مقالاتمقالات المنتدى

هل نحتاج لتأسيس مذهب فقهي جديد؟!

هل نحتاج لتأسيس مذهب فقهي جديد؟!

بقلم الشيخ علي المحثوثي (خاص بالمنتدى)

يعلو صوت التجديد الفقهي تارة وينخفض تارة بحسب الظروف، وغاية ذلك الصوت مواكبة المرحلة وتناسب الحكم الشرعي مع الواقع وإصلاحه بما يتلائم، وقد كان دأب العلماء قديما وحديثا النظر إلى الحكم الشرعي والنظر إلى الواقع وخلق حالة من الإنسجام بينهما في التنزيل، والمذاهب الفقهية المعتبرة دأبها تقريب الأحكام الشرعية إلى الأمة، وهي أربعة مذاهب، وليست مذهبا واحدا محتكرا للفهم والإستنباط، بل أربعة تتنافس وتتزاحم بشرف على الظفر بأقرب الفتاوى والتحقق بالمراد الإلهي في الحكم الشرعي، ومادام أنها أربعة، وحولها أكثر من أربعة مذاهب أخرى تساعدها وتحفزها للفهم الفقهي والإستنباط الحكمي، فلسنا نحتاج لتأسيس مذهب فقهي جديد، لأن هذه المذاهب الأصل فيها التجدد والتطور والإحاطة، ومن يتابع سيرتها التاريخية وأنماطها الفقهية يجد ذلك جليا.

والمذاهب الأربعة تأسست في مرحلة زمنية واحدة، على فوارق فنية بينها في تأثر مؤسسيها بجغرافيا العلوم الشرعية، وهنا ظهر التنوع بينها والجمال في أطيافها المتعددة، وهي امتداد للمدارس الفقهية في عهد الصحابة، وقد كان الفقه متحركا فاعلا ومنتشرا من تلك الفترة إلى نهاية عصر بني أمية، ثم كانت الطفرة الفقهية في عهد العباسيين، وكان ظهور المذاهب الأربعة، ثم كان وجود الأصول الفقهية في كل مذهب لقابلية التجدد في الفهم والتخريج والإختيار، فكان أن ظهر في المذاهب الفقهية أصحاب الاختيارات، وهم أئمة المذهب الذين وصلوا إلى مرحلة الاجتهاد، ولهم حق النظر والاختيار من المذاهب الأخرى مع الحفاظ على أصول مذهبهم ثم أصحاب الوجوه، ثم كانت ظاهرة النقلة بين المذاهب دون الدعوى لتأسيس مذهب جديد، وظهرت قبل ذلك مع ظهور المذاهب الفقهية مدرسة المحدثين، فكان التوافق والتعانق بينهم وبين المدارس الفقهية على خلاف فني لاينقض الأصول، ولايدمر الفصول، ثم ظهر بعد ذلك علماء المذاهب الذين شرحوا الحديث النبوي.

وفي عصرنا المادي المذهل الذي تعالت فيه أصوات التجديد الفقهي والفكري والأصولي، ظهر الفقه الإسلامي مواكبا من خلال كتابة فقه النوازل، وإعادة بعض المذاهب كتابة دروسها بلغة قريبة ككتاب الفقه المنهجي -مثلا- في الفقه الشافعي، وبمثل هذه المواقف يتجلى للمتابع لحركة المذاهب الفقهية أنها قابلة للإصلاح والتجديد دون الحاجة لدمج بعضها في مذهب واحد لاندري كيف سيكون، مع العلم أن نصف الفقه وهو باب العبادات لايحتاج إلى مذهب جديد فيه، لأن العبادة لاتتغير بتغير الأزمان إلا ماكان موضوعا في أصل تشريعها الأول، ولو تنزلنا مع القائل بتأسيس مذهب فقهي جديد، ففي باب المعاملات، وباب المعاملات قد صار مقننا ومواكبا لكثرة ماكتب فيه مما يتعلق بالنوازل، وإعادة صياغته درسه الفقهي، وكثرة الاختيارات والتعليلات، وربطه بالمقاصد، علما أن باب المعاملات في بعض قوانين الدول الإسلامية كاليمن مثلا قام على الاختيار الفقهي دون الإلتزام بمذهب معين، فأخذت لجان التقنين من المذهب الشافعي والحنبلي والمالكي والحنفي وغيرها، وهم علماء دين ورجال قانون.. فمادام أن الحال هكذا فلاداعي لإحداث ضجة بل فتنة تتعلق بتأسيس مذهب جديد.

وإن كانت من مطالبة حقيقية وممكنة ونافعة ورجاءات، فهي التي تتعلق بالإرتقاء بتدريس الفقه المذهبي، وذلك من خلال ربط الأبواب الفقهية بكلياتها، وإشراك تدريس العلل والحِكَم الفقهية بأحكامها، وحضور الجانب الروحي الإيماني المتعلق بالأحكام، وكل حكم فقهي له جذره الإيماني، وأصله الروحي، فذاك ممايجعل الفقه عمليا تربويا يجتمع فيه التفقه والتزكية المذكور في آية التفقه.. ﴿فَلَولا نَفَرَ مِن كُل فِرقَةٍ مِنهُم طائِفَةٌ لِيَتَفَقهوا فِي الدّينِ وَلِيُنذِروا قومَهُم إِذا رَجَعوا إِلَيهِم لَعَلَّهُم يَحذَرونَ﴾. كما يدرس طلاب المذاهب الفقهية تاريخ تأسيسها والعلاقة بين الفقه والحديث وتاريخ التشريع الإسلامي، وعلاقة الاحترام والتخادم بين أئمة الفقه حتى تنحسر رقعة التعصب وادعاء الأفضلية والأحقية.

والأمة ما احتاجت إلى فقه جديد في عصرنا كحاجتها إلى فقه إنقاذها من حالة التيه الحضاري العامة، وذلك من خلال صناعة العلماء القادة الذي يحسنون عرض الشريعة والدعوة، وشرح الكليات وربطها بالواقع والوقائع، ويتقنون صناعة المواقف الملهمة، ويحترفون فن التربية والحوار، ولهم جرأة في الإرشاد وصناعة التحرير والأمر والنهي دون أن تأخذهم في الله لومة لائم {لَوْلَا يَنْهَىٰهُمُ ٱلرَّبَّٰنِيُّونَ وَٱلْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ ٱلْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ ٱلسُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى