداية؟
منهجية الإمام البنا هي باختصار العمل الدعوي لتوجيه الناس إلى ربهم ودينهم، مع الانتقاء منهم لأفضل العناصر الممكنة لتتحمل عبء هذه الدعوة ، وتربية المنتقين تربية خاصة؛ علمية وأخلاقية وعبادية، ليقوموا بعد ذلك بعمل الدعوة لعموم الناس، مع النصح للحكام والأنظمة، والنقد لها والاعتراض عليها إن تطلب الأمر، ومزاحمتها في التصدر للقيادة والحكم إذا تيسر ذلك بعملية ديمقراطية شعبية، من أجل الوصول بالمنهج الإسلامي وشريعته ومشروعه الحضاري لمنصة الحكم، مع الجهاد في سبيل الله ضد المعتدين المحتلين للأرض والمقدسات.
هذا هو منهج الإمام البنا، وهو منهج الإسلام وفلسفته.
ولا يستطيع عالم مسلم منصف أن يقول أن ذلك خارج عن منهجية الإسلام وفلسفته.
اللهم إلا من هؤلاء الذين يعتقدون في ألوهية الحكام، وعدم الاعتراض عليهم والنقد لهم، مهما كان من أمرهم، ومهما بلغ ظلمهم وفسادهم، وهؤلاء في الحقيقة هم أبعد الناس عن الإسلام منهجا وفلسفة.
منهج الإمام البنا في الدعوة والعمل السياسي والجهادي هو منهج إسلامي أصيل، يُفهم مباشرة من أصول الإسلام؛ قرآنا وسنة، ويفهم كذلك من أقوال وآراء العلماء المعتبرين في تاريخ الإسلام.
منهج الإمام البنا في الدعوة والعمل السياسي والجهادي هو منهج إسلامي أصيل، يُفهم مباشرة من أصول الإسلام؛ قرآنا وسنة، ويفهم كذلك من أقوال وآراء العلماء المعتبرين في تاريخ الإسلام
وبالتالي فالذين أخذوا بمنهجية الإمام البنا وساروا عليها من ورائه، لم يأخذوا بها ولم يسيروا عليها لأنها منهجية الإمام البنا، ولكن لأنها هي الإسلام كما يجب، وما عمل البنا فيها إلا التجلية والتوضيح والدعوة إليها.
ولو صح أن الإمام البنا قد ندم على هذه المنهجية في آخر حياته وود أن لو لم يسر في طريقها، فإن أتباعه يرفضون تراجعه هذا ولا يقبلونه.
وهم في ذلك إنما اتبعوه في البداية اتباعا لربهم ونبيهم، وإنما خالفوه في النهاية اتباعا لربهم ونبيهم.
هذا لو افترضنا جدلا أن الإمام البنا قد ندم حقا على منهجيته في آخر حياته.
والحقيقة كما أوضحنا: لم يندم البنا على منهجيته قط، وما كان ينبغي له ذلك، وهو الإمام العالم، الذي استقى منهجيته من قرآن ربه وسيرة نبيه، في تجديدٍ عظيمٍ للدين ولفهمه، أصبح به واحدا من المجددين العظام للإسلام في عصره .
وقد كان ندمه إن صحت الرواية عنه بسبب المسار الذي سارت فيه الجماعة بتنظيمها الخاص المسلح؛ مسار العمليات غير المنظبطة ولا المتفق عليها، مما أدى للخلاف والشقاق داخل الجماعة، والمواجهة السافرة مع النظام، إلى حد حل الجماعة وإعلان الحرب عليها، ثم اغتياله هو رحمه الله ورضي عنه في عام 1949م.
(المصدر: صحيفة بصائر)