بقلم أ. أسامة شحادة
أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن دوامة الغلو والتطرف دوامة مستمرة حين قال: “ينشأ نشء يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلما خرج قرن قطع” قال ابن عمر: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “كلما خرج قرن قطع أكثر من عشرين مرة حتى يخرج في عراضهم الدجال” رواه ابن ماجه، وهو حديث حسن؛ وهو ما يؤكده الواقع عبر التاريخ والمعاصر.
فمنذ عام 1965م وجماعات الغلو والتطرف تتوالد بفضل عوامل عديدة من أهمها: المناخ السياسي المستبد والمعادي للدين والإسلام فترة المد اليساري والشيوعي في العالم العربي، وإقصاء العلماء الربانيين عن قيادة الدفة الدينية في المجتمعات، وسيطرة الفكر الثوري الانقلابي كأسلوب ناجح للتغيير، ولذلك أسس وقاد كثير من العسكريين جماعات الغلو والتكفير، والتلاعب والتوجيه الخفي لكثير من قيادات هذه الجماعات من قبل أجهزة الأمن والمخابرات المحلية والإقليمية والدولية لأجندات خاصة بها كما يتجلى بشكل مفضوح حالياً في جرائم وإرهاب داعش والنصرة وتحرير الشام والقاعدة في العراق وسوريا واليمن وغيرها.
واليوم، ومع تقلص داعش وفروخ القاعدة في سوريا والعراق فإن كافة المحللين يجمعون على أن داعش وفروخ القاعدة كالجولاني، صاحب اليافطات المتعددة، لا يزالون يملكون القدرة على العبث والتخريب وأن بقاءهم على هذا الحال هو نتيجة تقاطع مصالح متضاربة للقوى الدولية (أمريكا وروسيا) وقوى إقليمية (إيران وإسرائيل) وقوى محلية (نظام بشار وبغداد) وقوى دون دولاتية (حزب الله والحشد الشيعي العراقي)، حيث انتهاء داعش والجولاني يسحب من أيديهم جميعا ورقة الكذب الصلعاء بمحارب الإرهاب والتطرف!
فخروج الدواعش وانتقالهم من مكان لآخر تم تحت حماية وعين الطيران الأمريكي والروسي والإسرائيلي وبحافلات حزب الله وعبر نقاط الجيش السوري وبمعرفة الحرس الثوري الإيراني!!
هذا الاستغلال لورقة الغلو والتطرف من القوى الكبرى وما دونها يحدث لتمرير أجندتها القاسية على المجتمعات عبر إلهائها بالخوف والرعب وفرض مخططات التقسيم والتفتيت الجديدة وتبرير وجودها في المنطقة والتغطية على جرائمها الإرهابية باسم محاربة الإرهاب كما يفعل الروس والإيرانيون وبشار ضد الأبرياء في الغوطة منذ أسابيع عدة.
ويترافق مع ذلك استمرار حالة الاحتقان في المجتمعات العربية بسبب الاستبداد والفساد والتراجع الاقتصادي والهجمة العلمانية على الإسلام وشعائره في الإعلام، والسعي لتغيير ما تبقى من قوانين مرجعيتها الشريعة الإسلامية كقانون الزواج والإرث، ومحاولات تطويع الإسلام لقيم العلمنة والحداثة الملحدة، كل هذه العوامل تشكل المناخ الملائم تماماً لرواج دعاية فكر الغلو الداعشي والقاعدي وتوجيه حالة الغضب والاحتقان نحو التكفير والتفجير عند الشباب الجاهل دينياً أو العاطفي تجاه مصائب أمته أو الغاضب من فساد الأحوال حوله.
وقد ثبت للجميع أن غالب المخططات الرسمية في محاربة فكر الغلو والإرهاب لم تنجح، بل كثير منها لم يعدُ كونه حبرا على ورق، ولذلك يحذر المتابعون والمحللون من موجة الذئاب المنفردة والخلايا النائمة واللامركزية القادمة في عمل هذه التنظيمات.
إن فكر الغلو والتطرف لا يمكن القضاء عليه تماماً، لا لأنه على صواب، بل لأن الواقع مليء بالفساد الديني والأخلاقي والعلمي والسياسي والاقتصادي، ولوجود خبثاء أذكياء يحرصون على اقتناص نقطة ضعف مجتمعاتنا لتكون نقطة قوة لهم لتنفيذ مخططاتهم.
والحل الوحيد الذي نملكه لحماية شبابنا ومجتمعاتنا هو إضعاف نقطة ضعفنا وذلك عبر خطوتين:
1- إصلاح كثير من الواقع الفاسد حولنا فعليا، من خلال خطوات حقيقية ملموسة للناس تقنعهم بالعدالة في توزيع الميزانية، وتنجز المشاريع بجودة وإتقان صحيح بكلفة ووقت سليمين، ويركز على تنفيذ الأولويات الحقيقية للخروج من عنق الزجاجة عبر قرارات سليمة تم مشاورة الرأي العام وجهات الاختصاص فيها بشكل علمي ومدة معقولة.
2- عبر توعية شبابنا وأفرادنا بحقيقة خطر وكارثية خيار العنف في تحقيق مصلحة الدين والإسلام له كفرد (الشهادة، دخول الجنة) أو كمجتمع (تحكيم الشريعة، العدل، الرخاء) من خلال فتح المجال في الإعلام والمناهج التعليمية وكليات الشريعة والجامعات للعلماء الصادقين والدعاة المخلصين لتوعية المجتمع بخطر منهج الغلو والتطرف وتفكيك منظومة الدعاية البراقة لجماعات الغلو والإرهاب.
ومن خلال كشف تاريخ هذا الفكر وجماعاته وتنظيماته وبيان نتائجها الكارثية على الإسلام والمسلمين وبلادهم والبشرية كلها، والاستفادة من تجربة سوريا اليوم مع هذا المنهج الضال وتنظيماته الإرهابية، وكيف أنها معول لخدمة الأعداء برغم تعددهم وتناقضهم وصراعهم.
لماذا لا يعرف كثير من المختصين فضلاً عن شبابنا تاريخ الخوارج الكارثي بحق أمتنا حتى يكون ذلك حصانة لهم من الانخداع والسحق وقبول أفلام هوليود الداعشية تحت ضغط الواقع السيئ ومخططات الأعداء، وجهله بدينه وتاريخه، فكم هي نسبة مَن يعرفون رؤية التابعي الجليل وهب بن منبه للخوارج وتأثيرهم الكارثي المستقبلي، حيث يقول: “إني قد أدركت صدر الإسلام فو الله ما كانت للخوارج جماعة قط إلا فرّقها الله على شر حالاتهم، وما أظهر أحد منهم قوله إلا ضرب الله عنقه، وما اجتمعت الأمة على رجل قط من الخوارج، ولو أمكن الله الخوارج من رأيهم لفسدت الأرض وقطعت السبل وقطع الحج من بيت الله الحرام، وإذًا لعاد أمر الإسلام جاهلية حتى يعود الناس يستغيثون برؤوس الجبال كما كانوا في الجاهلية، وإذًا لقام أكثر من عشرة أو عشرين رجلا ليس منهم رجل إلا وهو يدعو إلى نفسه بالخلافة، ومع كل رجل منهم أكثر من عشرة آلاف يقاتل بعضهم بعضا، ويشهد بعضهم على بعض بالكفر حتى يصبح الرجل المؤمن خائفا على نفسه ودينه ودمه وأهله وماله لا يدري أين يسلك أو مع من يكون”.
ومن يتأمل هذه الرؤية العميقة -والتي يفوق عمرها ألف سنة- يكاد يجدها تتحدث عن الواقع الكارثي في سوريا نتيجة فكر وتنظيمات الخوارج المعاصرة، فلماذا لا نحصّن شبابنا بذخائر تراثنا فنحميهم ونحمي مستقبلهم ومستقبلنا ونبطل كثيرا من مخططات أعدائنا؟
(المصدر: موقع أ. أسامة شحادة)