مقالاتمقالات مختارة

هل مِن العقلانية اتخاذ العقل مرجعية مطلقة؟ (1)

هل مِن العقلانية اتخاذ العقل مرجعية مطلقة؟ (1)

بقلم أ. أسامة شحادة

في بداية الأسبوع المنصرم وفي إحدى الفعاليات الثقافية التي شهدت أطيافاً متنوعة وتم فيها حوار متعدد الأطراف، طرحت كالعادة دوماً قضية العقل، وهل هو المرجعية للمعرفة والفكر أم الوحي الإلهي المتمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية؟، ولما كانت طبيعة هذه اللقاءات لا تسمح بعرض كامل الفكرة في الموقف السليم من المرجعية للمعرفة على الحقيقة سأتناول أهم العناصر في مناقشة مدى عقلانية اتخاد العقل مرجعاً مطلقاً للمعرفة.

بدايةً يجب أن نتنبه إلى أن الإسلام لم يعرف مشكلة بين العقل والنقل كما حصل للأمم السابقة بسبب أن النقل في الأمم السابقة تعرض للاندراس أو للتحريف، وأن العقل عند الأمم السابقة احتوى الكثير من التناقضات والتصادمات، وهذا يعرفه كل دارس لتاريخ الفلسفة وكيف أن اليونان شهدت صراعات فلسفية بين السوفسطائيين محرفي الحقائق وبين سقراط ومن بعده أفلاطون، ومن ثم خلاف أرسطو مع معلمه أفلاطون، وهناك أيضا بقية الفلاسفة المشاؤون والفلاسفة الرواقية.

بينما في الإسلام يعتبر النقل / الوحي ثابتا محفوظا “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” (الحجر: 9)، وأيضاً النقل / الوحي في الإسلام يحتوي الكثير من الأدلة العقلية ضمن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وهو ما يسميه العلماء الدليل النقلي العقلي، ومن أمثلة ذلك استدلال القرآن والسنة على إمكانية البعث يوم القيامة بأنه تكرار للخلق الأول القائم حالياً، فقال تعالى: “وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه” (الروم: 27)، وما أخرجه البخاري من الحديث القدسي: “قال الله: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي، فقوله لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولداً، وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن لي كفواً أحد”، فالنقل/ الوحي يستخدم الأدلة العقلية -قياس الأولى- فليس هناك تضاد بين النقل/ الوحي والعقل في الإسلام في الحقيقة.

والنبي صلى الله عليه وسلم استخدم الدليل العقلي لشرح بعض القضايا لأصحابه، فحين جاءه رجل يشكو زوجته أنها قد تكون زنت بسبب اختلاف لون بشرة ابنه، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بحجةٍ عقلية من ثقافة زمانه: “هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: ما ألوانها؟ قال: حمر. قال: هل فيها من أورق. قال: نعم. قال: فأنّى ذلك؟ قال: لعله نزعه عرق. قال: فلعل ابنك هذا نزعه”، فالنبي صلى الله عليه وسلم حاججه بأن الولد قد يتأثر بلون جد من أجداده كما يحدث في إبله.

كما أن النقل / الوحي حثّ في الكثير من الآيات والأحاديث على التفكر والتدبر، فكيف يقال إن هناك تعارضا بينهما؟ والإسلام يشترط العقل للتكليف الشرعي واستحقاق الثواب والعقاب؟ وأجمع المسلمون منذ زمن السلف على اعتبار القياس من أدلة التشريع وهو عملية عقلية بحتة؟

إن هذه الحقيقة الكبرى من كون النقل / الوحي يحتوي الأدلة السمعية البحتة ويحتوي الأدلة السمعية العقلية قضية محسومة يعرفها العلماء منذ القديم، فيقول الإمام ابن القيم في كتابه الصواعق المرسلة: “أدلة القرآن والسنة التي يسميها هؤلاء الأدلة اللفظية نوعان: أحدهما يدل بمجرد الخبر، والثاني يدل بطريق التنبيه والإرشاد على الدليل العقلي. والقرآن مملوء من ذكر الأدلة العقلية التي هي آيات الله الدالة عليه وعلى ربوبيته ووحدانيته وعلمه وقدرته وحكمته ورحمته”، وللدكتور سعود العريفي مجلد كبير في تفصيل ذلك بعنوان “الأدلة العقلية النقلية على أصول الاعتقاد”، وهناك رسالة لطيفة لعبد الرحمن الشهري بعنوان “الدليل العقلي عند السلف”.

ولذلك رأينا الصحابة الكرام الذين تربوا في مدرسة النبوة ونهلوا من ينابيع القرآن الحكيم أبدعوا في توظيف العقل في مجاله الصحيح، فهذا الصدّيق يحسم النقاش في سقيفة بني ساعدة حول خلافة النبي صلى الله عليه وسلم بحجةٍ عقليةٍ بقوله: “إن هذا الأمر لا تدين – تطيع – العرب فيه إلا لهذا الحي من قريش”، وحين قابل الصحابة الأمم الأخرى حاججوهم بالشرع والعقل، فهذا ربعي بن عامر يناقش رستم قائد الفرس فيفحمه، ولما خرج الخوارج تصدى لهم ابن عباس فناقشهم وناظرهم بالحجة العقلية فأفحمهم.

وعلى هذا النهج باعتماد الوحي والحجة العقلية سار التابعون والأئمة، وتشهد لذلك مناقشاتهم ومناظراتهم كمناقشة ابن حنبل للجهمية بقوله: “لو أن رجلاً كان في يديه قدح من قوارير صاف، وفيه شراب صاف، كان بصر ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح، فالله وله المثل الأعلى، قد أحاط بجميع خلقه من غير أن يكون في شيء من خلقه”، ومن ذلك المناظرة المشهورة للإمام الكناني وبشر المريسي والتي هزم فيها المريسي بالحجج العقلية الموافقة للوحي والنقل.

وبقي هذا هو الحال حتى بداية القرن الهجري الثاني حيث كثر الداخلون الجدد في الإسلام من أديان وحضارات أخرى بخلفياتهم الثقافية، وبدأت ترجمة التراث اليوناني للعربية، وعندها تبنى بعض المسلمين الجدد وبعض من اغتر بالتراث اليوناني منطق اليونان واعتبروه المعيار السليم في النظر العقلي، وهنا بدأت حكاية معارضة النقل / الوحي والعقل!

وبرغم أن منهج الإسلام ومنهج السلف هو أن الدليل الشرعي  نوعين: الدليل النقلي بنوعيه (الأدلة الشرعية الصرفة والأدلة الشرعية النقلية العقلية)، والدليل العقلي، فقد أخطأ في معرفة وفهم ذلك هذا صنفان من الناس -بسبب النزاع حول قبول الفلسفة اليونانية ورواسب الثقافات الأخرى- هما: المخالفون لمنهج السلف ممن يزعم أن منهج السلف يرفض الأدلة العقلية، وبعض المنتسبين لمنهج السلف والسنة ولكنهم يجهلون اعتبار الأدلة العقلية والنقلية بنوعيها من منهج السلف، وفي ذلك ينبّه شيخ الإسلام على تقصير كثير من أهل الحديث عن التفطن لاعتماد الأدلة العقلية فيقول: “وكذلك كثير من أهل الحديث والسنة، قد ينفي حصول العلم لأحد بغير الطريق التي يعرفها، حتى ينفي أكثر الدلالات العقلية من غير حجة على ذلك” (مجموع الفتاوى 11/338)، وهذه أزمة قديمة متجددة مع الأسف.

فهل هناك في الحقيقة إشكال بين النقل / الوحي والعقل أو أن الصواب هو وجود إشكال بين الوحي / النقل والعقل اليوناني وبالأخص المنطق الأرسطي الصوري؟ وهل هو مع كل المنطق الأرسطي أم مع قسم الكليات والإلهيات فيه على وجه الخصوص؟ هذا ما سنفصله في المقال القادم.

(المصدر: موقع أ. أسامة شحادة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى