هل نحن بحاجة لتوطين الإسلام أم أسلمة العلمانية؟!
بقلم محمد جلال القصاص
في مقالين سابقين (لماذا لم يستفد الإسلاميون من المسيري؟) و (من يخاطب المسيري ورفاقه؟) حاولت النظر لظاهرة الصحويين وإسلامية المعرفة من ناحية الإسلاميين مرة ومن ناحية إسلامية المعرفة مرة ثانية، ومرة ثالثة من أعلى، ووقفت عند التعقيب على الملاحظة الأهم لدى الصحويين وهي إهمال التحديات الخارجية، وأن ذلك خلل في نظرية النمو التي تبناها الأستاذ سيد قطب-رحمه الله- وأن النمو في النموذج الإسلامي الأول راعى التحديات الخارجية وتدرج معها بما هو متاح.
وأضيف: أن إهمال التحدي الخارجي أدى إلى وقوع الصحوة الإسلامية في إطار التوظيف من قبل خصومها في الداخل والخارج، ابتداءً من دفع المجددين إلى تبني صيغة الجماعة (الأنساق المغلقة) والتي أدت إلى تشرذم الحركة الإسلامية وضياع جل جهدها في صراعات داخلية، ومرورًا بالصدام المجتمعي والسلطوي غير المدروس، وانتهاءً بانحراف الأهداف الكلية في اتجاه شرعنة الدولة القومية والدخول في أطرها ومن ثم الدخول في الدين الجديد للمسيطرين على النظام الدولي (الإنسانية)، حتى استقر المشهد- كما أراه- على أن الحركات الإسلامية بجميع طوائفها أدوات لتنفيذ مخططات خصومها، وقد أتيت هذا المعنى مفصلًا أكثر من مرة.
ثالثًا: تستخدم إسلامية المعرفة وروافدها في تمرير الخطاب العلماني (الإصلاحي)؛ وهذه بعض الشواهد بما يناسب مقال:
1- تبني إسلامية المعرفة / الإسلام الحضاري القول بأن القيمة العليا في الإسلام هي تحقيق العدل الإنساني في الأرض! والعدل مفهوم نسبي، فكل يرى نفسه عادلًا، حتى جبابرة اليوم الذي ينشرون الشر والخراب بأسلحتهم المدمرة والحارقة والخانقة والممرضة…، وبضائعهم، وثقافتهم هؤلاء يرون أنفسهم أهلَ عدلٍ ودعاة محبة وسلام. فعن أي عدلٍ يتحدثون؟! إن العدل ترجمة لمنظومة قيم تعمل مجتمعة. وكل عدلٍ عند قومٍ يراه آخرون ظلمًا وزورًا. وحين تدور حول ما يقولون وتفتش فيه تجد أن الدكتور عبد الوهاب ورفاقه يتحدثون عن (الحريات)) بالمفهوم الغربي.. عن تلك الحالة التي يتحرك فيها كل واحدٍ حيث يريد منضبطًا بوازع أخلاقي يستمد قيمه من حيث يرتضي، ولذا يتحدثون دائمًا عن (الإيمان بالتعددية واحترامها)! والله ما خلق الخلق إلا لعبادته، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56)) (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)(الأنبياء:25)، والعدل ثمرة لتحقيق التوحيد، وقد ناقشت هذا المفهوم في مقال مستقل بعنوان (القيمة العليا في الإسلام).
2- القول بأهمية العمران، وهذه من الكبائر الفكرية التي جلبها لساحتنا جمال الدين الإيراني-كما يروي ألبرت حوراني في كتابه تاريخ الفكر العربي-؛ فلم تكن البشرية تهتم بالعمران كقيمة في حد ذاته إلا بعد ظهور العلمانية الرأسمالية. وتحوَّلَ العمران لأحد أدوات الهيمنة والسيطرة والتوجيه للإنسان، وأصبحت الحرب من مفردات الحياة اليومية بعد أن كانت على الجبهات بفعل العمران وغيره؛ ويظهر هذا الاهتمام بالعمران في جعلهم الاستخلاف من أجل التعمير هو الهدف من خلق الإنسان، ويستحضرون قول الله تعالى (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً).
ثم يفسرون الخلافة بمعنى التعمير بالبنيان ونحوه؛ مع أن ذات الآية تبين أن الخلافة لا تعني التعمير فقط بل الفساد وسفك الدماء (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)؛ وبعضهم يدرك بوضوح أن المدنية أصبحت أداة من أدوات الرأسمالية الاستهلاكية وأصبحت من أدوات الحرب. ويغضون الطرف عن أن العمران ترجمة للقيم، فطريقة البناء تخضع للمفاهيم والتصورات وتدعمها. وتصدير الاستخلاف كمفهوم محوري في جوهرة التقاء مع السائد القوي في منطقة مشتركة وهروب من حالة المواجهة الفكرية الحقيقية التي تعلن توحيد الله والكفر بما سواه.
3- القول بتقديم المقاصد على الأحكام. وهي من المحدثات في الدين، وكل محدثة بدعة وكل بدعةٍ ضلالة. بدأت هذه البدعة مع محمد عبده حين استخرج كتابات الإمام الشاطبي (الموافقات) ليقول بالمقاصد ويكسر الجمود السائد في الحالة الدينية الرسمية يومها؛ ثم تطورت الفكرة من بعده في اتجاه سلبي؛ ثبَّتوا مقاصدَ فضفاضة شديدةَ المرونة ومجملة لا تفصيل فيها ثم فسروها بمرونة أخرى؛ ثم راحوا يتحدثون بأن هذه المقاصد تضبط الأحكام (كأنها قواعد فقهية كلية) ومن ثم السلوك للجماعات والأفراد. وظهر أثر ذلك في كتابات الشيخ شلتوت والناقلين عن المستشرقين من فقهاء المغرب الإسلامي كالدكتور أحمد الريسوني والمهتمين بالحالة الإسلامية ويعربون أفكار المستشرقين مثل عابد الجابري. وفي هذا السياق-أيضًا- بدأ الحديث عن تطوير أصول الفقه في اتجاه مقاصدي، يقولون: تمذهب أصول الفقه ولابد من القفز إلى المقاصد للقضاء على المذهبية في الأصول!
هذا قولهم، ومن يفكر قليلًا يعلم أن المقاصد تُؤخذ من الأحكام وليس العكس كما يفعل هؤلاء الأفاضل، فنقرأ أحكام الزنا (القذف، واللعان، والرجم) ثم نقول: مقصد الشارع في حد الزنا هو الستر لا فضح الناس وهتك أسرارهم. ونقرأ الحدود ثم نقول: مقصد الشرع من الحدود هو زجر الناس وصرفهم عن الشر ودفعهم إلى السعي فيما ينفعهم ولا يضر غيرهم. أما ما يفعله المقاصديون الآن في حقيقته عبارة عن محاولة لجرجرة الشريعة في وادي العلمانية.. إلى ساحة الدين الجديد (دين الإنسانية) الذي يتكون من أخلاطٍ شتى بعضها إسلامي!!؛ فهم يقولون: المقاصد، ثم يتحدثون عن كليات عقلية مطاطة تلتقي مع كليات العلمانية الغربية إلا قليلًا، ثم ينقلبون إلى الأحكام ويحاولون تعديلها في ضوء هذه المقاصد الفضفاضة!
حاول أن تتجول بخاطرك في القضايا التي شغلتنا في القرنين الماضيين ستجد جلها-إن لم يكن كلها- من أطروحات العلمانيين: كالعمران، والمرأة وما دار حولها من قضايا، والحاكمية
رابعًا: ومن أهم ما يمكن رصده في النظرة العلوية للمشهد هو حالة من التنازع المعرفي، أو السير في اتجاهين متعارضين
الدكتور عبد الوهاب ورفاقه تأسسوا على العلوم العلمانية، فبسهولة تستطيع أن تكتشف قلة الوعي بالشريعة الإسلامية، وصرح هو بهذا عدّة مرات، وحاول أكثر من مرة استدعاء ما اشتهر من الآيات والأحاديث وتعزب عنه. وحاولوا سد هذه الفجوة بالاتكاء على الدائرة القريبة منهم، تحديدًا ممن اشتهروا بالاطلاع في العلوم الشرعية: مثل د. محمد عمارة، وهو خصم للصحوة الإسلامية ويحاول أن ينسج مستقلًا، وعلي جمعة، وهو متقافز بين الأضداد واستقر حيث لا يرضى الجميع، وكتابات المستشرقين الذين درسوا الشريعة كوائل حلاق ونحوه، ويبررون دراستهم لمخرجات المستشرقين بأن هؤلاء الكفرة متخصصون وليسوا مستشرقين بالمعنى التقليدي، كأن المستشرقين الأول لم يكونوا مدرسين وجامعيين وأهل رأي بين قومهم، وكأن التخصصية الأكاديمية نزاهة وحيادية!!؛ والسبب الخفي وراء الركون للمستشرقين في قراءة الشريعة أن المراجع الأجنبية معتبرة عند هؤلاء، حتى عبد الوهاب المسيري لا تكاد تجد له فكرة إلا وقد نبتت من مصدر أجنبي.
والأخذ والرد مع أطروحات المستشرقين يؤدي إلى تغيرات جذرية في الأطر والأدوات المنهجية والقضايا وبالتالي تغيير المسار كليةً؛ فأسئلة العلمانية هي التي حددت مواضيع النقاش عند كثيرين، وهي التي حددت الأدوات المنهجية وعلى رأس ذلك ما يقال له أكاديمية، وقد أتيت هذا المعنى في مقال مستقل بعنوان (العبوس المتغطرسة). وحاول أن تتجول بخاطرك في القضايا التي شغلتنا في القرنين الماضيين ستجد جلها-إن لم يكن كلها- من أطروحات العلمانيين: كالعمران، والمرأة وما دار حولها من قضايا، والحاكمية،…؛ حتى أصبحت مدارس بأكملها عبارة عن نقاش داخلي بالنسبة للأطروحات الغربية وإن أخذ شكل نقدٍ للمنظومة الغربية!
والعكس: بدأ الصحويون ينتبهون لأهمية العلوم الإنسانية، ولكن ذلك لم يتعد الحديث عن أهمية العلوم الإنسانية دون أن يتكبدوا مشقة تعلم هذه العلوم، ومن أهم أسباب ذلك أنهم ينتظرون نصرًا عاجلًا ويرون أن إنفاق خمس أو عشر سنوات في تعلم هذه العلوم غرامة كبيرة مع أنهم أعداد غفيرة ويملكون الوقت والإمكانات الذاتية للتعلم وتطوير هذه العلوم بما ينفعهم. ويصدهم عن تعلمها-أيضًا- حالة الانغلاق التي يعيشون فيها والتي تحجب عنهم رؤية التحديات الخارجية على حقيقتها. ويصدهم-أيضًا- حالة الاستعلاء بالإيمان التي ترجمت خطئًا، فبدل أن يدرسوا حالة الاستضعاف- وهي حالتهم على الحقيقة- راحوا يدرسون حالة الاستعلاء والعزلة الشعورية وكأنهم ممكنون!
فنحن أمام فريقين: فريق يجهل من العلم بحال عدوه ما لا يسعه جهله، وفي ذات الوقت يمتلك حضورًا في أرض الواقع بأعداد كثيفة وانتشار في كل شوارع الأمة؛ وفريق يجهل ما لا يسعه جهله من الشريعة أو يقرأها من كتابات المنحرفين وأشباه المنحرفين وفي ذات الوقت درس الغرب دراسة وافية أو يستطيع أن يقرأ ما يكتبه الأعداء ويتعرف على ما يخطون؟ ومع حاجة كل واحدٍ للآخر إلا أنهما في اتجاهين متضادين.. لا أحد يخاطب الآخر، مع احترام الأشخاص لبعضهما، فما الحل؟! يجسده هذا السؤال: هل نحن بحاجة لتوطين الإسلام أم أسلمة العلمانية؟! أجيب عنه في مقالٍ قادم إن شاء الله.
(المصدر: مدونات الجزيرة)