بقلم الشيخ مجد مكي
قرأت البارحة مقالة («الحاكمية» في فكر «الإخوان».. منطلق التطرف والعنف) المنشورة في جريدة الاتحاد الإماراتية الأربعاء 3 أغسطس 2016 للدكتور فاروق حمادة، السوري الأصل، والمتجنس بجنسية المغرب الشقيق، والأستاذ في جامعة محمد الخامس سابقا، ثم انتقل – منذ سنوات- إلى إمارة أبو ظبي، ليكون مستشارا دينيا في ديوان وليِّ عهدها، كما عرَّف بنفسه في آخر المقالة . ويقف الكاتب عند مصطلَحي: الحاكمية والجاهلية التي ركز عليهما سيد قطب، وجعل كل المصائب والابتلاءات والجماعات المتطرفة خرجت مما كتبه الأستاذ سيد رحمه الله، حتى داعش التي أقرر بموضوعية أن أتباع هذه الجماعة المستنْبَتة في سوريا والعراق لا يعرف أكثرهم اسم كتاب ” في ظلال القرآن” فضلا عن قراءته والتأثر به !! وإن كان ولا بد من وجود شبه بعيد بينها وبين التيارات الإسلامية المعتدلة، فهي إلى التيار السلفي أقرب منها إلى الاخوان، الذين تكفرهم داعش وتتوعدهم ورموزهم بالذبح مثل ذبح الكفار سواء بسواء!! أورد الكاتب نقولا عن الأستاذ الشهيد سيد رحمه الله تعالى وهي نقول – فيما يظهر- مشكلة ومثلها موجود عند عدد من العلماء والمفكرين في مواضع قليلة من كلامهم والجواب عنها في نقطتين: ا-هل النص بهذا السياق صحيح بغض النظر عن مراد المؤلف فالمناطقة يقولون : المراد لا يمنع الإيراد. ب-هل هذا المعني الظاهر المتبادر هو ماتؤكده بقية أقوال المؤلف أم تنفيه . فإذا وجد نص صريح له قدم على هذا المفهوم . فلا يؤاخذ احد بمفهوم قول إذا كان صريح قوله في مكان آخر يخالفه. ولا يضرُّ سيدًا ولا من قبله أو بعده من العلماء أن نقول عن عبارة أوعبارتين منها أنه اخطأ في الصياغة، وهذه العبارة خطأ وللشيخ كلام آخر يخالف المتبادر من معناها. فلا بد من قراءة هذه العبارات التي نقلها الكاتب في سياقها، وحمل المجمل المبهم منها على المفصّل المفسر في غيرها من كلماته .. وكنت أتوقع أن أجد كلمات جديدة تنسب إلى سيد، ولكن الكاتب أعاد وكرر ما كتبه من قبله تلميذه أسامة السيد الأزهري في رسالته: ” الحق المبين في الرد على من تلاعب بالدين” !! وهذا ما أعلنته سورة الأنعام، قال تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} [الأنعام:114]. ذلك أنَّ الله تعالى هو الحَكَم، وهو الحاكم، كما قال تعالى على لسان يوسف عليه السلام: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40]. وقد جاء ذلك في القرآن الكريم الذي يقول: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88]، وقال سبحانه: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57]، وقال تعالى: {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الحج:68 -69]، وقال تعالى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس:109]، وقال سبحانه: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:7 -8]، وقال: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء:112]، وقال: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الممتحنة:10]. هذه الآيات كلها تعطينا دلالة مؤكدة: أنَّ الحكم لله وحده، لا ينبغي أن ينازعه أحد فيه، ولا غرو في ذلك؛ فهو وحده خالق الخلق، ومالك الملك، ومانح الحياة، ومعطي الرزق، ومهيِّئ كل الأسباب للناس، ما علموا منها، وما لم يعلموا؛ فلا عجب أن يكون الحكم كله لله. الحكم هنا له معنيان أصليان: الحُكْم الخَلْقي، والحكم الأَمْري، كما قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف:54]. له الخلق سبحانه بمقتضى ربوبيته، وله الأمر بمقتضى إلهيته. وأحيانًا يعبر عنه بـ(الحكم الكوني) و(الحكم التشريعي)، وكلا الحكمين لله لا لغيره. فمن الحكم الأول: أنَّ الأمور كلها لله، وفي يده وحده، يصرِّفها كيف يشاء، يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويصل ويقطع، ويعز ويذل، ويهدي ويضل، يوسِّع على من شاء، ويُضيُّق على من شاء، فما يجري به القدر على الإنسان من خير أو شر، من نعيم أو بؤس؛ من صحة أو مرضن من عز أو ذل، فهو حكم الله القدري التكويني، كما قال سيدنا يعقوب لأنبائه: {يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف:67]، وقال أكبر أبنائه حين لم يعودوا بأخيهم: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يوسف:80]. فهذا حكم الله القدري في الخلق، وهو يجري كما قدَّر الله، وَفْق سنَّته الماضية، ولن تجد لسنة الله تبديلًا. الحكم الأمري التشريعي: والنوع الثاني من الحكم، هو: الحكم الأَمْري التشريعي، الذي يُرجَعُ فيه إلى ما أنزل الله على رسله من الآيات البينات، والأحكام الشرعيات، ومن الأوامر والنواهي، ومن التحليلات والتحريمات، ومن المستحبَّات والمكروهات، فعلى الناس هنا أن يخضعوا لحكم الله تعالى وتشريعه، وأن يقولوا عندما يسمعون حكم الله: سمعنا وأطعنا. ولا يجوز لمؤمن أن يسمح لنفسه أن يقف معارضا لحكم الله تعالى، أو متوقِّفًا فيه، أو متشككا في تبنيه. اسمع إلى قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا}[النساء:60 -64]. بيَّنت هذه الآيات موقف المنافقين من حكم الله التشريعي ومحاولة التخلص منه، ولكن الله تعهدهم بمحكم كتابه، وبآياته المستفيضة التي لا محيص لهم عنها. ويقول تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِين} [النور:47 -54]. وبهذا كانت الحاكمية بهذا المعنى: ألا ننازع الله في حكمه الخلقي القدري، ولا في حكمه الأمري التشريعي، لأنه لا حاكم في الأمرين غيره. ( من الطبعة الجديدة لـ” حقيقة التوحيد”للقرضاوي). إنَّ الذي له الحق في التشريع لخلقه هو الله وحده ، فهو الذي خلقهم ورزقهم وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ، فمن حقه وحده أن يكلفهم ويأمرهم وينهاهم، ويحل لهم ويحرم عليهم ؛ لأنه رب الناس ، ملك الناس ، إله الناس ، وليس لأحد غيره من الربوبيَّة والمُلك والألوهيَّة ما له ، حتى يكون له سلطة الحكم والتشريع . إنَّ العالم هو مملكة الله تعالى ، والناس في هذه المملكة عبيده ورعاياه ، وهو سبحانه سيد هذه المملكة وحاكمها ، فله وحده أن يحكم ويشرع ويُحَلِّل ويُحَرِّم ، وعلى الرعية أن يسمعوا ويطيعوا . فمن ادَّعى من رعيَّة هذه المملكة أنَّ لأحد فيها حقَّ الأمر والنهي، والتحليل والتحريم، والحكم والتشريع دون إذن من سيِّد المملكة أو حاكمها ـ فقد جعل من بعض عبيد الملك شريكًا له في المُلك ، منازعًا له في سلطة السيادة ، وفي اختصاصه بالحكم والسلطان . ومن أجل ذلك حكم القرآن الكريم على أهل الكتاب بالشِّرك ، وسمَّاهم مشركين ؛ لأنهم أعطوا أحبارهم ورهبانهم حقَّ التشريع لهم ، فأطاعوهم فيما أحلوا لهم وما حرَّموا عليهم ، وقرن القرآن ذلك بعبادتهم للمسيح ابن مريم ، سـواء بسواء ، قال تعالى :[اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ] {التوبة:31}. هذه الحاكمية التشريعية التي يجب أن تكون لله وحده، وليست لأحد من خَلقه، هي الحاكمية (العليا) و(المطلقة) التي لا يحدها ولا يقيدها شيء، هي من دلائل وحدانية الإلهية. وهذه الحاكمية- بهذا المعنى- لا تنفي أن يكون للبشر قدر من التشريع أذن به الله لهم. إنما هي تمنع أن يكون لهم استقلال بالتشريع غير مأذون به من الله، وذلك مثل التشريع الدِّيني المحض، كالتشريع في أمر العبادات بإنشاء عبادات وشعائر من عند أنفسهم، أو بالزيادة فيما شرع لهم باتِّباع الهوى. أو بالنقص منه كما أو كيفا، أو بالتحويل والتبديل فيه زمانا أو مكانا أو صورة. ومثل ذلك التشريع في أمر الحلال والحرام، كأن يحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل لله، وهو ما اعتبره النبي صلى الله عليه وسلم نوعا من (الربوبية) وفسر به قوله تعالى في شأن أهل الكتاب: ?اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ? (التوبة: 31). وكذلك التشريع فيما يصادم النصوص الصحيحة الصريحة كالقوانين التي تقر المنكرات، أو تشيع الفواحش ما ظهر منها وما بطن، أو تعطل الفرائض المحتَّمة، أو تلغي العقوبات اللازمة، أو تتعدى حدود الله المعلومة. أما فيما عدا ذلك فمن حق المسلمين أن يشرعوا لأنفسهم. وذلك في دائرة ما لا نص فيه أصلا وهو كثير، وهو المسكوت عنه الذي جاء فيه حديث: “وما سكت عنه فهو عفو”، وهو يشمل منطقة فسيحة من حياة الناس. ومثل ذلك ما نص فيه على المبادئ والقواعد العامة دون الأحكام الجزئية والتفصيلية. ومن ثَمَّ يستطيع المسلمون أن يشرعوا لأنفسهم بإذن من دينهم في مناطق واسعة من حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، غير مقيدين إلا بمقاصد الشريعة الكلية، وقواعدها العامة. وكلها تراعي جلب المصالح، ودرء المفاسد، ورعاية حاجات الناس أفرادا وجماعات. وكثير من القوانين التفصيلية المعاصرة لا تتنافى مع الشريعة في مقاصدها الكلية، ولا أحكامها الجزئية، لأنها قامت على جلب المنفعة، ودفع المضرة، ورعاية الأعراف السائدة. وذلك مثل قوانين المرور أو الملاحة أو الطيران، أو العمل والعمال، أو الصحة أو الزراعة، أو غير ذلك مما يدخل في باب السياسة الشرعية، وهو باب واسع . ومن ذلك تقييد المباحات تقييدا جزئيا ومؤقتا، كما منع سيدنا عمر الذبح في بعض الأيام، وكما كره لبعض الصحابة الزواج من غير المسلمات، حتى لا يقتدى بهم الناس، ويكون في ذلك فتنة على المسلمات. وبالمناسبة فإن الحديث عن الحاكمية واختصاص الله تعالى بها ليس من ابتداع سيد قطب، ولا ابتداع أستاذه الفكري أبي الأعلى المودودي، بل هو ما نصّ عليه القرآن الكريم في غير ما آية، كما تقدم في قوله تعالى: (إنِ الحكمُ إلا لله) ، وقوله سبحانه: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخِيَرة من أمرِهم )، ولذلك لم تختلف كتب أصول الفقه، لمختلف المذاهب الإسلامية، في أن “الحاكم” هو الله.وللتفصيل في ذلك موضع آخر بعون الله تعالى. نحن لا نختلف مع الكاتب في خطورة الفكر المتطرف المنحرف، وأن من الواجب أن نسعى بصدق وإخلاص لمعالجة هذه الظاهرة، ولكن العلاج يحتاج إلى موضوعية وإنصاف ونظرة واسعة للأسباب لا أن نقتصر على هذه المعالجة التي يمليها علينا المنصب الذي نكون فيه، أو الوظيفة التي نشغلها، أو الراتب الذي نتقاضاه، أو البلدة التي نقيم فيها .
وكانت تربطني بالكاتب صداقة سابقة، وزيارات متعددة، واشتركت معه في حضور عدد من المؤتمرات العلمية، كما شاركته بالتتلمذ على عدد من المشايخ الفضلاء في سوريا والمغرب.
مررت على مقالته مرورا سريعا، فوجدته يحمّل كل ما وقع ويقع من عنف وإرهاب في المنطقة إلى الإخوان المسلمين بدءا من المؤسس الأستاذ حسن البنا إلى العالم المفكر الأديب سيد قطب،رحمهما الله تعالى.
كنت أحسب أنني سأجد نقدا موضوعيا من رجل أكاديمي مشهور في الأوساط العلمية، ولكن لم أجد شيئا من الموضوعية أو الإنصاف.
نعم قد نقف عند بعض عبارات منتقدة على الأستاذ سيد قطب، وأول من نقده فيها وعلق عليها هم علماء الإخوان، وأشهرهم الشيخ يوسف القرضاوي ، وهو مع نقده لبعض عباراته- التي قد نختلف فيها معه – يجله كل الإجلال، ولا يحمّله مسؤولية الغلاة في التكفير والإرهاب ، بل يشيد بفكره وأسلوبه وينقل عنه في بعض كتبه .
كيف نتعامل مع نصوص العلماء ؟
وقد حدثني الاستاذ محمد قطب رحمه الله تعالى، أنه كان في السجن مع شقيقه سيد، فجاءه رجل فقال له: يا أستاذ، إن الناس فهموا من كلامك التكفير! فقال : لقد حملت بضاعتي إذن على حمار أعرج. أي أنه لا يقول بتكفير المسلمين، ولا يدعو إليه، وإنما الخطأ عند من حمل كلامه، وفسره على غير وجهه. وفي ذلك رد على من اتهمه بالتكفير.
وغنيٌّ عن البيان أن الإخوان المسلمين، وعلى رأسهم الأستاذ حسن البنا، ومن جاء بعده من مفكرين ودعاة، ليسوا معصومين، بل يؤخذ من كلامهم ويردّ.
لكن الكاتب – للأسف- لم يتّسم بالموضوعية والإنصاف، وحسبنا في هذه الكلمات الوقوف عند نقطة أساسية، وهي: حاكمية الله سبحانه التي يعدها الكاتب من أساب التطرف والعنف!!.
هذه الحاكمية لله بالمعنى الذي يتكلم عنه الأستاذ سيد قطب– رحمه الله – من أسس العقيدة الإسلامية.الحكم لله وحده :
ولكن ما معنى أن يكون الحكم لله تبارك وتعالى؟
الحكم الكوني القدري:
من له حق التشريع المطلق ؟
هل للبشر قدر من التشريع ؟
وهذ كله لا يتنافى- كما أوضحت- مع حقّ العلماء، بل واجبهم، في الاجتهاد، لأن كثيرا من النصوص تحتمل الاجتهاد في التعرف إلى معانيها، وفي استنباط أحكام منها لقضايا مستجدّة، بل إن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تحتمل اجتهادا آخر، وهو التأكد من مدى ثبوتها، وهو ما اختص به علماء الحديث.
فليست فكرة الحاكمية بمعنى تحكيم الشريعة من صنع الإخوان ولا نسج خيالهم.. !!
وإذا كان المصطلح – كما يرى الكاتب – حادثا وجديدا، فقد قرر أهل العلم أن المعنى إذا كان صحيحا فلا مشاحَّة في الاصطلاح، فاستحداث مصطلح الحاكمية لا غبار عليه،وليس الإخوان هم من وضع هذا المصطلح على كل حال.
فلا يجوز لنا أن نحمّل مسؤولية جماعة كاملة اجتهاد شخص معيّن – إن ثبت أنه أخطأ فيه -، فضلا عن أن نحمّل شخصاً معيناً التطبيقات الخاطئة لأهل الغلو، فالخوارج مثلاً رفعوا شعار: ” لا حكم إلا لله” فلا نقول أن قوله تعالى: { إن الحكم إلا لله } هي سبب الغلو -حاشا لله- وإنما الفهم الخاطئ للخوارج هو سبب الغلو كما يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه:” كلمة حق أريد بها باطل”.
(المصدر: رابطة العلماء السوريين)