هل نحتاج لمستبدٍ عادلٍ؟
بقلم د. محمد فتحي الشوك (خاص بالمنتدى)
في ظلّ المتغيّرات الّتي تعيشها المنطقة العربيّة وحالة الاضطراب وعدم الاستقرار والضّبابية الّتي أحدثها فعل ثورات الرّبيع العربي وما قابلها من ردود أفعال من ثورات مضادّة، ووسط تجاذب عنيف يكاد يعصف بنا جميعا، يروّج البعض لفكرة “المستبدّ العادل”، المنقذ والمخلّص كحلّ للخروج من نفق مظلم ولإنقاذ سفينة تلاطمها الأمواج من كلّ جانب وتكاد تغرق. فهل نحتاج فعلا لمستبدّ عادل؟ وهل يوجد حقّا مستبدّ عادل؟
من هو المستبدّ؟
كلمة المستبدّ في التعريف الغربي مشتقّة من الكلمة اليونانية (despot) والّتي تعني ربّ الأسرة أو سيّد المنزل، ثمّ أخرجت من هذا المنطق الأسري إلى عالم السّياسة لكي تطلق على نمط من أنماط الحكم الملكي المطلق الّتي تكون فيه سلطة الملك على رعاياه ممثّلة بسلطة الأب على أبنائه في الأسرة.(1) ويعرّف الاستبداد لغة: استبدّ بفلان أي انفرد به دون غيره (2) وكلك: حكم بأمره، تصرّف بصورة مطلقة، غير قابل للاعتراض، وأيضا: تعسّف، تسلّط، تحكّم، ظلم، فرض الإرادة دون مبرّر(3). كما يعرّف الاستبداد بأنّه انفراد فرد أو مجموعة من الأفراد بالحكم والسّلطة المطلقة دون الخضوع لقانون أو قاعدة ودون النّظر إلى رأي المحكومين (4). ومن أفضل التعريفات للاستبداد ما ذكره الكواكبي في كتابه “طبائع الاستبداد” حينما قال: “الاستبداد هو تصرّف فرد أو جمع في حقوق القوم بالمشيئة وبلا خوف تبعية، وهو صفة الحكومة المطلقة العنان، فعلا وحكما، والّتي تتصرّف في شؤون الرّعية بلا خشية حساب ولا عقاب.
ومن هنا ففي وسع هذه السلطة أن تتخذ ما تشاء من إجراءات أو مواجهة الأفراد لمصادرة حرياتهم أو ممتلكاتهم”. وتكون السلطة استبدادية ما دامت لا تخضع في تصرفاتها للقانون، ولا يجد الفرد قضاء يبطل تصرّفاتها إذا صدرت على خلاف ما يقتضي به القانون القائم”(5).
هل يوجد مستبدّ عادل؟
كان سيدنا عمر قويّا، ثابتا، يصدع بالحقّ، عادلا، جريئا في اتّخاذ القرارات، ذو حزم وعزم ولم يكن مستبدّا. ووصمه بهذه الصّفة السّلبية هي للتّطبيع مع الاستبداد، تلميعه، تأصيله وجعله مستساغا
وبالرّغم من كلّ المضامين السّلبية الّتي تحملها كلمة الاستبداد وصفة المستبدّ بما يجعلها مستهجنة وأقرب إلى الذمّ منه إلى والمدح، فإن مرجعيّتنا التراثية لا تحمل مثل هذه المعاني، لتضفي على الاستبداد معاني أخرى لتلميعه وجعله مستساغا، مقبولا بل ومطلوبا، فهو الحزم وعدم التردّد في اتّخاذ القرار وتنفيذه مستدلّين بمقولة: “إنّما العاجز من لا يستبدّ”، وإذعانا في اغتصاب المعاني، وقع ربطه بالعدل والّذي بغيابه يقولون أنّ الاستبداد يصبح طغيانا، وفي غياب نصوص من القرآن والسنّة تؤصّل لما يقولون فإنّهم جعلوا لذلك سيّدنا عمر ابن الخطّاب رضي الله عنه مثالا، زورا وبهتانا.
هل كان سيّدنا عمر مستبدّا عادلا؟
عرف سيّدنا عمر رضي الله عنه بالعدل حتّى اقترن باسمه فقيل ذهب العدل مع عمر، فهل كان إلى جانب ذلك مستبدّا؟ كيف يكون كذلك وربّ العزّة نهاه ونهانا عن ذلك، فاللّه حاور إبليس وأقنع سيّدنا إبراهيم وأرسل سيّدنا موسى وسيّدنا هارون إلى فرعون الّذي طغى وقال: “أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ”.. “مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ” وطلب منهما أن يقولا له قولا ليّنا، كيف يكون مستبدّا وسيّده وسيّنا أجمعين من أرسل رحمة للعالمين لم يكن كذلك بل أمره ربّه أن يكون عكس ذلك: “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْوَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ” (آل عمران 159).
سيّدنا عمر الّذي كان لا ينام إلّا بعد أن يتفقّد الرّعية، يترصّد مشاكلها ويسعى إلى حلّها، يستشير المحيطين به ويعدّل قراراته حين تتطلّب الوضعية ذلك، فهو الّذي تراجع عن قرار (يخصّ قيمة المهر) اتّخذه وهو على المنبر بعد أن تدخّلت امرأة ذكّرته بآية فقال حينها: “أصابت امرأة وأخطأ عمر”.. كيف يكون مستبدّا وهو الّذي طلب من سيّدنا خالد ابن الوليد رضي الله عنه لمّا أتاه ليناقشه أمر عزله بأن يكون ذلك على رؤوس الأشهاد وأمام الجميع وفي مسجد رسول الله، ليستمرّ النّقاش يوما كاملا.
“المستبدّ العادل” لا تستقيم، وهي تتناقض مع نفسها، فالاستبداد والعدل لا يلتقيان، إذا ما حضر أحدهما نفي الآخر وهو جمع ما لا يجمع غايته الوحيدة تلميع الاستبداد وضمان استمراره
كيف يمكن لمن قال: “إنّي أخاف أن أخطا فلا يردّني احد منكم تعظيما لي”، والّذي قال أيضا: “الحمد لله الّذي جعل لي أصحابا يقوّمونني إذا اعوججت”، أن يكن مستبدّا؟ كان قويّا، ثابتا، يصدع بالحقّ، عادلا، جريئا في اتّخاذ القرارات، ذو حزم وعزم ولم يكن مستبدّا. ووصمه بهذه الصّفة السّلبية هي لغاية في نفس يعقوب: فهي للتّطبيع مع الاستبداد، تلميعه، تأصيله وجعله مستساغا، مقبولا بل ومطلوبا، وهي كذلك لتشويه صورته وضرب رمزيته.
ومن المفارقات العجيبة أن نكتشف أنّ جذور تلميع الاستبداد وتمجيده تعود إلى الإسهامات الفارسية في الموروث العربي الإسلامي، من خلال أمثلة أودشير مؤسّس الدّولة السّاسانية، على أساس مبدأي الدّين والملك: (الدّين كأساس الملك والملك كحارس للدّين) وكذلك من خلال صورة كسرى انو شروان الملقّب بالعادل (العدل الّذي يعني بالمفهوم القديم إنزال النّاس منازلهم)(6)، أي أنّ مفهوم “المستبدّ العادل” لم يكن نتاجا إسلاميا محضا بل تسرّب من الموروث الفارسي، وهي الجهة الّتي تروّج لتلك الفكرة وتتّخذها عقيدة وهي نفس الجهة الّتي لا تدّخر جهدا في الإساءة إلى رمزية سيّدنا عمر وباقي الصّحابة وأمّهات المؤمنين.
ومن المضحكات المبكيات أنّ زواج المتعة بين الاستبداد الدّيني والاستبداد السّياسي اتّخذ صفة الزّواج الشرعي في الجهة المدّعية أنّها تمثّل التوحيد والعقيدة الصّحيحة لتشرعن الاستبداد وتمنح المستبدّ صكّا على بياض ولم يشترطوا في ذلك لا صلاحا ولا عدلا.
ختاما يمكننا أن نستنتج أنّ مقولة “المستبدّ العادل” لا تستقيم، وهي تتناقض مع نفسها، فالاستبداد والعدل لا يلتقيان، إذا ما حضر أحدهما نفي الآخر وهو جمع ما لا يجمع غايته الوحيدة تلميع الاستبداد وضمان استمراره، ويبدو أنّ استحضار هذه المقولة في ظرفنا الحالي الّذي يشهد بداية صحوة للشّعوب (المطحونة، الرّاضخة تحت نير استبداد داخلي مدعوم من آخر خارجي) إنّما هي محاولة لترسيخ منظومات الاستبداد القائمة ولإعادة إنتاجها في البلدان الّتي شهدت ثورات الرّبيع العربي.
المراجع:
1- كتاب الطّاغية، دراسة فلسفية لصور الاستبداد السياسي، د. إمام عبد الفتاح إمام ص 52.
2- لسان العرب.
3- المنجد المعجم.
4- الوسيط في النّظم السّياسية د. محمود عاطف البنّا ص 92
5- طبائع الاستبداد لعبد الرحمان الكواكبي، دراسة تحليلية، الدكتور جورج كتورة.
6- المستبدّ العادل.. بديلا للدّيمقراطية؟ د. محمّد عابد الجابري.